2008/07/04
دلالات رب العالمين على التجارة المنجية من العذاب المهين

[دلالات رب العالمين على التجارة المنجية من العذاب المهين(165)]

خطبة جمعة بتاريخ: (1 شهر رجب 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

===============================

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[آل عمران:14-15].

ذكر الله عز وجل في هذه الآيات ما يتنافس فيه الناس من التجارة والأموال، ثم دلهم على خير من ذلك، وعلى تجارة لن تبور، وعلى أموال طائلة، وعلى سعادة أبدية، ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾[آل عمران:15]، جنات وليست جنات فحسب بل الأنهار تحتهم تمضي، ومع ذلك وما هم زائلون عنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾[الكهف:107-108]، هم خالدون مخلدون فيها، أزواج مطهرة وفوق ذلك كله ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾[آل عمران:15] وهذا أكبر شيء يحصلون عليه، قال الله عز وجل: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[التوبة:72].

هذه دلالة رب العالمين لعباده المؤمنين على تجارة تنجيهم من العذاب المهين، والدلالة الأخرى نظيرها وهي أصلح منها في سورة الصف قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾[الصف:10]، أنت في هذه الحياة الدنيا لو دللت على تجارة هائلة طويلة تعتبرها دلالة عظيمة، لكن هذه أعظم دلالة على الإطلاق، دلالة رب العالمين على تجارة تنجي منه العذاب المهين، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من العذاب الأليم؟ ما هذه التجارة كأن سائلاً يقول: ما هذه التجارة؟ قال الله عز وجل: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الصف:11-13].

إذاً: هذه الدلالة على تلك التجارة اشتملت على خيري الدنيا والآخرة، اشتملت على النجاة من عذاب الله، وهذه الدلالة هي يسيرة على من يسرها الله عليه، إيمان بالله واليوم الآخر، وجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فسخر لسانك مجاهدة في سبيل الله، وسخر يدك مجاهدة في سبيل الله، وسخر قدمك مجاهدة في سبيل الله، وسخر روحك مجاهدة في سبيل الله، وسخر قلمك مجاهداً في سبيل الله، وسخر حياتك كلها مجاهدة في سبيل الله، ومالك أيضاً، هذه الدلالة التي دلنا الله سبحانه وتعالى عليها المنجية من العذاب الأليم، وهي التي يسلكها أهل النعيم.

نعم يا عباد الله! دلالة عظيمة والله، ولا يقتصر الجهاد على ما قد يتبادر للذهن من قتال الأعداء ونعم ذاك، ولكنه شامل لحياة الإنسان: ﴿بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾[التوبة:41]، فكل نفسك مجاهدة، وكل مجاهد مجاهد، فمن اختل شيء من ذلك من هذا الشرط كونه جاهد ببعض نفسه ولم يجاهد بالبعض الآخر لم يستحق هذا الوعد إلا برحمة من الله وفضل، ومن جاهد بماله دون نفسه أيضاً ما أتى بالمطلوب، فالتجارة التي تنجي من العذاب المهين أن يجاهد الإنسان، يؤمن بالله واليوم الآخر ويجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، وليس في سبيل الهوى، ولا سبيل الأغراض الدنيوية، ولا المطامع الشهوانية، ولا كذلك من أجل أن يقال: شجاع أو بطل، وإنما يكون ذلك في موضعه وحيث أبانه الله وأمر به، هذه الدلالة على أعظم تجارة، فمن أراد أن يتاجر تجارة رابحة لا تكسد أبداً ولا تبور فهذه عين التجارة.

وتتضمن هذه التجارة التي دلنا الله سبحانه وتعالى عليها إضافة إلى ما تقدم قراءة القرآن تلاوة كتاب الله، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقك الله سراً وعلانية، كل ذلك تبتغي بذلك وجه الله، هذه هي التجارة التي لن تبور لمن أراد أن يتاجر حقاً.

قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾[فاطر:29]، ما مقصودهم؟ قال: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾[فاطر:29] قصدهم تجارة، هؤلاء التجار حقاً، ما هم تجار البيع والشراء الدنيوي الملهي المغري المفتون به عن ذكر الله عز وجل، ولكن هؤلاء هم التجار حقاً الذين يريدون تجارة رابحة لا تبور ولا تكسد، ويوفيهم الله الأجور ويعطيهم ثمن تجارتهم ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾[فاطر:30] الأجور والأثمان يعطيهم الله عز وجل ويوفيهم إياها ويكرمهم من فضله على الحسنة عشر أمثالها إلى مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فكل من تاجر مع رب العالمين بمثل هذه الأعمال الطيبة فإن الله يوفيه أجره، ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد:35]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8]، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء:47]، كل أعمالك وتجارتك مع الله محسوبة توفاها، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[التوبة:111]، فالله اشتراها منهم.

ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، كما قالت أم الدحداح رضي الله عنها حين قال أبو الدحداح: اخرجي يا أم الدحداح! من البستان فإني بعته ببستان في الجنة، لما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على شراء تلك الشجرة لرجل مسكين يقيم بها بستانه: « من يشتري هذه الشجرة ببستان في الجنة؟ قال: أنا »، وأخرج امرأته من وسط البستان ببستان في الجنة، ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ضامناً له بذلك الوعد: «كم من عذق راح لأبي الدحداح في الجنة»، يعني: كم من عذق واسع طيب في الجنة لأبي الدحداح، (والعذق الراح) معروف.

يا له من بيع عظيم! هذه تجارة المؤمنين وليست تجارة الفاسدين الفاسقين، الذين لا هم لهم إلا جمع الأموال من حلال أو حرام، تاجر تجارة صحيحة، واربح ربحاً صحيحاً عند الله سبحانه وتعالى أيها المسلم.

يقول الله عز وجل في كتابه الكريم مبيناً لتجارة المؤمنين: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾[النور:36-37]، ثم الوفاء بعد ذلك: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾[النساء:173] أي: على هذه التجارة، على هذا العمل، ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النساء:173] بعد الوفاء أيضاً فضل الله سبحانه وتعالى.

فانظر كيف تضمن وماذا تضمن هذا العمل العظيم في بيوت الله عز وجل: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾[النور:36] أي: تبنى، ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[النور:36] أي: يذكر فيها اسم الله عز وجل بالأذان والتلاوة والتسبيح والتحميد وتلاوة القرآن وحلق الذكر، ما بنيت المساجد إلا لذكر الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بنيت المساجد لذكر الله»، ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[النور:36]، «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»، «ومن بطأ به عمله لا يسرع به نسبه»، الذي لا يريد تجارة مع الله سبحانه وتعالى لا ينفعه نسبه، إلا إنسان يتاجر تجارة صحيحة فهذا الذي ينفعه نسبه الصالح سمع عمله الصالح.

نعم، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[النور:36]، نظير هذه الآية قول الله عز وجل مبيناً تجار الآخرة ذووا التجارة النافعة: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[التوبة:18]، وعسى هنا موجبة، لا شك أنهم مهتدون، هؤلاء الذين يعمرون مساجد الله عمارة حسية لقصد عمارتها المعنوية بذكر الله وطاعة الله، مع تضمن إيمانهم بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع خوفهم من الله سبحانه وتعالى، هذه التجارة حقاً.

قال الله في كتابه الكريم: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[الأعراف:31]، يدلهم على مواطن التجارة الرابحة.

وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مبيناً التجارة الحقيقية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾[الجمعة:9]، حثهم تلك التجارة لا شك، البيع والشراء تجارة مباحة في موضعها، لكن أعظم تجارة هي تجارة الآخرة فدع تجارة الدنيا لتجارة الآخرة، وإلا فإنها الخسارة، ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[الجمعة:9-11].

تجارة رابحة، «من توضأ في بيته ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لا ينهزه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت بها عنه خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مسجدهم، في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه يقولون: اللهم اغفر له اللهم ارحمه»، جاء في بعض الروايات: «اللهم تب عليه»، الملائكة تستغفر له، وخطواتك محسوبة بحسنات وتكفير سيئات، كل ذلك تجارة رابحة لن تبور، هذا وهناك تجارة يسعى بها الناس كاسدة وهي في الحقيقة غفلة منهم عن التجارة الرابحة، قال الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24] بمعنى: انتظروا إن كانت عندكم تجارة ملهية عن التجارة الرابحة فإن هذا منكم فسق لا تهدون بسببه، ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ﴾[المنافقون:9]، سواء كانت الأموال تجارة أو زراعة أو صناعة.. أو غير ذلك، فمن لهى بها عن ذكر الله فهي تجارة كاسدة بائرة كتجارة المنافقين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المنافقون:9-11].

وأخبر أن المنافقين يتاجرون بالوجوه المتلونة ويريدون أن يربحوا تحت تلك التجارة والتلونات والتقلبات، تجارة غير رابحة، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾[البقرة:14] أي: نستهزئ بهم، ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾[البقرة:14-16]، هم يتاجرون اشتروا ولكن هذا الشراء وهذه التجارة غير رابحة، وتجارتهم هذه تلونات وتقلبات وتزييف للحقائق وتلاعب واستهزاء بالمؤمنين، ويظنون أنهم سيربحون من وراء ذلك وجاهات ويربحون من ذلك أيضاً أموالاً، ويربحون من وراء ذلك مناصب، ويربحون من ذلك أشياء في آمالهم وظنونهم الخربانة، ولكن الله يقول: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾[البقرة:16-17]، فانظر مثل المنافقين كمثل إنسان حصل له نور ثم بعد ذلك كاد أن يستبصر فأطفأه فصار بغير نور، هذه هي تجارتهم.

أيها الناس! إن أمر التجارة الذي يسعى فيها الناس ما استبصروا فيها حقاً، وإن أعظم تجارة هي التجارة التي أرشد الله سبحانه وتعالى إليها في كتابه تجارة الإيمان والأعمال الصالحة، تجارة القربات ومكفرات السيئات، تجارة الثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، تجارة الإيمان والعمل الصالح والتقوى، قال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[الأعراف:96].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

شأن التجار انتهاز الفرص، فهو إذا رأى فرصة في بيع كذا وكذا بادر، وإذا رأى فرصة أيضاً في شراء كذا وكذا بادر، والمؤمنون تجارتهم أعمال الآخرة والتجارة في الآخرة، ومما يتاجر به المؤمنون أيضاً انتهاز الفرص، وتحين الأوقات، وسائر أوقات المؤمنين مرابحة، لا شك سائر أوقات المؤمنين منذ أن يبلغ رشده حتى يلقى ربه وهو لا يزال من تجارة في تجارة من ليل ونهار وسر وجهار، يؤيد ذلك ما ثبت عند الترمذي وغيره عن عبد الله بن..... رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله»، فالذي يطول عمره وعمله حسن فهو مرابح، لا يزال كل يوم يربح، «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن أحدكم على نهر جار غمر يغتسل منه كل يوم خمس مرات يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس»، هذا ربح عظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت فإن كان مسيئاً لعله يستعتب، وإن كان محسناً لعله يزداد».

شاهدنا: أن المؤمن لا يزال يزداد ولا يزال في ربح دائم من يوم إلى آخر، فإن طول عمر المسلم لا يزيده إلا خيراً.

ومما يتاجر فيه أيضاً من انتهاز الأوقات والفرص في كل حين يجد فرصة لعبادة من العبادات، وها أنتم في هذه الأيام في أشهر الحرم، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة:36]، فالله نهى عن ظلم النفس فيها، وظلم النفس لا شك أنه منهي عنه في سائر الأوقات، لكنه في أشهر الحرم سواء في ذلك رجب أو ذي القعدة أو ذي الحجة أو المحرم ثلاثة متوالية ورجب منفرد عنها على عد الجمهور، على هذا الترتيب الذي جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه.

فمن أراد أن يرابح مع رب العالمين ويتاجر يكون مترصداً لأوقات الفرص، إذا جاء وقت السحر يستغفر: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[السجدة:17-16]، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[السجدة:17] أي: على تجارتهم تلك التي تاجروا بها مع الله سبحانه وتعالى من قيام الله، «أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» هكذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر»، وصيام الدهر معلوم على أن فيه فضل عظيم كأنه صام عمره كله وهو صائم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، هذه فرص للتجارة.

صيام عاشوراء ثبت عن أبي قتادة رضي الله عنه عند الإمام مسلم: أنه يكفر السنة الماضية، وصيام يوم عرفة السنة الماضية والباقية، هذه تجارة لاسيما لمن في الحج فإنه يرغب له فيها هذه المرابحة العظيمة، «قال لرجل: أصمت سرة شعبان؟» كما في حديث عمران في الصحيح «قال: لا يا رسول الله، قال: فصم، إذا أفطرت فصم يومين»، قال أهل العلم: المقصود بالسرة آخر الشهر، هذا أرجح الأقوال، أي: حثه على الصيام من آخر الشهر لا لاستقبال رمضان، بل لأنه كان له صوم يصومه، فإذا لم يستطع ذلك قضاه وداوم عليه بعد رمضان صم، «إذا أفطرت صم يومين بعد» أي: صم يومين بعد رمضان.

وجاء من حديث أبي ذر وعن قتادة بن ملحان وجماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد أحدكم أن يصوم فليصم ثلاثة من كل شهر»، جاء عدها في حديث أبي ذر: «الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر»، وسواء صام هذه الأيام بعينها أو صامها في غير هذا الوقت فإنه صائم للدهر يعتبر من صام ثلاثة من كل شهر، سواء هذه الثلاثة البيض كما تسمى أو غيرها فإنه يشملها صيام الدهر، قالت عائشة: «ما كان يبالي من أي الشهر يصوم»، كان يصوم ثلاثة من كل شهر ولا يبالي من أي الشهر يصوم.

نعم، هكذا من أمور الصلوات وكثرة ذكر الله والمحافظة على العلم وحلقاته؛ فإن العلم يعتبر من أعظم التجارة مع رب العالمين، تلاوة القرآن كما تقدم دليل ذلك: «من قرأ حرفاً من القرآن فله بها عشر حسنات، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»، «لأن أقول: سبحان الله والحمد لله أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»، هل هناك تجارة تعدل هذه التجارة؟ هل هناك أموال تعدل هذه الأرزاق؟ أبداً لا يوجد على وجه الأرض مثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى رضي الله عنه: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة».

ما أكثر ما يتقاطع الناس على الدنيا ويتهالكون عليها ويغفلون عن هذه الكنوز وعن هذه التجارة الرابحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والحمد لله رب العالمين.

تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_324.html