
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الحادي عشر: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ
أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ سَلَفِهِ الْفَلَاسِفَةِ مَعَ قَوْلِهِ بِمَا يُشْبِهُ
طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ اسْتَدَلُّوا عَلَى حُدُوثِ
الْجِسْمِ بِطَرِيقَةِ التَّرْكِيبِ،فَجَعَلَ هُوَ التَّرْكِيبَ دَلِيلًا عَلَى
الْإِمْكَانِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ جَعَلُوا دَلِيلَهُمْ هُوَ دَلِيلَ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [سُورَةِ
الْأَنْعَامِ: ٧٦] وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّ الْأُفُولَ هُوَ الْحَرَكَةُ، فَقَالَ
ابْنُ سِينَا: قَالَ قَوْمٌ إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ الْمَحْسُوسَ مَوْجُودٌ
لِذَاتِهِ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ لَكِنَّكَ إِذَا تَذَكَّرْتَ مَا قِيلَ فِي شَرْطِ
وَاجِبِ الْوُجُودِ لَمْ تَجِدْ هَذَا الْمَحْسُوسَ. وَاجِبًا، وَتَلَوْتَ
قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾، فَإِنَّ الْهُوِىَّ فِي حَظِيرَةِ
الْإِمْكَانِ أُفُولٌ مَا.
وَيُرِيدُ بِالشَّرْطِ
أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، وَأَنَّ الْمُرَكَّبَ مُمْكِنٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،
وَالْمُمْكِنُ آفِلٌ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ أُفُولٌ مَا، وَالْآفِلُ عِنْدَهُمْ
هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَوْجُودًا بِغَيْرِهِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَسْتَدِلُّ
بِإِمْكَانِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَنَقُولُ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ لَمْ
يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَنَجْعَلُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ﴾ أَيْ لَا أُحِبُّ الْمُمْكِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْكِنُ وَاجِبَ
الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَمَعْلُومٌ
أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ،
وَإِنَّمَا الْأُفُولُ هُوَ الْمَغِيبُ، وَالِاحْتِجَابُ لَيْسَ هُوَ
الْإِمْكَانَ، وَلَا الْحَرَكَةَ وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ لَمْ يَحْتَجَّ
بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْكَوَاكِبِ، وَلَا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ،
وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِالْأُفُولِ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِهَا، فَإِنَّ قَوْمَهُ
كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَيَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ: إِنَّهَا هِيَ الَّتِي خَلَقَتِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَاقَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ٧٨] وَقَالَ:
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ
الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي
إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ٧٥ - ٧٧] وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَأْخُذُونَ عِبَارَاتِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عَبَّرُوا
بِهَا عَنْ مَعْنًى، فَيُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ مَعْنًى آخَرَ يُنَاقِضُ دِينَ
الْمُسْلِمِينَ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي
أَقْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا
سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عِنْدَنَا آفِلٌ مُحْدَثٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ،
وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَعَهُ وَاجِبًا بِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا
يَزَالُ.وَإِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَفْعُولَ
لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا، لَا سِيَّمَا الْمَفْعُولُ لِفَاعِلٍ
بِاخْتِيَارِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَفْعَلُ
بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَإِنَّهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ
بِلَا مُرَجِّحٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقُولَ مَعَ هَذَا : إِنَّ مَفْعُولَهُ
قَدِيمٌ رَجَّحَهُ بِلَا مُرَجِّحٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ
بَاطِلٌ، وَقَوْلِي الْآخَرَ إِنْ كَانَ بَاطِلًا فَلَا أَجْمَعُ بَيْنَ
قَوْلَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا، فَقَوْلُ الْحَقِّ لَا يُوجِبُ
عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ الْبَاطِلَ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَاطِلَ،
بَلِ الْبَاطِلُ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحَقَّ، وَهَذَا لَا يَضُرُّ الْحَقَّ،
فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ اللَّازِمُ، فَالْحَقُّ لَازِمٌ
سَوَاءٌ قُدِّرَ وُجُودُ الْبَاطِلِ أَوْ عَدَمُهُ أَمَّا الْبَاطِلُ فَلَا
يَكُونُ لَازِمًا لِلْحَقِّ ; لِأَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَالْبَاطِلُ لَا
يَكُونُ حَقًّا، فَلَا يَلْزَمُ مَنْ قَالَ الْحَقَّ أَنْ يَقُولَ الْبَاطِلَ،
وَهَذَا ظَاهِرٌ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ مَتَى قِيلَ بِجَوَازِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ
بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ أَمْكَنَ أَنْ يَفْعَلَ الْفَاعِلُ الْحَوَادِثَ بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ
يَقُولُهُ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَتَى كَانَ
ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَجِبْ دَوَامُ الْفَاعِلِ فَاعِلًا.
