2009/03/09
الاقتطاف لبعض أحكام الأوقاف

 [الاقتطاف لبعض أحكام الأوقاف(184)]

خطبة جمعة: (5 محرم/ 1430هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
=====================================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الدخان:40-42]، ونظير ذلك قول الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:83-89]، ونظير ذلك قول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[البقرة:286]، وقول الله في كتابه الكريم: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[المؤمنون:99-100]، وقول الله عز وجل: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى﴾[النجم:39-41]، وقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[الأنعام:164].
ففي هذه الأدلة بيان عظيم على أنه لا ينفع العبد إلا ما قدمه وما عمله، ويرى ذلك من خير أو شر، حتى ولو كان قليلاً أو كثيراً، لقول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8].
ومما ينتفع به العبد وما يلحقه بعد موته أمور مستثناة من هذه العمومات؛ دل عليها مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، ففي هذا الحديث دلالة على أن الصدقة الجارية ينتفع بها صاحبها بعد موته، وأن تلك الأدلة ا لمذكورة عامة مخصوصة بمثل ما دل عليه هذا الحديث ونحوه.
والصدقة الجارية: هي ما كان يسير نفعها ويمضي على فاعلها بعد موته، ومن ذلك الرباط في سبيل الله؛ لحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم يختم عليه إلا المرابط؛ فإنه يجري له عمله الذي كان يعمل ويؤمن الفتان»، دل هذا على أن هذا من المخصصات، ومن المخصصات لتلك العمومات ما دل عليه أيضاً مثل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «لما أنزل الله عز وجل، قوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران:92]، قال أبو طلحة: -وكان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً- يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بيرحاء وإن الله قد أنزل عليك هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران:92] فاجعلها يا رسول الله حيث شئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ بخ، ذاك مال رايح»  هذا مال أي: رايح عليك نفعه، مستمر عليك نفعه، جاري عليك نفعه، دل هذا على أن الوقف الصحيح النافع يجري نفعه لصاحبه: «فضعها في الأقربين فوضعها أبو طلحة في الأقربين»، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بخ بخ) كلمة على سبيل التشجيع وعلى سبيل الثناء عليه بذلك، أي: على أن هذا العمل سيصل نفعه إليك: بخ من هذا الفعل: «مال رايح» أي: مستمر ورايح عليك نفعه.
فالوقف الصحيح الصدقة الجارية: أي: الماضية المستمرة، ولهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما علم من مسابقته للخيرات، قال: «أصبت مالاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس منه، فقلت: يا رسول الله! إني أصبت مالاً بخيبر لم أصب مالاً أنفس منه، فاجعله حيث شئت يا رسول الله أو فماذا تأمرني فيه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا حبستها؟ إن شئت حبست أصلها وجعلتها في الأقربين، فحبسها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجعلها في الأقربين -أي: محبسة- يقوم عليها من يقوم، يأكل غير متمول ولا متأثم ويكرم ضيفه، ويجعل غلتها في الفقراء والرقاب وابن السبيل والضيف»؛ وما ذلك إلا من أجل أن يروح ماله يصير مالاً رائحاً، فاختار أصح وأنسب وأفضل أمواله وقدمه للآخرة.
وأبو الدحداح عليه رضوان الله، حين قال: «من يشتري هذه النخلة بنخلة في الجنة؟ -قدم بستانه كله من أجل أن يقدمه أمامه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح لأبي الدحداح».
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن بالمدينة ماء عذب إلا بئر رومة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة ودلوه بين دلاء المسلمين وله بذلك الجنة؟ قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: فاشتريتها من خالص مالي»، أي: قدم ذلك واشتراها وصار دلوه بين دلاء المسلمين، أي: يغترف له ماء كما يغترفون.
فينبغي لمن قدم مالاً وقفاً بين يديه يوم القيامة أن يخلص العمل لله سبحانه وتعالى، وينبغي له أن يختار أطيب ماله أو من أطيب ماله على الأقل، لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾[البقرة:267]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»، فيحبس إن شاء ذلك المال كما حبس خالد بن الوليد أدراعه، وكانت أدراعه تلك التي قاتل بها المشركين: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي بالزكاة من جباته، فجاء الجابي فقال: منع فلان وفلان وخالد - العباس وابن جميل وخالد بن الوليد - قال: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما العباس فهي علي ومثلها»، قال بعض أهل العلم أنه قد قدمها أي: أخذها مقدماً لحاجته إليها في شئون المسلمين: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً فإنه قد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله».
وهكذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حبس فرساً في سبيل الله -أي: أوقفه- فإن روثه وبوله وأكله وشربه في ميزانه يوم القيامة»، كل شيء من شعر وبشر في ذلك المحبس في سبيل الله، أي: لله سبحانه فإنه في ميزانه.
«ولما أراد أبو طليق أن يحج أرادت امرأته أم طليق أن تحج معه، وليس له غير الجملين أحد الجملين جعله في سبيل الله والآخر أراد أن يحج عليه، فقالت: أعطني جملك أحج عليه، قال: قد جعلته في سبيل الله، قالت: لو أعطيتني كان في سبيل الله، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن ذلك، فقال: صدقت لو أعطيتها كان وكنت في سبيل الله ولو أعطيتها من نفقتك أخلفكها الله»، دل هذا على أن هذا أيضاً في سبيل الله، سواء كان من المواشي أو كان من الأراضي أو كان مما يصلح نفعه، فلا يصلح الوقف إلا مما ينتفع به، ولا يصلح الوقف إلا مما كان طيباً، ولا يصلح الوقف إلا مما كان ممتلكاً ملكاً صحيحاً، ولا يصلح الوقف إلا بما لا ضرار فيه؛ لا ضرر فيه على الوارثين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير -حين أراد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يوصي ويقف ثلث ماله أي في المستحقين من الفقراء والمساكين وغيرهم- ولم يكن له إلا ابنة واحدة ترثه، فاستشار في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الثلث -أي: أعط الثلث- والثلث كثير»، قال ابن عباس: لو أنهم غضوا عن الثلث كان أحب إلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير».
ولا يصح الوقف إلا إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقة جارية»، ولا تكون جارية على المتوفى إلا إذا كانت طاعة: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾[الحج:37]، «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»، فلا يكون إلا طاعة وطيباً: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»، لا يصح الوقف إلا إذا كان على وقف طاعة.
وهكذا لو أنفقه أو جعله على القبور لترميمها ولتزيينها ولزخرفتها أو جعله على القباب لذلك المعنى أو جعله على أماكن الشركيات والبدع والخرافات، أو جعله على تصوير ذوات الأرواح، أو جعله على معصية من المعاصي كأي معصية من المعاصي، فإن ذلك الوقف باطل لا يقبله الله ولا يكون جارياً لصاحبه للدليل المذكور، ولما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، ولا يكون نافعاً أيضاً إلا إذا كان جارياً مستمراً، فإذا عطل كان ينبغي للناظر له أن يصيره إلى ما ينتفع به، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم ولأنفقت كنزها في سبيل الله» أي: جعله في سبيل الله فيما هو أنفع، فإذا عطل الوقف جاز تبديله إلى ما هو أنفع وأصلح، وسواء كان ذلك الوقف من أوقاف الكتب النافعة أو المصاحف التي يقرأ فيها من كتاب الله عز وجل، أو كان ذلك الوقف من المساجد التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجداً ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة»، أو كان ذلك الوقف الذي أوقفه إنسان من سائر شئون ما ينتفع به المسلمون من الطرقات والآبار وغير ذلك يجري نفعه ويستمر نفعه مدة بقاء ذلك الوقف: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12] بالشروط المذكورة، هذا أمر مهم عباد الله.
صدقة جارية: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية»، فإن بعض الناس لم يفهم هذه الكلمة جارية، لا تكون جارية إلا إذا كانت في طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهكذا تزويج الرجل الشاب الصالح الذي لا يزال على استقامة، فإن كل ما ينجب من أولاد وكل ما يحصل من عفة، وكل ما يحصل كذلك له من خير لذلك المزوج صدقته الجارية مدة بقائه وبقاء أولاده ومدة بقاء أهله، ومدة انتفاع الإسلام والمسلمين بذلك الخير: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12]، وهذا باب واسع.
والفقرة الثانية من الحديث مما يضاف أيضاً إلى الصدقة الجارية: «أو علم ينتفع به»؛ فإن العلم يعتبر صدقة جارية على صاحبه بعد موته للآية المذكورة، ودل أيضاً على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من دل على هدى كان له مثل أجر فاعله» رواه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه، فهذا الذي دل شخصاً من الأشخاص على هدى، والتزم ذلك الشخص بالهدى والاستقامة والعلم والسنة، له مثل أجر ذلك الهدى، ومثل أجر من عمل به وراء ذلك، كم سيجري على هذا الرجل من خير ومن أعمال صالحة؟ وإن لم يعمل أحد بذلك الهدى وتلك الدلالة لم يضره، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً».
هنيئاً والله لدعاة الهدى والسنة ودعاة العلم والاستقامة ودعاة الخلق الحسن، فإن هؤلاء يقدمون صدقات جارية ماضية؛ يموت ولا تزال الأعمال سارية عليه بإذن الله عز وجل.
ومن ذلك أيضاً حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة -أي: أحياها بعد أن أميتت- له أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادعهم إلى ما نحن عليه -قال لـعلي في يوم خيبر- ادعهم إلى ما نحن عليه -أي: ادع المشركين إلى هذا الدين الذي نحن عليه- والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»، ماذا تنفع حمر النعم بجانب هذه الدعوة النافعة، واحد من الناس لو هداه الله على يديك! يا أيها الداعي انتبه انتبه، احذر أن تخذل إنساناً من المسلمين كن داعي هدى، كن داعي سنة، كن داعي إلى العلم، كن داعي إلى الخلق الحميد، فإن هذا لأن يهدي الله بك واحداً خير لك من لآلاف الإبل الحمر، وخير لك بل من الدنيا، وربما كان هذا الواحد بعده أمم وكل من تبعه من الأمم والصالحين واهتدى على يديه كل من ذلك اقتباس ونور وهدى يصلك وأنت في قبرك: ﴿وَآثَارَهُمْ﴾[يس:12] لك آثار حسنة تتبعك، هذا من الصدقة الجارية يتصدق بها العالم على المسلمين العلم والنصح والدين والتمسك بكتاب الله وسنة سيد المرسلين: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾[الأعراف:170]، أجر هذا المصلح لا يضيع حياة وموتاً حتى بعد موته وأجره جار؛ لأنه مصلح.
نعم، وليس هذا من بني آدم فقط، بل حتى من حيوان غير بني آدم، وصدقة جارية على ذلك العالم النافع الداعي إلى الله.. إلى الله.. إلى التوحيد إلى السنة إلى العلم إلى الهدى.. إلى الخلق الحسن.. إلى التآخي والتحاب.. إلى الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وبحبل الله وعدم التفرق، هذه هي الدعوة إلى الله التي يجري نفعها وهي صدقة جارية.
الدعوة إلى الله وهو في قبره ويصله ذلك من حيوانات أخرى: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضيين حتى النملة في جحرها وحتى الحيتان في الماء ليصلون على معلمي الناس الخير»، هذه الصلة لا تنقطع بموته أبداً، مادام نفع ذلك العالم الداعي إلى الله بين الناس وعلمه بين الناس وهداه بين الناس ونصحه يقتبس منه الناس ويستنير منه الناس فإن هذه الحيوانات لا تزال مستغفرة له.
وهكذا إذا مات ذلك الإنسان يصير مستريحاً بسبب هذا الخير والتقديم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مستريح ومستراح منه»، هذه هي الصدقة الجارية: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به»، والعلم من أعظم الصدقات الجارية: علم ينتفع به، احذر من علم الكلام، احذر من علم الدنيا، احذر من العلوم الفاشلة الضائعة فإنها تضر ولا تنفع، احذر من الضلال من التصوف من التشيع من التحزب من الخرافات كل هذا ما تنفع ولا يجري عليك نفعها، بل تضرك: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾[الغاشية:2-5].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الصدقة الجارية باب واسع، ولكن ذروة ذلك ما تقدم ذكره وما دل عليه هذا الحديث، لذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين هذا وذاك وسائر الأنبياء، جمعوا بين الصدقتين؛ بين صدقة العلم والنفع والهدى، وبين صدقة المال والنفع والعطاء، قال صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «إن العلماء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»، فكل أموال الأنبياء صدقة، إن بقي لهم مال من مغانم أو غير ذلك لا ميراث فيه، كله صدقة وكله في سبيل الله، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درعه وبغلته البيضاء كما في حديث أخي جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درعه أو قال بغلته البيضاء في سبيل الله» حتى هذا الشيء احتسبه وجعله في سبيل الله، ولم يبق لهم في بيتهم إلا ما كان يؤكل من الطعام والشعير ونحو ذلك، فهذا هو شأن الأنبياء وشأن ورثة الأنبياء؛ يجمعون بين الصدقتين الجاريتين.
بل وصدقة أخرى ثالثة: «أو ولد صالح يدعو له» هذا له فيه تسبب بصبره وتعليمه وتوجيه وإحسانه إليه، وتربيته وإكرامه والعناية به، فإذا يسر الله صلاحه، فليس الولد محصوراً على الابن فحسب، بل على الابن وابن الابن وابن الابن وإلى ما شاء الله؛ لما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء أبناء الأنصار»، ولأن ابن الابن أيضاً يأخذ حكم الابن عند عدم وجوده، وكل ذلك من الصدقة الجارية؛ تعليمك لولدك وحرصك عليه وانتباهك له وعنايتك به، وتحذيره من الدنيا ومن جلساء السوء، تحذيره من الفتن وتحذير من الجهل والعناية به عناية صحيحة، هذا جار عليك نفعه، هذا شيء رايح نفعه مستمر عليك نفعه سواء انتفع هو أو صلى أو صام أو زكى أو حج أو قرأ القرآن أو عمل صالح أو ولده أو ولد ولده فإنك أنت متسبب في ذلك الخير، ولك من وراء ذلك أثر طيب، ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12].
ألا فاحرص أيها المسلم على صلاح ولدك وعلى استقامته وعلى علمه وعلى هداه، وعلى بره وعلى حسن دعائك، فإن هذا يصلك مع الأجر المكتسب أيضاً من تربيتك وعنايتك به، هناك دعاء صالح يصلك منه وهو من الصدقة الجارية، وربما في قيامه بالليل وكذلك في أوقات الإجابة، ودعاؤه جار إليك وأنت في قبرك، فهنيئاً لمن اعتنى بأولاده وأقامهم على الهدى بإذن الله عز وجل وحبب إليهم الصالحين وبغض إليهم المفسدين وزهدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة، وجعلهم بإذن الله عز وجل مستقيمين مع دعائه لرب العالمين سبحانه وتعالى.
وانظر إلى عباد المؤمنين كيف يدعون لأولادهم ليل نهار وكذلك يعتنون بهم؛ نوح عليه الصلاة والسلام مع شدة معصية ولده، وهو لا يزال محاولاً فيه أن يكون من الصالح، ويقول: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾[هود:45]، فأبى الله عز وجل عليه إلا أن يبين له أن ابنه ليس من أهله أي ليس على عمل صالح: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[هود:46].
يعقوب عليه الصلاة والسلام يتعاهد أولاده عند موته: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة:133]، قرت عين يعقوب بهذا: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾[البقرة:132]، أي: الله اختاركم للدين واختار لكم هذا الدين: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة:132]، كل ذلك تعهد لولده من أن يسير في ميزان حسناته، وأن يسير عمله له صدقة جارية.
نسأل الله التوفيق والسداد وصلاح الأولاد.
والحمد لله رب العالمين.
تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_340.html