2008/04/19
تنبيه ذوي الرشاد على أن التحريش مبدأ الفساد

 [تنبيه ذوي الرشاد على أن التحريش مبدأ الفساد(159)]

خطبة جمعة: (12/ربيع الثاني/1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

==================================

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران:138], ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النساء:26]، ومما بينه لنا عداوة الشيطان لنا ولسائر المكلفين، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[فاطر:6], ومن عداوته خطواته، فإن له خطوات يسيرها في احتناك هذه البشرية إلى النار، قال الله عز وجل محذراً من خطوات الشيطان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[النور:21], فمن زكاه الله عز وجل جنبه متابعة خطوات الشيطان، من عداوة الشيطان، عمله في هذا الإنسان، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾[القصص:15], عداوته بينة، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾[المائدة:90-91], وقال سبحانه وتعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾[النساء:118-119].

ومن عداوته فتنته على بني آدم، ففتنته فتنة عظيمة، ابتلى الله البشرية به وبفتنته: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[البقرة:220], ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾[محمد:4], ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾[محمد:31], هذه بلوى ابتلى الله العباد بهذا الشيطان، ففتنته عظيمة، حذرنا الله عز وجل منها ونبهنا على شدتها وعظمها: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:27-28], فتنة الشيطان من أول وجود الإنسان: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[الأعراف:21-22] الآيات.

ألا وإن من أعظم فتنته في بني آدم لهي فتنة التحريش بينهم، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ما يدل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يضع إبليس عرشه على الماء, -وفي لفظ-: على البحر، ثم يبعث سراياه، فأعظمهم فتنة أقربهم منه منزلة، فيأتي أحدهم، فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: لم تصنع شيئاً، ويأتي الآخر فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: لم تصنع شيئاً، حتى يأتي أحدهم فيقول: لم أزل بفلان حتى فارق امرأته, -مازال بين رجل وامرأته حتى فارق امرأته- فيقول: نعم أنت، ويضع التاج عليه» يتوجه، هذا هو سعيه، سعي الشيطان، ومن أعظم سعيه هو التحريش، كما في حديث جابر الآخر عند الإمام مسلم رحمه الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش», أي: لا يزال ساعياً في التحريش جاداً في التحريش، لا يمكن أن يعبده المصلون جميعاً في جزيرة العرب، فإن جزيرة العرب قد تمكن فيها دين الله، وقد تمكنت فيها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمكن فيها التوحيد؛ فلا يمكن اجتماعهم على عبادة الشيطان، وعلى الشرك بالله عز وجل، وإن كان هناك من يوجد من المشركين، ولا يعني هذا الحديث أنه لا يوجد شرك في جزيرة العرب أبداً، ولكن لا يجمعون على عبادته وعلى الشرك بالله عز وجل، ومادام لم يتمكن منهم جميعاً في عبادته، فإنه لا يكاد يسلم أحد من تحريشه، إلا من عصمه الله عز وجل، أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش.

فدل هذا أن التحريش مسلك شيطاني، وليس مسلك نبوياً ولا قرآني، التحريش بين عباد الله المؤمنين مسلك شيطاني، التحريش يعتبر خيانة من الخيانات، بسببها توعد الله امرأة نوح وامرأة لوط، قال عز وجل: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾[التحريم:10], هذه الخيانة المذكورة في هذه الآية ليست خيانة فاحشة أبداً، كما أجمع المسلمون على ذلك: ﴿الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾[النور:26].. الآية, إلى قوله, ﴿أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾[النور:26], أي من هذا الجانب لا يمكن خيانة امرأة نبي جانب الفاحشة، ولكن الخيانة التي وقعت فيها امرأة نوح وامرأة لوط هي التحريش فيما إذا قدم أناس على لوط وإذا بامرأته تدلهم عليهم، أو أنها تتمالأ مع قومها على ذلك النبي وتحرشهم عليه، هذا مذكور في كتب التفسير بمعناه ولفظه، فدل هذا على أن هذا المسلك مسلك التحريش بين المؤمنين، الذي هو قديم من الشيطان، وقديم من زمن وجود الإنسان، أنه خيانة، وأنه يسبب القطع، ويسبب العض ويسبب الفرقة، أشد مما يسببه السحر ربما، فقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إلا أنبأكم ما العضه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: النميمة القالة بين الناس», قال أهل العلم: العضه: هو القطع، فهذا يسبب القطع، وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الوعيد الذي يترتب على هذا الإفساد، وهو إفساد التحريش بالنميمة أو بغيرها: «مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, -أي: في كبير اجتنابه- أما إنهما لكبير, -أي: كبير إثمه-, أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله, -أي: يتساهل في أمر البول حتى يتساقط على بعض جسمه-، ثم أجذ جريدتين فشقهما ووضع على قبر كل منهما، قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا», هذان رجلان من المسلمين، ومع ذلك بسبب هذا الإثم والتحريش استحقا هذا العذاب في القبر, ولو لم يكونا من المسلمين ما شفع فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجريدتين: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾[غافر:18].

التحريش من شأن ذوي النفاق، فهو سعيهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم : ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾[التوبة:47], قال بعض المفسرين: خبالاً أي فساداً ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾[التوبة:47], أي أسرعوا في أوساطكم ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾[التوبة:47], ينقلون الكلام من هذا إلى هذا، ومن هذا إلى هذا لقصد الإفساد، فالتحريش فساد في الأرض، والله عز وجل لا يحب الفساد، وقد جاء من حديث ابن عباس من طريق أبي يحيى القتات وفيه ضعف، وله شواهد ذكره الترمذي عن جابر بن عبد الله وطلحة وأبي سعيد وعكراش: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن التحريش بين البهائم», ولا شك أنه داخل تحت المنهيات؛ لأن البهائم تتضرر بالتحريش، وثبت عن طاوس بن كيسان رحمه الله أنه قال: لا يحل لأحد أن يحرش بين فحلين ديكين فما فوقهما, حتى لو بين ديكين، فإن هذا التحريش يفسد في الأرض، يضر بالعباد ويضر بالبلاد، وقد ثبت من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بخير من عمل الصلاة والصدقة والصيام أو بأفضل من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين, فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر، لكنها حالقة الدين»، دل هذا على أن ما يسبب الفساد في الأرض سواء كان تحريشاً بغيبة أو نميمة أو كان بكذب أو بغيره، فإن هذا من فساد الدنيا والدين، والله لا يحب الفساد، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة:204-205], والله عز وجل لا يحب المفسدين، قال الله سبحانه في خطابه لقارون: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[القصص:77], وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف:86], يذكرهم بعواقب المفسدين، أنها عواقب نقمة وبطش من رب العالمين: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾[الفجر:6-13], فلا يجوز الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، لا في شعب، ولا في جماعة، ولا في دعوة، ولا بين رجل وأخيه، ولا بين ولد وأبيه، ولا بين رجل وامرأته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده أو قال: مملوكاً على سيده فليس منا», هذا فساد، حتى لو أنه أفسد بين مملوك وسيده، فإن هذا قال فيه رسول الله: «ليس منا»؛ وما ذلك إلا أن الإفساد إجرام، التحريش المسبب للإفساد إجرام، قال رب العالمين سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾[الأعراف:170], فالله عز وجل أخبر أن الأجور للمصلحين لا للمفسدين، وقال: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[هود:116], وإذا أراد الله عز وجل إهلاك بلد من البلدان سلط أهل ذلك البلد بالفسق والفساد فيدمر ذلك البلد: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾[الإسراء:16], فالتدمير كله للعباد والبلاد بسبب الفسق والفساد؛ لأن الفساد يعتبر لعنة، والذي يسعى به يعتبر من ضمن الملعونين في كتاب الله عز وجل رب العالمين، قال الله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾[محمد:22-23], وقال سبحانه وتعالى, ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[الرعد:25].

لقد تفشى الفساد في الأرض بسبب فساد بني آدم، فسدت المعايش وظهرت الفتن: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41], الفساد المذكور في الآية سببه الفساد الحاصل من بني آدم، فساد المعايش فساد الأرزاق، فساد الأخلاق، فساد الأعمار، فساد الصحة، فساد الأولاد، فساد كذلك أيضاً الأمن والأمان، فساد الدين والدنيا سببه فساد بني آدم بالتحريش أو غيره: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[السجدة:21], ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[القلم:33], ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾[الرعد:34], ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30].

أيها الناس، أيها المسلمون! احذروا الفساد في أرض معمورة بدين الله، في بلاد المسلمين سواء كان هذا الفساد بالشرك بالله، أو كان بالبدع والخرافات، أو كان بالتحريش والفتن والانقلابات، أو كان بالثورات والتفجيرات، أو كان بغير ذلك مما يسبب النقمات، فإن هذا متوعد عليه بنقمة الله: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف:56], الله عز وجل قد أصلح عباده، وأصلح بلاده أرسل الرسل، وأنزل الكتب: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165], ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:44], ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران:138], كتاب الله فيه الهدى والنور، أقام الله به الحجة على عباده وجعلهم على نور: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾[النساء:174], ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[المائدة:15-16], فأرض الله التي قد دعا فيها المرسلون بدين الله الحق لا يحل لأحد أن يفسد فيها، لا في فرد ولا في جماعة، ومن أفسد فيها عرض نفسه لنقمة رب العالمين عاجلاً أو آجلاً، فإن الله أغير على دينه من عباده.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

يجب على المسلم أن ينتفع بالذكرى في أي جانب من جوانب أمور الله، ولا يتخذ الذكرى كما يتخذ ذلك من قال عز وجل فيه: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾[الصافات:13-14], فأخبر الله عز وجل عن المشركين أنهم لا يذكرون، وأخبر عن المؤمنين أنه إذا ذكروا يتذكرون: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا﴾[الأعلى:9-13], وقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:55].

يجب على المؤمن أن يكون متذكراًَ أواباً إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر:3], هذه الذكرى لنا جميعاً معشر المسلمين؛ أن نحذر عدونا الشيطان الساعي بالفتنة بين بني الإنسان، بل حتى بين سائر الحيوانات، ومن أعظم فتنته فتنة التحريش التي تكثر بكثرة الفساد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم», فكلما كثر الشر كان من أسباب كثرته ومن شدة استفحاله هو التحريش والإفساد في الأرض، على مستوى المؤمنين، وعلى مستوى أناس من عباد الله الصالحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذا والله منذر بِشر، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين», ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن كيس فطن», ولا يكون المؤمن ألعوبة بيد المحرشين، فإن التحريش فساد في الأرض، وهو وضيفة شيطانية نفاقية، التحريش وليس من التأسي بالرسول، ولكنه من التشبه بالشيطان ومسلك ابن سلول، مسلك المنافقين ذروتهم عبد الله بن أبي الذي لا يزال خباً لئيما في أوساط المسلمين في ذلك الزمن وغيره.

فيجب علينا عباد الله أن نتقي الله عز وجل، وأن نحذر الغيبة والنميمة والتحريش والفساد، وما يسبب الضرر بالبلاد في الشعب المسلم، بدون نعرات، وبدون عصبيات وبدون كذلك حزبيات، فإن هذه كلها من دواعي التحريش ومن أسباب الفرقة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103], ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:92], هذا هو الواجب على المسلمين.

والحمد لله رب العالمين.

تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_319.html