وَأَمْكَنَ حُدُوثُ الزَّمَانِ وَالْمَادَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ
ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ النُّظَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْفَلْسَفَةِ،
وَمَتَى كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بَطَلَ كُلُّ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى قِدَمِ
شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعُلِمَ
أَيْضًا امْتِنَاعُ قِدَمِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إِلَّا إِذَا كَانَ
وَاجِبًا بِنَفْسِهِ، أَوْ كَانَ
الْفَاعِلُ مُسْتَلْزِمًا بِنَفْسِهِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
فَاعِلٌ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ
حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالْحُدُوثِ وَالْقَائِلِينَ بِالْقِدَمِ مُبْطَلَةً
لِهَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ
بِالْقِدَمِ، فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ،
فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمُ الْقَوْلُ بِمَفْعُولٍ قَدِيمٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
تَامَّةٍ مُوجِبَةٍ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ عَنْ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ تَامٍّ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ
بِالْحُدُوثِ، فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ، بَلِ الْفَاعِلَ
مُطْلَقًا لَا يَكُونُ مَفْعُولُهُ إِلَّا حَادِثًا، وَأَنَّ مَفْعُولًا قَدِيمًا
مُمْتَنِعٌ فَصَارَ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُبْطَلَةً لِهَذَا الْقَوْلِ
الَّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ
لِكُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ إِذَا الْتَزَمَتْ فَاسِدَ قَوْلِهَا دُونَ
صَحِيحِهِ، فَإِذَا الْتَزَمَتْ الْقِدَمِيَّةُ جَوَازَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ
بِلَا سَبَبٍ، وَأَنَّ الْأَثَرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُؤَثِّرٍ تَامٍّ، بَلِ
الْقَادِرُ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَالْتَزَمَتْ
الْحُدُوثِيَّةُ أَنَّ الْمَفْعُولَ مُطْلَقًا أَوِ الْمَفْعُولَ بِالْقُدْرَةِ
وَالِاخْتِيَارِ لَمْ يَزَلْ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَعَ فَاعِلِهِ مُقَارِنًا لَهُ
لَزِمَ مِنْ هَذَيْنِ اللَّازِمَيْنِ إِمْكَانُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ قَادِرًا
مُخْتَارًا يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَمَفْعُولُهُ مَعَ هَذَا قَدِيمًا
بِقِدَمِهِ لَكِنْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذَيْنِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ،
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ، فَقَدِ الْتَزَمَ مَلْزُومَيْنِ
بَاطِلَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ بِالْبُرْهَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْعُقَلَاءِ يَرُدُّ
عَلَيْهِ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ، وَلَكِنْ هُوَ يُعَارِضُ كَلَامَ كُلِّ طَائِفَةٍ
بِكَلَامِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، وَغَايَتُهُ فَسَادُ بَعْضِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ
وَفَسَادُ بَعْضِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ
الْجَمْعُ بَيْنَ فَسَادِ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا
الْفَسَادِ وَهَذَا الْفَسَادِ، بَلْ هَذَا يَكُونُ أَبْلَغَ فِي رَدِّ قَوْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلًّا
مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَرَّتْ مِنْ أَحَدِ الْفَسَادَيْنِ، وَظَنَّتِ الْآخَرَ
لَيْسَ بِفَاسِدٍ، وَلَمْ تَهْتَدِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحِ كُلِّهِ
وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفَاسِدِ كُلِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهَا مَا
عَلِمَتْ فَسَادَهُ مَعَ مَا لَمْ تَعْلَمْ فَسَادَهُ، فَيُلْزِمُهَا الْفَاسِدَ
كُلَّهُ وَيُخْرِجُهَا مِنَ الصَّحِيحِ كُلِّهِ، فَإِنَّ غَايَةَ قَوْلِهَا
أَبْلَقُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ،وَالْأَبْلَقُ خَيْرٌ مِنَ
الْأَسْوَدِ فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي قَالَتْ: إِنَّ الْقَادِرَ يُمْكِنُهُ
تَرْجِيحَ أَحَدِ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ إِنَّمَا
قَالَتْهُ لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّ الْقَادِرَ الْفَاعِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
فِعْلُهُ حَادِثًا، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَاعِلًا مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ قَدِيمًا
جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ
نَوْعِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ عَيْنِهِ، بَلِ اعْتَقَدَتْ أَيْضًا أَنَّ حَوَادِثَ
لَا أَوَّلَ لَهَا مُمْتَنِعٌ، فَقَالَتْ حِينَئِذٍ: فَيَمْتَنِعُ دَوَامُ
الْفِعْلِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيَلْزَمُ
تَرْجِيحُ الْقَادِرِ لِأَحَدِ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ ،
لِأَنَّ الْقَادِرِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ وَلَمْ تَزَلْ، وَإِنْ قِيلَ
بِاخْتِصَاصِهَا، أَوْ حُدُوثِهَا لَزِمَ حُدُوثُ الْقَادِرِيَّةِ بِلَا مُحْدِثٍ،
وَتَخْصِيصُهَا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَأَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَانْتَقَلَ الْفِعْلُ مِنْ الِامْتِنَاعِ إِلَى
الْإِمْكَانِ بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ هَذَا الِانْتِقَالَ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ،
فَجَوَازُ كَوْنِهِ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ مَقْدُورَيْهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ وَإِنْ قَالَ الْجُمْهُورُ بِبُطْلَانِهَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ:
أَلْجَأْنَا إِلَيْهَا تِلْكَ الْمَلْزُومَاتِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ظَنِّهِمْ
أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ:
فَقُولُوا مَعَ هَذِهِ اللَّوَازِمِ بِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْمَلْزُومَاتِ،
فَقَالُوا: إِنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ عَلَى الْآخَرِ
بِلَا مُرَجِّحٍ، وَيُحْدِثُ الْحَوَادِثَ بِلَا سَبَبٍ مَعَ أَنَّ الْفَاعِلَ
الْقَادِرَ يُقَارِنُهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ، وَأَنَّهُ لَا أَوَّلَ لِعَيْنِ
الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِاللَّوَازِمِ
الَّتِي يَظْهَرُ بُطْلَانُهَا مَعَ نَفْيِ الْمَلْزُومَاتِ الَّتِي أَوْجَبَتْ
تِلْكَ فِي نَظَرِهِمُ الَّتِي فِيهَا مَا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ، وَفِيهَا مَا
يَخْفَى بُطْلَانُهُ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِاللَّازِمِ الْبَاطِلِ
الَّذِي لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، مَعَ نَفْيِ مَا أَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ مَعَ
أَنَّ فِيهِ حَقًّا، أَوْ فِيهِ حَقًّا وَبَاطِلًا.
وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ
الَّتِي قَالَتْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، فَإِنَّهَا لَمَّا اعْتَقَدَتْ أَنَّ
الْفَاعِلَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْ
يُحْدِثَ حَادِثًا لَا فِي وَقْتٍ، وَيَمْتَنِعَ الْوَقْتُ فِي الْعَدَمِ
الْمَحْضِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ دَوَامِ النَّوْعِ وَدَوَامِ
الْعَيْنِ ظَنَّتْ أَنَّهُ يَلْزَمُ قِدَمُ عَيْنِ الْمَفْعُولِ، فَالْتَزَمَتْ
مَفْعُولًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لِفَاعِلٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا
يُعْقَلُ كَوْنُ الْفَاعِلِ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ مَعَ كَوْنِ مَفْعُولِهِ
قَدِيمًا مُقَارِنًا لَهُ، فَقَالُوا: هُوَ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَا فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ،
وَالْتَزَمُوا مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ مِنْ
مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ مُقَارَنٍ لِفَاعِلِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا حَذَرًا مِنْ
إِثْبَاتِ كَوْنِهِ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.فَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ: فَقُولُوا بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَ قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ
بِلَا مُرَجِّحٍ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْبَاطِلَ كُلَّهُ، وَأَنْ
يَقُولُوا بِاللَّازِمِ الَّذِي يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ بِدُونِ الْمَلْزُومِ
الَّذِي فِيهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ الَّذِي
أَلْجَأَهُمْ إِلَى هَذَا اللَّازِمِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَزَلِيُّ مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ، بَلْ كَانَتْ حَادِثَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، فَيَلْزَمُ أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ خَالِيًا عَنْ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْحَرَّانِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَادَّةِ، وَالْمُدَّةِ، وَالنَّفْسِ، وَالْهَيُولِي، كَمَا يَقُولُهُ دِيمُقْرَاطِيسُ، وَابْنُ زَكَرِيَّا الطَّبِيبُ وَمَنْ. وَافَقَهُمَا، أَوْ بِقَوْلٍ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَوَاهِرَ الْعَالَمِ أَزَلِيَّةٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْمَادَّةِ وَكَانَتْ مُتَحَرِّكَةً عَلَى غَيْرِ انْتِظَامٍ فَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهَا، وَانْتِظَامُهَا، فَحَدَثَ هَذَا الْعَالَمُ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي
غَايَةِ الْفَسَادِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ النَّفْسَ
عَشِقَتِ الْهَيُولِي، فَعَجَزَ الرَّبُّ عَنْ تَخْلِيصِهَا مِنَ الْهَيُولِي
حَتَّى تَذَوقَ وَبَالَ اجْتِمَاعِهَا بِالْهَيُولِي، وَهُمْ قَالُوا هَذَا
فِرَارًا مِنْ حُدُوثِ حَادِثٍ بِلَا سَبَبٍ، وَقَدْ وَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا
مِنْهُ، وَهُوَ حُدُوثُ مَحَبَّةِ النَّفْسِ لِلْهَيُولِي، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا
الْمُوجِبُ لِذَلِكَ؟ فَقَدْ لَزِمَهُمْ حُدُوثُ حَادِثٍ بِلَا سَبَبٍ،
وَلَزِمَهُمْ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ
صُدُورِهَا عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْقَوْلُ بِقُدَمَاءَ مَعَهُ.
فَإِنْ قَالُوا بِوُجُوبِ
وُجُودِهَا لَزِمَ كَوْنُ وَاجِبِ الْوُجُودِ مُسْتَحِيلًا مَوْصُوفًا بِمَا
يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ وَنَقْصَهُ وَإِمْكَانَهُ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
وَاجِبَةً بِأَنْفُسِهَا، بَلْ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لَهَا دُونَ
غَيْرِهَا، وَالْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا، فَيَلْزَمُ مِنْ
ذَلِكَ تَغَيُّرُ مَعْلُولِهَا، وَاسْتِحَالَتُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ بِدُونِ
فِعْلٍ مِنْهَا، وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْلُولِ اللَّازِمِ بِدُونِ تَغَيُّرٍ فِي
الْعِلَّةِ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَعْلُولًا لَهَا، وَإِنْ جَوَّزُوا
ذَلِكَ، فَلْيُجَوِّزُوا كَوْنَ الْعَالَمِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَازِمًا لِذَاتِ
الرَّبِّ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَنْتَقِضُ، وَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ، وَتَنْفَطِرُ،
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ بِدُونِ فِعْلٍ مِنَ الرَّبِّ وَلَا حُدُوثِ شَيْءٍ مِنْهُ
أَصْلًا. بَلْ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ حَادِثٍ فِي الْعَالَمِ بِلَا مُحْدَثٍ.
وَإِنْ قَالُوا: هُوَ بُغْضُ
النَّفْسِ لِلْهَيُولِي كَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ سَبَبَ حُدُوثِهِ
مَحَبَّةُ النَّفْسِ لِلْهَيُولِي، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْدُثَ بِمَحَبَّةِ
النَّفْسِ بِدُونِ اخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى جَازَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِبُغْضِ
النَّفْسِ بِدُونِ اخْتِيَارِ الرَّبِّ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا حُدُوثَ الْعَالَمِ، فَإِنْ كَانُوا يَنْفُونَ الصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدَثٍ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِالصَّانِعِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا إِحْدَاثَهُ لِهَذَا النِّظَامِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ إِنْ قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ يُحَرِّكُهَا قَبْلَ انْتِظَامِهَا، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ يُحَرِّكُهَا قَبْلَ انْتِظَامِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ أَلَّفَهَا، فَهَؤُلَاءِ قَائِلُونَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ، وَقَوْلِهِمْ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ هَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمٍ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ بَعْضَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتُوا قَدِيمًا مُعَيَّنًا غَيْرَ الْأَفْلَاكِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ أَهْلِ الْأَفْلَاكِ حَيْثُ أَثْبَتُوا حَوَادِثَ لَمْ تَزَلْ، وَلَا تَزَالُ إِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَوَادَّ لَمْ تَزَلْ مُتَحَرِّكَةً، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَتْ سَاكِنَةً، ثُمَّ تَحَرَّكَتْ، فَقَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ أَهْلِ الْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ، فَمَا دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ يَأْتِي عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ قَوْلٍ بَاطِلٍ لَهُ دَلَائِلُ خَاصَّةٌ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ.
وَأَيْضًا
فَالْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ ، أَوْ
يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ كَجُمْهُورِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَالَمَ
لَمْ يَخْلُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَمِنَ الِاجْتِمَاعِ
وَالِافْتِرَاقِ، وَهِيَ حَادِثَةٌ، فَالْعَالَمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ
وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النُّظَّارِ،
وَمُقَدِّمَاتُهُ فِيهَا طُولٌ وَنِزَاعٌ، وَقَدْ لَا يَتَقَرَّرُ بَعْضُهَا،
فَلَا نَبْسُطُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذْ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ
مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النُّظَّارِ يَقُولُونَ:
إِنَّ السُّكُونَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَنَقُولُ: إِثْبَاتُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ
بَاطِلٌ، وَالْأَجْسَامُ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ،
وَلَا مِنَ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ، بَلِ الْجِسْمُ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ،
وَأَمَّا كَوْنُ الْأَجْسَامِ كُلِّهَا تَقْبَلُ التَّفْرِيقَ، أَوْ لَا
يَقْبَلُهُ إِلَّا بَعْضُهَا، فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ، وَبِتَقْدِيرِ
أَنْ يَقْبَلَ مَا يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَقْبَلَهُ إِلَى
غَيْرِ غَايَةٍ، بَلْ يَقْبَلُهُ إِلَى غَايَةٍ، وَبَعْدَهَا يَكُونُ الْجِسْمُ
صَغِيرًا لَا يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ الْفِعْلِيَّ، بَلْ يَسْتَحِيلُ إِلَى جِسْمٍ
آخَرَ، كَمَا يُوجَدُ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ إِذَا تَصَغَّرَتْ، فَإِنَّهَا
تَسْتَحِيلُ هَوَاءً مَعَ أَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ،
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ جُزْءٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ
جَانِبٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ تَجْزِئَةٍ وَتَفْرِيقٍ لَا يَتَنَاهَى،
بَلْ تَتَصَغَّرُ الْأَجْسَامُ، ثُمَّ تَسْتَحِيلُ إِذَا تَصَغَّرَتْ، فَهَذَا
الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ دَلِيلُ أُولَئِكَ مَبْنِيًّا عَلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إِثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ، وَأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا، أَوْ إِثْبَاتِ أَنَّ السُّكُونَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَالْبُرْهَانُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ لَمْ يُبْسَطِ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِهِ وَلَا يُحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى طُرُقٍ بَاطِلَةٍ مِثْلِ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِيهَا أَعْلَمَ وَأَعْقَلَ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ، وَأَقْرَبَ إِلَى صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ لَكِنْ بِسَبَبِ مَا غَلِطُوا فِيهِ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَضَمُّوا إِلَيْهِ أُمُورًا أُخْرَى أَبْعَدَ عَنِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مِنْهُ، وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْهُمْ بِبُطْلَانِ مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ، وَخَالَفُوا فِيهِ الْحَقَّ، وَصَارُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِّ مُقَدِّرِينَ أَنَّهُ لَا حَقَّ عِنْدَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَّا مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَاوَرَ بَعْضَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ وَفُسَّاقِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَصَارَ يُورِدُ بَعْضَ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى بُطْلَانِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ مُقَدِّرًا أَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ مَا أُولَئِكَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ هُوَ أَجْهَلُ، وَأَظْلَمُ مِنْهُمْ، كَمَا يَحْتَجُّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْقَدْحِ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَجِدُونَ فِي بَعْضِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ إِمَّا بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ، وَإِمَّا غَيْرِهِ، وَمَا يَجِدُونَهُ مِنَ الظُّلْمِ، أَوِ الْكَذِبِ، أَوِ الشِّرْكِ، فَإِذَا قُوبِلُوا عَلَى وَجْهِ الْإِنْصَافِ وَجَدُوا الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالشِّرْكَ فِيهِمْ أَضْعَافَ مَا يَجِدُونَهُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا بُيِّنَ لَهُمْ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ، وَالْكَذِبِ، وَالشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ مِلَّةٍ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي بَعْضِ أَهْلِهَا نَوْعٌ مِنَ الشَّرِّ لَكِنَّ الشَّرَّ الَّذِي دَخَلَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِمَّا دَخَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْخَيْرَ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ الْخَيْرُ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِي أَهْلِ الْبِدَعِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا
ذَكَرْتُمُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ خَالِيًا
عَنِ الْحَوَادِثِ ثُمَّ تَحْدُثَ فِيهِ، لَكِنْ نَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ لَمْ
يَزَلْ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَوَادِثِ، وَالْقَدِيمُ هُوَ أَصْلُ الْعَالَمِ
كَالْأَفْلَاكِ، وَنَوْعُ الْحَوَادِثِ مِثْلُ جِنْسِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ،
فَأَمَّا أَشْخَاصُ الْحَوَادِثِ، فَإِنَّهَا حَادِثَةٌ بِالِاتِّفَاقِ،
وَحِينَئِذٍ فَالْأَزَلِيُّ مُسْتَلْزِمٌ لِنَوْعِ الْحَوَادِثِ لَا لِحَادِثٍ
مُعَيَّنٍ، فَلَا يَلْزَمُ قِدَمُ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، وَلَا حُدُوثُ
جَمِيعِهَا، بَلْ يَلْزَمُ قِدَمُ نَوْعِهَا وَحُدُوثُ أَعْيَانِهَا، كَمَا
يَقُولُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْكُمْ: إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ
مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَكَيْفَ شَاءَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْفِعْلَ مِنْ
لَوَازِمِ الْحَيَاةِ وَالرَّبَّ لَمْ يَزَلْ حَيًّا، فَلَمْ يَزَلْ فَعَّالًا.
وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ أَئِمَّتِكُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيِّ،
وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ مِثْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَهُمْ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ
عَنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا
الْقَوْلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ
ضَالٌّ، وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ عِنْدَكُمْ هُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ
السُّنَّةِ، وَالْحَدِيثِ، وَهُمْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَقَالَةِ الرَّسُولِ
وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمِنْ أَتْبَعِ النَّاسِ
لَهَا.
وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ
كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إِلَّا بِـ كُنْ، فَلَوْ كَانَتْ
كُنْ مَخْلُوقَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ الْمَانِعُ مِنَ الْخَلْقِ، وَهَذَا
التَّسَلْسُلُ، فَلَوْ كَانَتْ كُنْ مَخْلُوقَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي أَصْلِ
كَوْنِهِ خَالِقًا وَفَاعِلًا فَهُوَ تَسَلْسُلٌ فِي أَصْلِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ
مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
بِخِلَافِ التَّسَلْسُلِ فِي
الْآثَارِ الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِقًا إِلَّا
بِقَوْلِهِ كُنْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مَخْلُوقًا، كَمَا إِذَا قِيلَ:
لَا يَكُونُ خَالِقًا إِلَّا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ
الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ مَخْلُوقَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
الْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ، فَإِنَّهُ لَا
يَكُونُ خَالِقًا إِلَّا بِهِ، فَيَجِبُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى كُلِّ
مَخْلُوقٍ، فَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَلَزِمَ تَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ،
وَهَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ عَقْلِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا قِيلَ:
إِنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا بِكُنْ، وَهَذَا بِكُنْ أُخْرَى، فَإِنَّ هَذَا
يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ أَثَرٍ بَعْدَ أَثَرٍ، وَهَذَا فِي جَوَازِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُقَلَاءِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْكُمْ، ثُمَّ إِنَّ أَسَاطِينَ
الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُجِيزُ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ
إِذَا جَوَّزْتُمْ وُجُودَ حَادِثٍ بَعْدَ حَادِثٍ عَنِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ
الَّذِي هُوَ الرَّبُّ عِنْدَكُمْ، فَكَذَلِكَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي حَوَادِثِ
الْعَالَمِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْفَلَكِ، وَغَيْرِهِ.
قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ
بَاطِلٌ، وَتَشْبِيهٌ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا قَالُوا. هَذَا
قَالُوا: الرَّبُّ نَفْسُهُ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، أَوْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي
صَرِيحِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُقَالُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْأَوَّلِ
وَانْقِضَاؤُهُ شَرْطًا فِي الثَّانِي، كَمَا يَكُونُ وُجُودُ الْوَالِدِ شَرْطًا
فِي وُجُودِ الْوَلَدِ، وَأَنْ يَكُونَ تَمَامُ فَاعِلِيَّةِ الثَّانِي إِنَّمَا
حَصَلَتْ عِنْدَ عَدَمِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ عَدَمُ الْأَوَّلِ إِذَا اشْتُرِطَ
فِي الثَّانِي فَهُوَ مِنْ جِنْسِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ فِي
وُجُودِ الضِّدِّ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ الْفَاعِلَ لِلضِّدِّ الْحَادِثِ لَيْسَ
هُوَ عَدَمَ الْأَوَّلِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُعْدِمَ لِلْأَوَّلِ.
وَإِذَا قِيلَ: فِعْلُهُ لِلثَّانِي
مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْأَوَّلِ كَانَ مِنْ بَابِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الضِّدِّ
لِوُجُودِ ضِدِّهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ إِعْدَامَ الْأَوَّلِ كَانَ
فِعْلُهُ مَشْرُوطًا بِفِعْلِهِ، وَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَأَيْضًا،
فَالْفَاعِلُ عِنْدَ عَدَمِ الضِّدِّ الْمَانِعِ يَتِمُّ كَوْنُهُ مُرِيدًا
قَادِرًا، وَتِلْكَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ، وَهُوَ الْمُقْتَضِي لَهَا إِمَّا
بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا مِنْهُ، فَلَمْ يَحْصُلْ مَوْجُودٌ إِلَّا مِنْهُ
وَعَنْهُ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ ،
فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْأَوَّلَ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ وَلَا فِعْلٌ،
بَلْ هُوَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ بَسِيطَةٌ، وَإِنَّ الْحَوَادِثَ الْمُخْتَلِفَةَ
تَحْدُثُ عَنْهَا دَائِمًا بِلَا أَمْرٍ يَحْدُثُ مِنْهُ، وَهَذَا مُخَالَفَةٌ
لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ سَوَاءٌ سَمُّوهُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ فَاعِلًا
بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ تَغَيُّرَ الْمَعْلُولَاتِ وَاخْتِلَافِهَا بِدُونِ
تَغَيُّرِ الْعِلَّةِ، وَاخْتِلَافِهَا أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ،
وَفِعْلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِأُمُورٍ حَادِثَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدُونِ مَا يَقُومُ
بِهِ مِنَ الْإِرَادَةِ، بَلْ مِنَ الْإِرَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ مُخَالِفٌ
لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ.
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ:
مَبْدَأُ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا حَرَكَةُ الْفَلَكِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أُمُورٌ
حَادِثَةٌ تُوجِبُ حَرَكَتَهُ مَعَ أَنَّ حَرَكَاتِ الْفَلَكِ تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِلَا
أَسْبَابٍ حَادِثَةٍ تُحْدِثُهَا، وَحَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ هِيَ الْأَسْبَابُ
لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُحْدِثٌ كَانَ
حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ، وَإِنْ
كَانَ لِلْفَلَكِ عِنْدَهُمْ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ فِي جَمِيعِ
الْحَوَادِثِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي فِعْلِ الْحَيَوَانِ.
وَلِهَذَا اضْطُرَّ ابْنُ
سِينَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى جَعْلِ الْحَرَكَةِ لَيْسَتْ شَيْئًا يَحْدُثُ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، كَمَا
قَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَهُ، وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ أَنَّهُ يَحْدُثُ عَنِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ حَادِثٌ
بَعْدَ حَادِثٍ، فَخَالَفَ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَالْحِسِّ فِي حُدُوثِ الْحَرَكَةِ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لِيَسْلَمَ لَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ رَبَّ
الْعَالَمِينَ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ،
وَقَدِ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ
يوم
الأحد 9 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون