2009/03/15
تعليم المسلمين: قاعدة الشك لا يزيل اليقين

 

[تعليم المسلمين: قاعدة الشك لا يزيل اليقين(182)]
خطبة جمعة بتاريخ: (21/12/ 1429هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
=============================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه».
هذا الحديث فيه بيان سبيل الفلاح، وبذلك يكون الذي اتصف بهذه الصفات؛ صفة الإسلام، وصفة القناعة يعلم من ذلك أنه زكى نفسه؛ لأنه لا يفلح إلا من زكاها، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[ الشمس:9-10]، ولا تتعارض هذه الآية مع قول الله عز وجل: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾[النجم:32]، فهذه الآية المقصود بها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ أي: بطاعة الله، وبالاقتناع بهداه، والآية الأخرى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[النجم:32]، أي: لا يزكي الإنسان نفسه فيطريها أو يمدحها بما ليس فيها، معتقداً زكاتها وهي ليست كذلك، فالله أعلم بأهل التقى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾[النجم:32].
فتزكية النفوس بطاعة الله عز وجل هذا أمر مطلوب، والله عز وجل خلق العباد من أجله ورتب الفلاح على فعله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[الأعلى:14-15]، من زكى نفسه بطاعة الله أفلح، ولا يترتب الفلاح إلا لذوي الإيمان، لقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾[المؤمنون: 1-6].
هؤلاء هم الذين ظفروا بالفلاح، ولا يفلح إلا من علم الله سبحانه وتعالى صدقه وإخلاصه وتقواه وصدق نيته لله سبحانه، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة:35]، ولا يفلح إلا من علم الله خيره؛ لقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77]؛ فرتب الله سبحانه وتعالى الفلاح على عبادة الله وعلى فعل الخير، ومادام الأمر كذلك؛ أن من توفر فيه ذلك كان من المفلحين، فإن أعظم ما يجب أن يقتنع به العبد، وأعظم ما يفلح به هو قناعته بالحق والهدى، هو تصحيح عقيدته على السداد؛ ففي صحيح مسلم من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً»، فهذا الذي يذوق طعم الإيمان، وهذا الذي يفلح بالجنة والرضوان؛ وذلك لأنه رضي وقنع بالله سبحانه وتعالى؛ بربوبيته، وبألوهيته وبأسمائه وصفاته، رضي أن يكون عبداً لله لا لغيره، رضي أن يكون كل حياته لله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام:162-163]، رضي أن لا يعبد إلا الله، ولا يدعى فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يذبح إلا لله، ولا ينذر إلا لله، ولا يرجى إلا هو فيما هو من شأنه سبحانه وتعالى، ولا يخاف إلا منه فيما هو من شأنه سبحانه وتعالى، وهكذا المحبة وهكذا التوكل.. وهكذا سائر العبادة والطاعات.
فهذا الذي توفر فيه ذلك؛ رضي بالله رباً وهو المفلح حقاً، وهكذا رضي بالإسلام ديناً: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19]، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85].
هذا هو الدين الذي رضيه الله له: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3]، ورضي برسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً، ويقبل عنه كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل آتانا ذلك: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه»؛ آتاك الله الإسلام فاقنع به، آتاك الله السنة فاقنع بها: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر:7] في كل صغيرة وكبيرة يجب القناعة بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التمرد على شيء من ذلك لا من الأقوال والأفعال واللباس، لا مما عدى ذلك مما في العقيدة والقلوب والنوايا والإخلاص كله لله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام:162] ظاهراً وباطناً، قائماً وقاعداً، ضاعناً ومقيماً، ليلاً ونهاراً؛ كل حياته يجعلها لله سبحانه وتعالى، هذا هو الرضا، هذا هو الأخذ ما آتانا الله عز وجل، ولما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾[الحشر:7]: «وقنعه الله بما آتاه».
فيا أيها المسلم! آتاك الله خيراً كثيراً؛ أعطاك الله الإسلام، أعطاك الله الدين الحق: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾[الفتح:28]، آتاك الله عز وجل الهدى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾[النور:54]، ولا يجوز التشكك والارتياب فيما آتانا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء قليل ولا كثير، لذا ذم الله سبحانه وتعالى المنافقين؛ لأنهم كانوا في ريبهم يترددون، ومن أجل ذلك صار منهم ما صار مما أنتم تعلمون؛ بسبب عدم اليقين وعدم القناعة بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[التوبة:45]، وصار تكذيب الرسل، وصار أهل النار هم الذين يترددون في ريبهم وشكوكهم، وليست لهم قناعة فيما آتاهم الله وبما آتاهم الله.
فواجب على المسلم أن يصحح عقيدته، هناك أمور لا تقبل الشك، ولا تقبل الارتياب أبداً؛ كتاب الله لا يجوز فيه الشك أنه حق، وأنه يجب اتباعه والامتثال له، والعمل به، في كل آية من آياته كله حق: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد:16]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:2:1]، أي: لا شك فيه، لا ريب فيه أنه هدى، ومن شك أنه ليس بهدى، أو أن بعضه هدى وبعضه ليس بهدى، أو أن حرفاً منه ليس بهدى، فإن هذا الشك كفر، إن شكاً في كتاب الله كفر: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:2]، ووصفهم الله عز وجل بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة:5:3].
هذا هو سبيل الفلاح وهذا سبيل الإمامة؛ القناعة بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة دون افتئات أو تقديم أو تأخير: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[الأحزاب:36]، والذي يختار ما يشاء ويترك ما يشاء ما حكمه؟ حكمه أنه عاصي، ومعصيته ربما أدت به إلى الكفر في بعض الحالات، قال الله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾[الأحزاب:36].
إننا نعاني ونشكو مما نراه مما دلت عليه هذه الآية؛ أن بعض المسلمين يختار من الدين ما يشاء ويترك ما يشاء، وكأن الدين فوض إليه هو أن ينتخب منه ما يوافق الذوق والمزاج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[البقرة:208]، ناداهم الله بالإيمان وحثهم على أن يكونوا منقادين مذعنين لكل ما جاء به ولكل ما أتى به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الناس! إن الارتياب قد خبط أمماً من الأمم، لهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾[السجدة:1-3].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾[ص:1-8]، الشك خبط أذهانهم، الشك دفع بهم إلى تكذيب الرسل، عدم ثبوت العقيدة الصحيحة في قلوبهم زعزعتهم؛ أدت بهم إلى هذه المتاهات والقلاقل والفتن والبلاء، كل ذلك بسبب عدم القناعة بالحق وبما جاءت به الرسل، الشك جعلهم يشكون في الله، عدم ثبوت العقيدة الصحيحة في الله وفي رسله، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾[إبراهيم:9]؛ بسبب شكهم ارتابوا؛ كذبوا الرسل، ردوا الحقائق؛ الحقائق واضحة ردوها بالشكوك والظنون: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾[إبراهيم:10].. الآيات.
الشك جعلهم يكذبون بالساعة ويرتابون فيها: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾[الفرقان:11] * ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾[الفرقان:12].
جعلهم يرتابون في البعث: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾[الحج:5].. كل هذا: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾[الحج:5]، كل هذا لإقامة الحجة والبيان لتثبيت العقيدة الصحيحة في قلوبهم ودفع الشكوك والتوهمات التي قلقلت أمماً وأهلكتهم.
فيا أخي! تجنب الشكوك يا أيها المسلم، أنت على بصيرة، يقول الله لنبيه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[يوسف:108]، فما دمت تابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت على بصيرة وعلى شريعة بينة، لست متخبطاً، وإنما يأتيك الشك والارتياب والتخبطات بقدر بعدك عن الحق والسنة، أما ما دمت ماسكاً بالسنة فأنت مستبصر، وإن حصل لك شيء من الطيف والغفلة، ثم تذكرت ما أنت فيه من القناعة فإن ذلك يزول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا﴾[الأعراف:201]؛ تذكروا أن لهم شريعة كاملة يثبتون عليها يستبصرون يذكرون الله عز وجل: ﴿تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف:201]، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾[الجاثية:18-19]، ما أحد سيغني عنك يا أخي من الله شيئاً ما أحد سينفعك، ستبقى وحدك، ستموت وحدك، ستبعث وحدك، ستواجه رب العالمين وحدك، ستنزل قبرك وحدك، ستدخل فيما أنت عملت بسببه وحدك إما جنة وإما نار وحدك: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس:34-37]، ﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾[يونس:30].
عقيدة يجب أن تثبت العقيدة الصحيحة في الله وفي رسول الله عليهم الصلاة والسلام، وفي كتاب الله أنه حق، وفيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الافتئات عليه لا قليلاً ولا كثيراً: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فمن ضعف العقيدة والشكوك البائرة: الظن المختلف، سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل يخذل أولياءه وينصر أعداءه، هذا من الشكوك والتوهمات الشيطانية، وهكذا الظن والتوهمات أن الله يخلق العبد ويضيعه ولا يرزقه كذلك كل ذلك سوء ظن بالله؛ لأن وعد الله حق: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[العنكبوت:60]، ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[هود:56].
الظن أن الله لا يعلم خلقه ولا يعلم ظواهرهم أو بواطنهم؛ كل ذلك باطل لقول الله عز وجل: ﴿لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾[الحاقة:18]، ولقول الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾[آل عمران:5]، وهكذا ظنون كثيرة وشكوك وتوهمات وعقائد فاسدة أدت بالعباد إلى أن كل إنسان يريد أن يأخذ حقه بيده، وكما أوعز لهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم أنك إن لم تكن ذئباً تأكلك الذئاب؛ فهذا يبطش بهذا، وهذا يظلم هذا، وهذا يسفك دم هذا، وهذا أيضاً يبغي على هذا، لو أن الإنسان بقي مفوضاً أمره لله سبحانه وتعالى لاجئاً إليه، عاملاً بالأسباب التي بينها سبحانه وتعالى، هذا مما أراده الله عز وجل.
أيها الناس! إن الظنون والشكوكات والتوهمات لا تزيل ما كان يقيناً، وهذه قاعدة متيقنة ثابتة بأدلتها البينة، فلا يجوز أن يتأرجح الإنسان في حق معلوم بالكتاب والسنة، ولا في شيء واضح بين جلي مبرهن عليه؛ لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وفي مسلم أو في بعض السنن أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: «يا رسول الله الرجل يجد في بطنه شيء؟ قال: لا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»، استدل أهل العلم بهذا الحديث: على (أن الشك لا يزيل إلا باليقين)، وهذه القاعدة تدخل تحتها عدة قواعد، ومن تلك القواعد: (على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين) فمادام الأصل هو عدم ثبوت ذلك الشيء الذي ادعي به على شخص من الأشخاص، وإنما الدعوى عليه طارئة، كان إما أن يأتي بالبينة، وإما فلا حجة له في ذلك، وليس له إلا اليمين فقط، هذه أصول.
ومن ذلك العمل بـ(البراءة الأصلية)، فالإنسان إذا كان على شيء على الإسلام هو على الأصل، لا ينتقل من الإسلام إلا بناقل صحيح موثق، على السنة لا ينتقل من السنة إلا بناقل صحيح موثق مبرهن، هكذا الأخذ بالأصول، هذه قاعدة تندرج تحتها عدة قواعد، ومن ذلك: أن من شك في صلاته أصلى أربعاً أم ثلاثاً بنى على اليقين، بما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «فليجعلها ثلاثاً وليكمل ركعة وليسجد للسهو، فليبن على ما استيقن» يبني على اليقين، وإذا شك أطاف ستة أشواط أم سبعة أشواط جعلها ستة وبنى على اليقين وأكمل واحداً: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وهكذا إذا شك أهذه مذكاة أم أنها ميتة وجب عليه الابتعاد عنها كلها؛ عن اللحم الذي كان مخلوطاً بالمذكاة والميتة: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، الأصل تجنب المحرمات والبعد عنها، وإذا شك في أن هذا البيع صحيح أو ليس بصحيح، أو أنه بيع مرتاب فيه تجنب ما كان فيه من الريب، من الغش: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
وهناك أصول وثوابت تندرج تحت هذه القاعدة التي هي: أن اليقين لا يزال بالشك؛ ذلك لضعف الشك وضعف الظنون وأنها طارئة، وأن اليقين هو المطلوب، والذي أنزل الله به كتبه والذي أرسل الله به رسله.
فعلى المسلم أن لا يكون متخبطاً متشككاً، وأن يأخذ بالأصول والثوابت، وأن يأخذ كذلك بما تيقن به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يصير في ذلك على ما هو واضح جلي بين، كل هذا أمر مطلوب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾[الصف:2-3]، قال: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾[يونس:36]، قال سبحانه: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾[فصلت:6]، والاستقامة إليه لازمة في هذه الأمور كلها.
ونسأل الله التوفيق.
تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_351.html