
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الثالث والعشرون: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَالتَّسَلْسُلُ نَوْعَانِ: تَسَلْسُلٌ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ كَالتَّسَلْسُلِ فِي الْعِلَلِ وَالْمَعْلُولَاتِ، وَهُوَ التَّسَلْسُلُ فِي الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولَاتِ، فَهَذَا مُمْتَنَعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَسَلْسُلُ الْفَاعِلِينَ وَالْخَالِقِينَ وَالْمُحْدِثِينَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمُحْدَثُ لَهُ مُحْدِثٌ، وَلِلْمُحْدِثِ مُحْدِثٌ آخَرُ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى امْتِنَاعِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحْدِثٍ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ مَعْدُومٌ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ، فَإِذَا قُدِّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَتَنَاهَى، لَمْ تَصِرِ الْجُمْلَةُ مَوْجُودَةً وَاجِبَةً بِنَفْسِهَا، فَإِنَّ انْضِمَامَ الْمُحْدِثِ إِلَى الْمُحْدِثِ وَالْمَعْدُومِ إِلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُمْكِنِ إِلَى الْمُمْكِنِ، لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُفْتَقِرًا إِلَى الْفَاعِلِ لَهُ، بَلْ كَثْرَةُ ذَلِكَ تَزِيدُ حَاجَتُهَا وَافْتِقَارُهَا إِلَى الْفَاعِلِ، وَافْتِقَارُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُمْكِنِينَ أَعْظَمُ مِنَ افْتِقَارِ أَحَدِهِمَا، كَمَا أَنَّ عَدَمَ الِاثْنَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا. فَالتَّسَلْسُلُ فِي هَذَا وَالْكَثْرَةُ لَا تُخْرِجُهُ عَنِ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ، بَلْ تَزِيدُهُ حَاجَةً وَافْتِقَارًا.
فَلَوْ قُدِّرَ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَقُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ مَعْلُولٌ لِبَعْضٍ أَوْ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِفَاعِلٍ صَانِعٍ لَهَا خَارِجٍ عَنْ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلِافْتِقَارِ وَالِاحْتِيَاجِ، فَلَا يَكُونُ فَاعِلُهَا مَعْدُومًا وَلَا مُحْدَثًا وَلَا مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ قَدِيمًا لَيْسَ بِمُحْدَثٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَنْ يَخْلُقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ.
وَأَمَّا التَّسَلْسُلُ فِي الْآثَارِ كَوُجُودِ حَادِثٍ بَعْدَ حَادِثٍ، فَهَذَا فِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ: إِمَّا مَنْعُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلٍ جَهْمٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ. وَإِمَّا مَنْعُهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ، كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَإِمَّا تَجْوِيزُهُ فِيهِمَا، كَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَكَذَلِكَ الدَّوْرُ نَوْعَانِ: دَوْرٌ قَبْلِيٌّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا، وَلَا هَذَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَأَمَّا الدَّوْرُ الْمَعِيُّ الِاقْتِرَانِيُّ مِثْلُ الْمُتَلَازِمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَكُونَانِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَعُلُوُّ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مَعَ سُفُولِ الْآخَرِ، وَتَيَامُنِ هَذَا عَنْ ذَاكَ مَعَ تَيَاسُرِ الْآخَرِ عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَلَازِمَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا مَعًا، فَهَذَا الدَّوْرُ مُمْكِنٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَاعِلًا لِلْآخَرِ وَلَا تَمَامَ لِلْفَاعِلِ، بَلْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهُمَا غَيْرَهُمَا، جَازَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فَاعِلًا لِلْآخَرِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ كَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا، صَارَ مِنَ الدَّوْرِ الْمُمْتَنَعِ.
وَلِهَذَا امْتَنَعَ رَبَّانِ مُسْتَقِلَّانِ أَوْ مُتَعَاوِنَانِ. أَمَّا الْمُسْتَقِلَّانِ، فَلِأَنَّ اسْتِقْلَالَ أَحَدِهِمَا بِالْعَالَمِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ مُسْتَقِلًّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا فَعَلَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.
وَأَمَّا الْمُتَعَاوِنَانِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ حَالَ كَوْنِ الْآخَرِ مُسْتَقِلًّا بِهِ، لَزِمَ الْقُدْرَةُ عَلَى اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنَعٌ فَإِنَّهُ حَالَ قُدْرَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ يُمْتَنَعُ قُدْرَةُ الْآخَرِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يَكُونَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَهُ مَرَّتَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. لَكِنَّ الْمُمْكِنَ أَنْ يُقَدَّرَ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْآخَرُ فَاعِلًا وَبِالْعَكْسِ، فَقُدْرَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ فِعْلِ الْآخَرِ مَعَهُ، فَفِي حَالِ فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْتَنَعُ قُدْرَةُ الْآخَرِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُتَعَاوِنَيْنِ لَا يَقْدِرَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، كَمَا هُوَ الْمُمْكِنُ الْمَوْجُودُ فِي الْمُتَعَاوِنَيْنِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، كَانَ هَذَا بَاطِلًا أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمَا إِنْ كَانَا قَادِرَيْنِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، أَمْكَنَ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا مَقْدُورَهُ وَهَذَا مَقْدُورَهُ، فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ أَحَدِهِمَا مَشْرُوطَةً بِتَمْكِينٍ الْآخَرِ لَهُ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَيْضًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا ضِدَّ مُرَادِ الْآخَرِ، فَيُرِيدُ هَذَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَهَذَا تَسْكِينَهُ، وَاجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ مُمْتَنَعٌ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَحَدُهُمَا إِرَادَةَ الْفِعْلِ إِلَّا بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الْآخَرِ لَهُ، كَانَ عَاجِزًا وَحْدَهُ، وَلَمْ يَصِرْ قَادِرًا إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الْآخَرِ وَكَذَا إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا بِمُعَاوَنَةِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، أَوْ قِيلَ: يُمْكِنُ كُلٌّ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالَ بِشَرْطِ تَخْلِيَةِ الْآخَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ، فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِإِقْدَارِ الْآخَرِ لَهُ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّوْرِ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ فِي الْفَاعِلِينَ وَالْعِلَلِ الْفَاعِلَةِ. فَإِنَّ مَا بِهِ يَتِمُّ كَوْنُ الْفَاعِلِ فَاعِلًا يُمْتَنَعُ فِيهِ الدَّوْرُ، كَمَا يُمْتَنَعُ فِي ذَاتِ الْفَاعِلِ، وَالْقُدْرَةُ شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ الْفَاعِلُ فَاعِلًا إِلَّا بِالْقُدْرَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قُدْرَةُ هَذَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِقُدْرَةِ ذَاكَ، وَقُدْرَةُ ذَاكَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِقُدْرَةِ هَذَا كَانَ هَذَا دَوْرًا مُمْتَنَعًا.
كَمَا أَنَّ ذَاتَ ذَاكَ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِهَذَا، وَذَاتَ هَذَا لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِذَاتِ ذَاكَ كَانَ هَذَا دَوْرًا مُمْتَنَعًا، إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُوَ الْفَاعِلُ لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُلَازِمًا لَهُ أَوْ شَرْطًا فِيهِ وَالْفَاعِلُ غَيْرَهُمَا، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ الَّذِي يُرِيدُ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُرِيدَ الضِّدَّ الْآخَرَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ حَتَّى يُعِينَهُ الْآخَرُ عَلَى الْقُدْرَةِ، أَوْ حَتَّى يُخَلِّيَهُ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ وَحْدَهُ قَادِرًا.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي التَّسَلْسُلِ وَالدَّوْرِ كَثِيرًا مَا يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكَلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يُذْكَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ لَا يَهْتَدِي لِلْفُرُوقِ الثَّابِتَةِ بَيْنَ الْأُمُورِ الْمُتَشَابِهَةِ، حَتَّى يَظُنَّ فِيمَا هُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا صَحِيحًا، أَوْ يَظُنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا، أَوْ يَحَارُ وَيَقِفُ وَيَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْمَعُ كَلَامًا طَوِيلًا مُشْكِلًا لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَتُهُ، نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهًا لَطِيفًا؛ إِذْ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِهِ.
وَالنَّاسُ لِأَجْلِ هَذَا دَخَلُوا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَالَّذِينَ قَالُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ التَّسَلْسُلَ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَالْتَزَمُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا مُتَصَرِّفًا بِنَفْسِهِ حَتَّى أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَجَعَلُوا خَلْقَ كَلَامِهِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا طَالَبَهُمُ النَّاسُ بِأَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَقَعُوا فِي الْمُكَابَرَةِ، وَقَالُوا: يُمْكِنُ الْقَادِرُ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ، كَمَا فِي الْجَائِعِ مَعَ الرَّغِيفَيْنِ، وَالْهَارِبِ مَعَ الطَّرِيقَيْنِ.
وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ قَالُوا: نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ امْتَنَعَ الرُّجْحَانُ، وَإِلَّا فَمَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُمْتَنَعُ الرُّجْحَانُ.
وَالْفَلَاسِفَةُ جَعَلُوا هَذَا حُجَّةً فِي قِدَمِ الْعَالَمِ، فَقَالُوا: الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ مُمْتَنَعٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا صَادِرًا عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ.
وَكَانُوا أَضَلَّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِثْلَ كَوْنِ قَوْلِهِمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ لَا فَاعِلَ لَهَا، فَإِنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْإِحْدَاثِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَالَمَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ مَشْهُودَةٌ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً لَهُ أَوْ حَادِثَةً فِيهِ، وَالْمُوجِبُ بِالذَّاتِ الْمُسْتَلْزِمُ لِمَعْلُولِهِ لَا يَحْدُثُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ فَاعِلٌ بِحَالٍ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى كَمَا يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ حَادِثًا.
وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَّا حَادِثًا مُعَيَّنًا، إِذْ كُلُّ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِعَدَمِهِ، وَإِلَّا فَالْفَاعِلُ إِنْ قُدِّرَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ، لَزِمَهُ مَفْعُولُهُ وَلَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ شَيْءٌ، هُوَ مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ. وَإِنْ قُدِّرَ غَيْرُ مُوجِبٍ بِذَاتِهِ، لَمْ يُقَارِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَفْعُولَاتِ وَإِنْ كَانَ دَائِمَ الْفِعْلِ إِذْ كَانَ نَوْعُ الْفِعْلِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ وَالْمَفْعُولَاتُ الْمُعَيَّنَةُ فَلَيْسَتْ لَازِمَةً لِلذَّاتِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهَا مُعَلَّقٌ بِمَا قَبْلَهُ؛ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْحَوَادِثِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. فَالْفِعْلُ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا يُمْتَنَعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ أَجْزَائِهِ أَزَلِيًّا، بَلْ يُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا قَدِيمًا، فَهَذَا أَوَّلًا مُمْتَنَعٌ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ الْمُعَيَّنَ الْمُقَارِنَ لِلْفَاعِلِ مُمْتَنَعٌ، فَلَا يَحْدُثُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْقَدِيمَ إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فِعْلٌ تَامٌّ لَزِمَهُ مَفْعُولُهُ.
وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا نِزَاعَ النَّاسِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ هُنَا التَّنْبِيهَ عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ هَذَا الْمُبْتَدِعَ أَخَذَ يُشَنِّعُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَذَكَرَ مَسَائِلَ لَا يَذْكُرُ حَقِيقَتَهَا وَلَا أَدِلَّتَهَا، وَيَنْقُلُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْفَاسِدِ.
وَمَا يَنْقُلُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ أَوْ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَمَا قُدِّرَ أَنَّهُ صَدَقَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَقَوْلُهُمْ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ. فَإِنَّ غَالِبَ شَنَاعَتِهِ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَيَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ مَنْ قَدْ وَافَقَهُمْ أَحْيَانًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا هُوَ ضَعِيفٌ، فَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّعِيفِ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ أَصْلُ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَبَعْضُ ذَلِكَ أَخْطَئُوا فِيهِ لِإِفْرَاطِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْخَطَأِ، فَقَابَلُوهُمْ مُقَابَلَةً انْحَرَفُوا فِيهَا، كَالْجَيْشِ الَّذِي يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ فَرُبَّمَا حَصَلَ مِنْهُ إِفْرَاطٌ وَعُدْوَانٌ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ هَؤُلَاءِ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ عُمْدَتَكُمْ، اسْتَطَالَ عَلَيْكُمُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ، كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ مُنَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ لَا مُسْتَلْزِمَ لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمًا لِحُدُوثِ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ أَحْدَثَ شَيْئًا. فَإِذَا جَوَّزْنَا تَرْجِيحَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ، انْسَدَّ طَرِيقُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ الَّذِي سَلَكْتُمُوهُ.
وَقَالُوا أَيْضًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ: أَنْتُمْ مَعَ هَذَا عَلَّلْتُمْ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلَلٍ حَادِثَةٍ. فَيُقَالُ لَكُمْ: هَلْ تُوجِبُونَ لِلْحَوَادِثِ سَبَبًا حَادِثًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، لَزِمَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ، وَبَطَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ.
وَإِنْ لَمْ تُوجِبُوا ذَلِكَ، قِيلَ لَكُمْ: وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَهَا، فَإِنَّ الْمَعْقُولَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُحْدِثَ لَا بُدَّ لِفِعْلِهِ مِنْ سَبَبٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَايَةٍ. فَإِذَا قُلْتُمْ: لَا سَبَبَ لِإِحْدَاثِهِ. قِيلَ لَكُمْ: وَلَا غَايَةَ مَطْلُوبَةٌ لَهُ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يُعْقَلُ فَاعِلٌ لَا يُرِيدُ حِكْمَةً إِلَّا وَهُوَ عَابِثٌ قِيلَ لَكُمْ: وَلَا نَعْقِلُ فَاعِلًا يُحْدِثُ شَيْئًا بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ أَصْلًا، بَلْ هَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فِي الْعَقْلِ مِنْ ذَاكَ، فَلِمَاذَا أَثْبَتُّمُ الْغَايَةَ وَنَفَيْتُمُ السَّبَبَ الْحَادِثَ؟
وَقِيلَ لَكُمْ أَيْضًا: الَّذِي يُعْقَلُ مِنَ الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَ لِغَايَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا فَاعِلٌ يَفْعَلُ لِغَايَةٍ تَعُودُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلُ الشِّيعَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ يُقَالُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَفْعَلُ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ بِلَا عِلَّةٍ ، خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ هَذَا سَلِمَ مِنَ التَّسَلْسُلِ، وَسَلِمَ مِنْ كَوْنِهِ يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ. وَالْمُعْتَزِلَةُ تُسَلِّمُ لَهُ امْتِنَاعَ التَّسَلْسُلِ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَذَا الْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَذَاكَ سَلِمَ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَمَّا سُئِلْتُ عَنْهَا وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنْ أَقْوَالِ الشِّيعَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ ضَعِيفًا، فَقَوْلُ الشِّيعَةِ أَضْعَفُ مِنْهُ.
فَصْلٌ قول الرافضي بأن أهل السنة جَوَّزُوا على الله فِعْلَ الْقَبِيحِ وَالْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبِ والرد عليه
فَصْلٌ» وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ «وَجَوَّزُوا عَلَيْهِ فِعْلَ الْقَبِيحِ وَالْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبِ».
فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ قَبِيحًا أَوْ يُخِلُّ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ، يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا يُوجِبُونَ عَلَى الْعِبَادِ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ مَا يُحَرِّمُونَهُ عَلَى الْعِبَادِ، وَيَضَعُونَ لَهُ شَرِيعَةً بِقِيَاسِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، فَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ فِي أَفْعَالِهِ، كَمَا لَا يُقَاسُ بِهِمْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ مَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِنَا وَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَا حَرُمَ عَلَى أَحَدِنَا حَرُمَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَا قَبُحَ مِنَّا قَبُحَ مِنَ اللَّهِ، وَلَا مَا حَسُنَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَسُنَ مِنْ أَحَدِنَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يُوجِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمَ عَلَيْهِ شَيْئًا.
فَهَذَا أَصْلُ قَوْلِهِمُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا وَعَدَ عِبَادَهُ بِشَيْءٍ كَانَ وُقُوعُهُ وَاجِبًا بِحُكْمِ وَعْدِهِ، فَإِنَّهُ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ الَّذِي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ وَلَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، بَلْ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، كَمَا أَخْبَرَ.
لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِفِعْلِهِ، وَيَعْلَمُونَ قُبْحَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُعْلَمُ بِهِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ، أَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَلِأَنَّ الْقَبِيحَ مِنْهُ مُمْتَنَعٌ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَلِأَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُنَازِعُونَ فِي الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ إِذَا فُسِّرَ بِمَعْنَى الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي أَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنَازِعُونَ أَوْ لَا يُنَازِعُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّهُ إِذَا عُنِيَ بِهِ كَوْنُ الشَّيْءِ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ قَدْ يُعْلَمُ بِهِ حُسْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطَّوَائِفِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَأَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ، وَأَبِي الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَعَدُّوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي السُّنَّةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ فِي شَرْحِ قَصِيدَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي السُّنَّةِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ الرَّازِيُّ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ دُونَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ تَنَازَعَ أَئِمَّةُ الطَّوَائِفِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، فَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ: إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، مِثْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ، وَأَبِي الْخَطَّابِ.
وَقَالَتْ طَوَائِفُ: إِنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُلْوَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحَّانِ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَإِلَّا فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ حُكْمٌ امْتَنَعَ أَنْ يَصِفَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ بِحَظْرٍ أَوْ إِبَاحَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْجَزَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَنَازَعُوا هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ إِلَّا إِخْبَارُهُ بِوُقُوعِهِ، وَلَا لِلتَّحْرِيمِ إِلَّا إِخْبَارُهُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُطْلِقُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: ٥٤] وَقَوْلِهِ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سُورَةُ الرُّومِ: ٤٧] وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا».
وَأَمَّا أَنَّ الْعِبَادَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ فَمُمْتَنَعٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلِّهِمْ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ يُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِالسَّمْعِ، وَهَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مَعْرُوفَةً لِأَهْلِ السُّنَّةِ، بَلْ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ امْتَنَعَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مُخِلًّا بِوَاجِبٍ أَوْ فَاعِلًا لِقَبِيحٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَفْعَلُ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يُخِلُّ بِوَاجِبٍ أَوْ يَفْعَلُ قَبِيحًا، لَكِنَّ هَذَا الْمُبْتَدِعَ سَلَكَ مَسْلَكَ أَمْثَالِهِ فَحَكَى عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْقَبِيحِ.
وَهَذَا حَكَاهُ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَهُ أَنْ يُخِلَّ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُخِلُّ بِالْوَاجِبِ، أَيْ مَا هُوَ عِنْدِي وَاجِبٌ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ جَوَّزُوا عَلَيْهِ فِعْلَ الْقَبِيحِ، أَيْ: فِعْلَ مَا هُوَ قَبِيحٌ عِنْدَهُمْ أَوْ فِعْلَ مَا هُوَ قَبِيحٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَهَذَا نَقْلٌ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ وَأَيْضًا، فَأَهْلُ السُّنَّةِ يُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ الْهُدَى بِفَضْلٍ مِنْهُ. وَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بِكُلِّ عَبْدٍ مَا يَظُنُّونَهُ هُمْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ضِدُّ ذَلِكَ، فَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عُلِمَ وُجُوبُهَا بِشَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ، ثُمَّ يَحْكُونَ عَنْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُخِلُّ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا تَلْبِيسٌ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ وَتَحْرِيفٌ لَهُ.
وَأَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فِي الْأَفْعَالِ، فَيَجْعَلُونَ مَا حَسُنَ مِنْهُ حَسُنَ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَا قَبُحَ مِنَ الْعَبْدِ قَبُحَ مِنْهُ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ .
فَصْلٌ الرد على قول الرافضي إن الله لا يفعل لغرض ولا حكمة
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِغَرَضٍ، بَلْ كُلُّ أَفْعَالِهِ لَا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَلَا لِحِكْمَةِ أَلْبَتَّةَ».فَيُقَالُ لَهُ:
أَمَّا تَعْلِيلُ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ بِالْحِكْمَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَالنِّزَاعُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ التَّعْلِيلُ. وَأَمَّا فِي الْأُصُولِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِالتَّعْلِيلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَاهُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ.
وَأَمَّا لَفْظُ الْغَرَضِ فَالْمُعْتَزِلَةُ تُصَرِّحُ، بِهِ وَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم . وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَنَحْوُهُمْ فَهَذَا اللَّفْظُ يُشْعِرُ عِنْدَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّقْصِ: إِمَّا ظُلْمٌ وَإِمَّا حَاجَةٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا، أَوْ فَعَلَ هَذَا لِغَرَضِهِ، أَرَادُوا أَنَّهُ فَعَلَهُ لِهَوَاهُ وَمُرَادِهِ الْمَذْمُومِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. فَعَبَّرَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْغَرَضِ أَيْضًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ يَفْعَلُ لِغَرَضٍ، كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إِنَّهُ يَفْعَلُ الظُّلْمَ وَالْعَبَثَ» .
فَلَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا هُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ وَلَا عَبَثٌ مِنْهُ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
بَلِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ .
يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي هِيَ ظُلْمٌ مِنْ فَاعِلِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ظُلْمًا مِنْ خَالِقِهَا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا خَلَقَ فِعْلَ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ صَوْمٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَائِمًا، وَإِذَا خَلَقَ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ طَوَافٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ طَائِفًا، وَإِذَا خَلَقَ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاكِعًا وَلَا سَاجِدًا ، وَإِذَا خَلَقَ جُوعَهُ وَعَطَشَهُ لَمْ يَكُنْ جَائِعًا وَلَا عَطْشَانًا؛ فَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِي مَحَلٍّ صِفَةً أَوْ فِعْلًا لَمْ يَتَّصِفْ هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَلَا ذَلِكَ الْفِعْلِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَفَ بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَعْرَاضِ.
وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ زَلَّتْ فِيهِ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إِلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ إِلَّا مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَلَا فيَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ لَا فِعْلٌ وَلَا قَوْلٌ، وَجَعَلُوا كَلَامَهُ الَّذِي يُكَلِّمُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَعِبَادَهُ، وَالَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى، وَالَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ، هُوَ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: الصِّفَةُ إِذَا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا خَلَقَ حَرَكَةً فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَحَرِّكُ بِهَا هُوَ الْخَالِقُ لَهَا. وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ لَوْنًا أَوْ رِيحًا أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً فِي مَحَلٍّ، كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَلَوِّنُ بِذَلِكَ اللَّوْنِ، الْمُتَرَوِّحُ بِتِلْكَ الرِّيحِ، الْعَالِمُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ، الْقَادِرُ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ. فَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي مَحَلٍّ، كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا لِخَالِقِهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَهُوَ قَوْلُهُ ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ [سُورَةُ طه: ١٤] كَلَامَ الشَّجَرَةِ لَا كَلَامَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا.
وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَتْبَاعُهُمُ الشِّيعَةُ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَفْعَالِ، فَقَالَتْ: كَمَا أَنَّهُ عَادِلٌ مُحْسِنٌ بِعَدْلٍ وَإِحْسَانٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ. وَكَانَ هَذَا حُجَّةً عَلَى مَنْ سَلَّمَ الْأَفْعَالَ لَهُمْ كَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ، بَلْ يَقُولُ: الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ لَا غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يَقُولُونَ: الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ عَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي كِتَابِ التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَابْنِ شَاقْلَا، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ ابْنِهِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْقَوْلَ الْآخَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَنَحْوِهِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِعْلٌ لِلَّهِ تَعَالَى إِذْ كَانَ فِعْلُهُ عِنْدَهُ هُوَ مَفْعُولُهُ، فَجَعَلَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِعْلًا لِلَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: هِيَ فِعْلُهُمْ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، بَلْ قَالَ: هِيَ كَسْبُهُمْ. وَفَسَّرَ الْكَسْبَ بِأَنَّهُ مَا يَحْصُلُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْمُحْدِثَةِ مَقْرُونًا بِهِ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ طَعَنُوا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَقَالُوا: عَجَائِبُ الْكَلَامِ ثَلَاثَةٌ: طَفْرَةُ النَّظَّامِ، وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ، وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ. وَأُنْشِدَ فِي ذَلِكَ:
مِمَّا يُقَالُ وَلَا حَقِيقَةَ تَحْتَهُ ... مَعْقُولَةٌ تَدْنُو إِلَى الْأَفْهَامِ
الْكَسْبُ عِنْدَ الْأَشْعَرِي وَالْحَالُ عِنْدَ الْبَهْشَمِي وَطَفْرَةُ النَّظَّامِ.
وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِعْلٌ لَهُمْ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلْأَشْعَرِيِّ. وَيَقُولُ جُمْهُورُهُمُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَمُفْعُولَةٌ لَهُ، لَيْسَتْ هِيَ نَفْسُ فِعْلِهِ وَخَلْقِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ.
فَهَذِهِ الشَّنَاعَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا هَؤُلَاءِ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تُرَدُّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
فَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَفْعَلُ الظُّلْمَ وَالْعَبَثَ، إِنْ أَرَادَ مَا هُوَ مِنْهُ ظُلْمٌ وَعَبَثٌ فَهَذَا مِنْهُ فِرْيَةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ قَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ فَهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ لَهُ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَلَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الظُّلْمِ نِزَاعٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَإِنْ أَرَادَ مَا هُوَ ظُلْمٌ وَعَبَثٌ مِنَ الْعَبْدِ، فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ اللَّهِ يَخْلُقُهُ، وَجُمْهُورُهُمْ لَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الظُّلْمَ وَالْعَبَثَ فِعْلُ اللَّهُ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِعْلُ الْعَبْدِ لَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، كَمَا أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ سَمْعَ الْحَقِّ وَلَا بَصَرَهُ وَلَا قُدْرَتَهُ.
يوم الأحد 23 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون