2009/03/14
قوة العزيمة تبعث صاحبها على الصفات الكريمة

 
[قوة العزيمة تبعث صاحبها على الصفات الكريمة]

خطبة جمعة: (17/ 11/ 1427هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
==============================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كان كذا.. وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل..».
وهذا الحديث فيه توجيه عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضيح نبيل منه عليه الصلاة والسلام: وهو أن المؤمن القوي محبوب إلى الله وبقدر قوة الإنسان في دنيه يكون محبوباً إلى ربه، ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبتلى المرء على قدر دينه، فمن كان في دينه صلباً شدد عليه، ومن كان في دينه رقة خفف عنه، فأشدهم بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
هذا لتعلم أن الله عز وجل يبتلي العباد على قدر حبه لهم، وأن المؤمن القوي أحب إلى الله: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾[الإسراء:21]، هذا التفضيل بقدر محبة العبد لربه سبحانه وتعالى.
ولهذا لما كانت قوة الإيمان والعزيمة مناط حمل الدين عليها اختار الله عز وجل أن يكون أنبياء الله ورسل الله عليهم الصلاة والسلام قمة هذا الشأن، قال الله سبحانه وتعالى آمراً نبيه: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الأحقاف:35]، وذكر الله عز وجل أولي العزم من الرسل فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب:7]، وأثنى الله سبحانه وتعالى عليهم ثناءً عظيماً لقوة عزمهم في حمل دين الله، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الميثاق من بني إسرائيل على أن يأخذوا هذا الدين بقوة: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[البقرة:63-64]، فوبخ الله بني إسرائيل أولئك على أنهم لم يأخذوا هذا الدين بقوة، وأمر الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ الدين بقوة وقد نفذ ذلك وأقام به وقام به خير قيام قال الله سبحانه تبارك وتعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف:145-146]، أمر الله نبيه أن يأخذ الدين بقوة، وأن لا يبالي ولا يلتفت إلى أولئك المذبذبين فإن الله صرف قلوبهم، وصرف جوارحهم عن الحق، وأن ذلك لا ينبغي أن يثنيه، وقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾[الأحزاب:1-3]، وأمره ربه عز وجل أن يعد للكافرين قوة فإن القوة مرهبة لأعداء الله، وإن الأعداء يطمعون في الإنسان وفي الدين إذا رأوا منه الضعف، أما إن رأوا القوة فإن شوكتهم تنكسر، وإن عزائمهم تتبدد، قال لله عز وجل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال:60]، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً للآية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على هذه القوة وعلى أخذها فيقول: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً»، تعلمون عباد الله من هذا كله على أن هذا الدين دين العزة، وأن الضعف فيه مذموم سواء كان هذا الضعف في قتال الكافرين وجهاد المنافقين أو في الدعاء أو في العبادة، أو في القول أو في الفعل، فقد أمر الله عز وجل نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين بقوة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[التوبة:73]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة:123]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران:146-147]، هذا ثناء عظيم لمن أخذ دين الله عز وجل بقوة، ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا﴾ أي: ما جاءهم الوهن ﴿.. وَمَا ضَعُفُوا﴾ ما تزعزعوا ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[آل عمران:146].
أيها الناس! إن القوة تبعث على الثبات، قوة العزيمة تبعث على الثبات في دين الله، فنبي الله هود عليه الصلاة والسلام يقف أمام أمة بكاملها، يقول: ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾[يونس:71]، ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[هود:56]، لا يحمل هذا الدين إلا الأقوياء في العزيمة، هذا الدين لا يحمله الضعفاء، هذا الدين لا يحمله الكسالى، هذا الدين لا يحمله ذو الخور، بقدر قوة عزيمة الشخص ينصر الله سبحانه وتعالى به دينه، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا أترك هذا الأمر حتى تنفرد سالفتي أو أهلك دونه»، ولما جاءه يشكون إليه أصحابه، قال عليه الصلاة والسلام: «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»، هذه العزيمة تبعث على الكرم، صاحب العزيمة القوية تجد عنده كرماً ولو كان فقيراً لشدة اعتماده وثقته بالله، العزيمة تبعث على الشجاعة، تبعث على الثقة بالله سبحانه وتعالى، نعم.
ولهذا فإنك ترى أنبياء الله قمة في العزيمة لما آتاهم الله في ذلك، فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾[الأنبياء:67-70]، ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام رأت منه امرأة شدة ثبات قوته وعزمه، فعلمت أن هذه القوة والعزيمة لا تكون إلا لفحول الرجال: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ..﴾[القصص:26-27]، الشاهد من ذلك: أن القوة قوة العزيمة أمر ملحوظ خيره، إذا كان ذلك في الخير وفي الطاعة، ملحوظ نفعه: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
ثبت من حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه: «أن رجلاً أعرابياً بايع النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج معه للجهاد، ولما حصلت الغنيمة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس وأعطاه قسطه –نصيبه من المغنم- فجاء الأعرابي فقال: يا رسول الله! ما على هذا بايعتك، بايعتك على أن يحصل لي سهم من هاهنا –وأشار إلى موضع في عنقه- ويخرج من هاهنا، فلما حصل قتال الكافرين -علم الله عز وجل صدق ذلك الرجل وقصده- حصل له سهم في الموضع الذي أشار، وخرج من الموضع الذي أشار، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، قتل شهيداً وأنا شهيد على ذلك».
و جليبيب رضي الله عنه كان دميم الخِلقة ومع ذلك عنده قوة عزيمة، حصلت المعركة فترك امرأته وهو عروس، ثم خرج وهو جنب، وصال في المشركين فقتل سبعة وقتلوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتل سبعة وقتلوه، هو مني وأنا منه» نعم، لقوة عزيمته.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ مني هذا بحقه..» كما ثبت عند الإمام مسلم عن أنس : «فبسط القوم أيديهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأخذه بحقه؟ فأحجموا، فقال أبو دجانة : أنا يا رسول الله! فأخذه ففلق به هام المشركين»، وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا»، على أثرة عليهم عزيمة في البيعة والنصرة بدون تأرجح: «وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»، وفي حديث جرير : «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»، بل بايعهم يوم الحديبية على الموت، ولما حث النبي صلى الله عليه وسلم على قتال المشركين، وكأنه عنى الأنصار قال المقداد : «كأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: والله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون»، هذه رواية ثابتة.
إن صدق العزيمة يجعل الله عز وجل بها النصر: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ..﴾[آل عمران:152]، لما علم الله عز وجل يوم أحد من بعض الصحابة أنهم أرادوا الدنيا حصل لهم ما قد ذكره الله في هذه الآية، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعنِّ منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها، ولا رجل اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، ولا رجل بنى بيوتاً ولما يرفع سقوفها»، والشاهد: «أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غزا فدنا من القرية قريب الغروب، قبل غروب الشمس: فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور: اللهم احبسها علينا، فحبس الله الشمس حتى فتح الله عليه»؛ لأنه ما أخذ معه إلا من ذوي العزيمة الصادقة والقوة في الأمر، ومن كان عنده أمور تخالجه فإنه نحاه، ولم يقبل أن يغزو معه، الذي ربما قد عقد على امرأة وهو يريد أن يرجع إليها، والذي عنده أغنام يريد ينتظر أولادها، والذي قد بنى وهو يريد أن يرفع السقوف هؤلاء خاف من أن تكون عزائمهم مهزوزة فلم يقبل أن يكونوا معه، العزيمة نصر، عزيمة في الأمر، إياك إياك أيها الإنسان أن يؤتى الدين من قبلك، يقول الله عز وجل: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[مريم:12]، فبركة من الله عز وجل يجعلها الله عز وجل في العزائم، ثبت في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ثم أعطاه وهو يسأله..» يسأله والده وأباه، ثم وجهه بتوجيه عظيم فقال: «يا حكيم ! إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيبة نفس بورك له، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أعطاه درساً عظيماً لذلك الرجل صاحب العزيمة العظيمة، فانبعثت فيه العزيمة على العفة أبداً أن لا يسأل أحداً، فما سأل أبا بكر ولا عمر، حتى كان عمر يرسل له نصيبه من المغنم فيرده، ويقول: (أشهدكم أني أعطيت حكيماً قسطه فلم يقبله)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأضمن له الجنة؟ فقال ثوبان : أنا، وكان لا يسأل الناس شيئاً حتى لقي الله عز وجل»، عزيمة عزيمة! وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن الله أنجاني بالصدق، وأن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً حتى ألقى الله)، فما أبلي أحد منه في صدق الحديث ما أبلي كعب في صدق الحديث لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن يهود تكتب إليّ ولا آمن من يهود، فأمر زيداً أن يتعلم السريانية لغة يهود، قال زيد : فحفظتها في نصف شهر في خمسة عشر يوماً»، تعلمها لعزيمته لغة، لغة قوم، لقوة عزيمته، وعلمت هذه العزيمة أيضاً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق يأمره أو يطلب منه أن يجمع القرآن فإنه يخشى من تفرقه، ومن ضياع بعض منه، فكان من أمر أبي بكر حين عزم على هذا الأمر وقنع به وأنه حفظ للدين أن أرسل إلى ذي العزيمة القوية، وقال: (إنك رجل شاب ولا نتهمك، وكنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وظهرت عزيمة زيد في ذلك، إذ كان يتتبع القرآن من مكان إلى مكان، من اللخاف وصدور الرجال ومن الصحف، ومن هنا ومن هنا حتى اجتمع عنده القرآن في صحيفة واحدة، وبقيت آية: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ..﴾[التوبة:128] الآية، فلم يجدها إلا عند أبي خزيمة الأنصاري، وآية أخرى وجدها عند خزيمة بن ثابت، انظر إلى عزيمة أنس بن النضر رضي الله عنه، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (غبتُ عن أول قتلتَ فيه المشركين لئن أشهدني الله مشهداً آخر ليرين الله ما أصنع، ولما كان يوم أحد انكشف الناس، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، ونظر إلى المشركين وقال: أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، ثم تقدم إلى المشركين وقاتل فقتل) ففيه أنزل الله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الأحزاب:23-24]، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ مال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ مال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»، الأمور يعطيها الله على قدر العزائم، على قدر عزم الشخص، يعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى على قدر عزمه في الخير وقوته في الخير، نعم.
وثبت عن ابن عباس : أن بعض الصحابة كان يمر به وهو صبي يتتبع الآثار والأحاديث والأدلة والعلم عند كبار الصحابة يقول: (ويحك يا ابن عباس من يحتاج لك! فترك ذلك القول وأعرض عنه وأقبل على شأنه، ومر به مرة أخرى وعنده جحافل الناس يتلقون منه، قال: والله لقد كان هذا الغلام أعقل مني) و ابن عباس رضي الله عنه كانت له قوة عزيمة في أخذ العلم حتى يقف عند باب الصحابي يسفعه الريح والغبار في وجهه ولقوته ولثباته في ذلك وعزمه يبقى حتى يخرج، يأخذ منه المسألة أو المسألتين ثم ينصرف.. وهكذا.
أيها الناس! إن الله عز وجل قد ذم المنافقين على ضعف عزائمهم، وأنهم أضعف الناس عزيمة، أضعف الناس عزيمة المنافقون، حتى في عبادتهم وصلاتهم قال الله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ..﴾ حتى في ثباتهم ما تجد عندهم عزيمة ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾[النساء:142-143]، وقال: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ..﴾[التوبة:46-47]، عزائمهم مزعزعة في سائر دينهم، فثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين»، تيعر إلى هذا وإلى هذا، لا عنده عزيمة على الحق ولا عنده عزيمة حتى على الباطل، فلهذا صاروا من أرذل الناس، ونسأل الله السلامة والعافية.
الخطبة الثانيـة:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن من أسباب قوة العزيمة ذكر الله عز وجل، يقول ربنا سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الأنفال:45]، ويقول سبحانه وتعالى: في كتابه الكريم: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾[هود:52]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوي قدرات الشخص بقدر ما يستطيع ويقوي عزائمه، فمن كان عنده إقبال على الجهاد قوى عزمه على ذلك حتى قال لـخالد بن الوليد حين بعثهم إلى غزوة مؤتة وأمر عليهم: زيد بن حارثة ثم قال: «إن قتل زيد فأميركم جعفر، فإن قتل جعفر فـابن رواحة» ولم يؤمر خالداً، ولكن ظهرت عزيمة كل واحد منهم، ثم ظهرت عزيمة خالد ولم يؤمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أثنى عليه صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الراية ولو لم تكن بإمرة، نعى النبي صلى الله عليه وسلم الذين استشهدوا قال: «قتل زيد فأخذ الراية جعفر ثم قتل جعفر فأخذ الراية ابن رواحة –ويثني على كل واحد منهم- ثم أخذها سيف من سيوف الله بغير إمرة ففتح له»، فلقب من ذلك اليوم بـ(سيف الله) سيف من سيوف الله؛ وذلك لعزمه، لم ينهزم خالد بن الوليد في معركة من المعارك لقوة عزمه رضي الله عنه ومع ذلك لم يرد الله عز وجل له الشهادة.
الشاهد في المعارك: أن ذوي العزائم يتشجعون، الذي عنده عزم على الخير وقدرة على الخير وحزم في الخير ذلك يشجع ويعان بقدر ما عنده، وانظروا إلى عزم الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين ارتد بعض الناس شد عزمه وقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)، فبهذا العزم الصحيح وبهذا القصد الطيب وبهذا الثبات العظيم حفظ الله دينه، وهكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم جرد سيفه لرءوس المنافقين وقال: (من قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات أقطع رأسه) كل ذلك عزم منه وقوة منه، أنه لا ترتفع رءوس المنافقين، وهكذا لعزمه وثباته: الشيطان يجبن منه، إبليس اللعين يخور من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجه»، فالثبات والعزم والقوة يبعث في الإنسان القوة على الإنس والجن، حتى أنك ترى الشياطين يجبنون من صاحب الإرادة القوية، والعزم القوي، فهذا أمر مهم عباد الله في أوساط المسلمين، فإننا والله نعاني من هذا الأمر عناءً شديداً بين أوساط المسلمين، هذا يضعف أمام تمثيلية.. وذاك يضعف أمام دخانه.. وذاك يضعف أمام منكر من المنكرات.. وذاك يضعف أمام شربة شمة.. وذاك يضعف أمام حزبية.. وذاك يضعف أمام بدعة.. وذاك يضعف أمام منكر، لا يستطيع أن يصدع بالأمر بالمعروف وينكر المنكر، فهذا يخلل الدين، هذا يضعف به الدين إذا حصل الضعف في العزيمة، ونسأل الله السلامة والعافية، وهل ترى الأمر بالمعروف إلا صادراً عن هذا روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وفي حديث آخر: «.. وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان»، ربما يضعف إيمان الشخص بضعف إرادته وضعف عزيمته حتى يهبط.. حتى يكون هزيلاً، كل ذلك بضعف إيمانه.
هكذا عباد الله! ثبت أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنه لما رأى مروان صعد يريد أن يخطب قبل الصلاة -في العيد- نازعه في ذلك، وأمره وأنه أَدَلّه على الحديث ثم قال: أما هذا فقد قضى ما عليه)، أي: قضى ما هو واجب عليه وبقوة العزيمة يحفظ الله هذا الدين. روى البخاري في صحيحه من حديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فقال الذين في أسفلها لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، قال صلى الله عليه وسلم: فلو أنهم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»، فالبعزيمة والأخذ على أيدي المبلطين كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمنعن أحد منكم هيبة الناس أن يقول حقاً رآه أو سمعه أو شهده»، والحمد لله.

 

تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_344.html