2009/07/12
الباعث على إنكار أم الخبائث

 

[الباعث على إنكار أم الخبائث]
خطبة جمعة
(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
===================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ))[البقرة:172]، ويقول سبحانه وتعالى: ((كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ))[المؤمنون:51]، وحرم الله سبحانه وتعالى أطعمة على العباد، وأحل الله عز وجل أطعمة للعباد.
وقال عز وجل: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ))[المائدة:3]، وقال سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33]، وقال عز وجل: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الأنعام:151].. إلى آخر الآيات، وقال عز وجل: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ))[النحل:116].
فأبان الله عز وجل في كتابه أن الإنسان متعبد لله عز وجل بطاعته، وأنه لا يأكل كل ما يريد، ويشرب كل ما يريد، سواء كان حلالاً أو حراماً، إنما هذا شأن الكفار وليس شأن المؤمن: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ))[محمد:12]، أما المؤمن فهو متقيد بقيود شرعية هي له في غاية الثبات، وفي غاية الزكاء، ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[البقرة:229]، وقال: ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ))[الطلاق:1]، وفي الحديث: {إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء فلا تبحثوا عنها}.
وإن مما حرمه الله سبحانه وتعالى في كتابه نصاً ما ذكره الله سبحانه وتعالى مبيناً لتحريمه تدريجياً؛ لأنه كان عند الناس يعتبر من المطعومات الرائجة، ومن الأقوات الحاصلة الضرورية اللازمة بين أوساطهم، فأخبر الله عز وجل بتحريمه قليلاً قليلاً حتى انتهى الناس عنه، ألا وهو ذلك الشراب المسكر المغتال للعقول.
فأول تحريمه: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا))[البقرة:219]، الخمر فيه إثم كبير، وفيه متاجرة للناس، وكل المحرمات التي يتجر فيها، فيها نفع مادي ولكنه محرم، نفع في الدنيا وضرر في الآخرة، نفع مالي وضرر جسمي، نفع مادي وضرر قلبي، نفع مادي وضرر عقلي، فمن هذا الوجه النفع في الخمر، وليس فيه نفع في دنيا ولا أخرى إلا فيما يتعلق بالاكتساب المادي.
المرحلة الثانية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ))[النساء:43]، نهاهم الله أن يصلوا وهم سكارى؛ لأن الصلاة يجب أن يقوم إليها المصلي وهو يعي ما يقول، وكانوا يشربون الخمر، وإذا كان قرب الصلاة لا يشربونها؛ حتى يقومون إلى الصلاة وهم يعون ما يقولون وليسوا على سكر.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ))[المائدة:90-91]، قالوا: انتهينا.
وجاء الخبر إلى أبي طلحة رضي الله عنه وأبو عبيدة ومن معهم في ذلك المكان يسقيهم أنس بن مالك رضي الله عنه من ذلك الشراب، فقال: قم يا أبا طلحة! إلى هذه الجرار فأهرقها، جرار يتاجرون فيها ويدخرونها أكثر من ادخار الزيوت والسمن والعسل، ومع ذلك قام أنس بن مالك رضي الله عنه إلى تلك الجرار فأراقها حتى سالت في سكك المدينة، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، استجابة سريعة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الشراب أخبر الله سبحانه وتعالى عنه أنه رجس، والنجاسة فيه نجاسة معنوية، فإنها نجاسة الفساد، واقتراف الفتن والمعاصي، ويعتبر من أم الخبائث، الخمر أم الخبائث، فقد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنهم اختلفوا في أكبر الكبيرة وأعظم الكبيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بعد الشرك بالله عز وجل، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فأرسلوا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك فأخبر الرسول أنه الخمر، الخمر أعظم كبيرة، فجاء الرسول فأخبر أولئك النفر فاستعظموا وتواثبوا إلى عبد الله بن عمرو يسألونه في ذلك، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {كان ملك من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره: بين أن يقتله، وبين أن يشرب الخمر، أو يقتل نفس حرمها الله، أو يزني، أو يأكل الخنزير، فامتنع عن ذلك كله فشرب الخمر، فلما شرب الخمر لم يمتنع عن شيء أراده منه، بعد شرب الخمر انتهك القتل، وأكل الخنزير، وارتكب الزنا}.
وكان عثمان رضي الله عنه يسميها بأم الخبائث؛ لأن من وراء شرب الخمر أن يصير الإنسان مسلوب العقل، لا يشعر بما يقول.
وكانت لعلي ناقتان، تيسرت له من المغنم، فعقل ناقتيه وهو يجهز أن يأتي عليها بالإذخر ليبيعه ويجعله وليمة على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما حمزة رضي الله عنه في شرب له، قبل تحريم الخمر، قالت بعض القينات: ألا يا حمز للشرف النواء، تحثه على نحر الإبل، فقام حمزة رضي الله عنه وبقر بطني الناقتين واجتب أسنمتهما، وجاء علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! ما رأيتك اليوم، -أي: أنه شيء أفظعه- فقام معه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقفا على حمزة رضي الله عنه نظر إليهما وصوب النظر وشخصه ثم قال: وهل أنتما إلى عبيد لأبي!!)، يقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ولمن معهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى القهقرى خوفاً من أن يثب عليهم حمزة رضي الله عنه، وهو في شرب له.
فإن شارب الخمر ممكن أن يقتل أقرب قريب، ويقع على أمه، وعلى أخته، ويرتكب أفحش الفواحش، وأردى المحرمات، يسلب العقول؛ ولهذا وصف الله عز وجل خمر الجنة بأنه لا يغتال العقول: ((لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ))[الصافات:47]، يقول الله سبحانه وتعالى: ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى))[محمد:15]، خمر لذة للشاربين، ولا يغتال العقول.
إن هذا الخمر يعتبر شراب الغواية، ومن شرب منه فإنه سلك سبل الغواية بشتى أنواعها، يقول الكلام الباطل، ويفعل الباطل، ويرتكب الفجور؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة أسري بي أتيت بقدحين من لبن وخمر، فنظرت إليهما فأخذت اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك}، الخمر شراب الغواية.
إن هذا الخمر شربه وتفشيه نذير بهلاك الأمة، وبدمار الأمة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق}.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى يظهر الجهل ويقل العلم، ويظهر الزنا، ويشرب الخمر، ويكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد}، علامة من علامات الساعة، علامة للأشرار، لا يشرب الخمر إلا الأشرار، ولا يمكن أن يشربها مؤمن، هذه علامة من علامات الهلاك.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن}، أخرجاه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شراب مؤذن بالهلاك واللعنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، يبيتون على شرب بجانب علم، فيبيتهم الله ويضع عليهم العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير}.
شراب مؤذن باللعنة؛ لما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وساقيها والمستقاة له، وآكل ثمنها} حتى عد عشرة من هذا الضرب، إلى آخر الحديث.
عشرة ملعونون، شربة الخمر، وعاصر الخمر، وبائع الخمر، والمتعاونون في إيجاد الخمر ملاعين بنص الوحي المبين، يا معشر الملاعين! ارفقوا بالأمة، ملاعين بنص الوحي المبين كل من أورد الخمر أو أعان على نشره واستيراده وشربه وبيعه وشرائه أو شربه.
ثبت عند الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن وفداً من اليمن من جيشان -وجيشان باليمن- أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {يا رسول الله! إنا نشرب هذا الشراب، فقال: أومسكر هو؟ قالوا: نعم، قال: كل مسكر حرام، وإن على الله عهداً أن من شرب المسكر أن يسقيه من ردغة الخبال، قالوا: وما ردغة الخبال يا رسول الله؟ قال: عصارة عرق أهل النار}.
وهذا يدل على أن شارب الخمر أنه مهدد بالطرد من الجنة وبإدخال النار؛ لما في الصحيحين أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: من شرب الخمر ولم يتب منها لن يشربها في الآخرة.
فبيان حديث أبي الدرداء وحديث أبي موسى وجملة أحاديث أنه لا يشرب الخمر، بمعنى: لا يدخل الجنة، على ما قال الخطابي وجماعة من أهل العلم.
ثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر}، وجاء في لفظ آخر: {ولا ديوث}، والخمر سبيل الدياثة، وسبيل العقوق، وسبيل شتى المعاصي، جاء عن ابن عباس وعن أبي موسى وعن أبي الدرداء وعن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم.
ومن أجل ذلك شارب لا تقبل له صلاة؛ لأنه مرتكب لمعاصي، سواء صلى في حال شربه، أو صلى وهو في غير حال شربه، ما دام مصراً على شرب ولم يتب منه لا تقبل صلاته أربعون يوماً؛ لما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن شرب الخمر لا تقبل صلاته أربعون يوماً}، وجاء عن غيره، وقال صلى الله عليه وسلم: {ومن مات في مثانته شيء منها حرم الله عليه الجنة}.
إن هذا الشراب يجب سد الذريعة إليه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وفد عبد القيس لما وفدوا عليه قالوا: {يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولا نخلص إليك إلا في أشهر الحرم، فمرنا بأمر نبلغ به قومنا وندخل به الجنة، قال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الحنتم والمزفت والدبا والمقير}، وهذه أوعية كانوا ينتبذون فيها، وسرعان ما يسكر النبيذ فيها؛ لحرارتها، فلهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ في هذه الآنية التي يسرع الإسكار فيها، ثم نسخ هذا الحكم، أعني: من حيث الانتباذ في الآنية بحديث بريدة رضي الله عنه قال: {كنت نهيتكم عن الانتباذ في هذه الآنية فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً}، وقال في الحديث الآخر: {وما أسكر قليله فكثيره حرام}.
أيها الناس! إن من أراد الفلاح واجب عليه البعد والاجتناب لهذا المحرم وإنكاره.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ))[المائدة:90]، هؤلاء موظفون مع إبليس، الذين يروجون الخمور ويشربونها جنود الشيطان، فإن الخمر عمل الشيطان، وهؤلاء يوزعون أعمال الشيطان، ((رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))[المائدة:90]، في الخمر يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثبت عنه ذلك مرفوعاً: أنه من العنب والتمر، ومن العسل والشعير، ومن البسر، قال: {والخمر ما خامر العقل، وكل ما أسكر فهو حرام}.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فالواجب على المسلمين إقامة الحدود الصارمة في هذه المحرمات البينة الواضحة، هذا هو الواجب على المسلمين، فقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على شارب الخمر، وجلد في الخمر أربعين جلدة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد عمر في الخمر ثمانين، وكل سنة.
ومن لم ينته عن شرب الخمر واستحل شربه وجب قتله، فإنه قد استحل ما حرم الله؛ لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان وابن الديلمي وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب في الرابعة فاقتلوه}، ولما وفد أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن بعض الأشربة وقالوا: {يا رسول الله! إنهم لا يستطيعون تركه، قال: فمن لم ينته عنه فاقتلوه}، وهذه محمول على من تجرأ على حرمات الله واستحلها، وليس محمولاً على من شرب منها ولم يستحلها.
نعم، وإن هذا التمادي في الباطل مؤذن بالشر، ومؤذن بالفتنة، ومؤذن بالافتئات، فإن المؤمنين يغارون على دينهم، أن تباع الخمور في الشوارع، لو أن إنسان باعها ولم يشربها فإنه يعتبر آثماً، ملعوناً مطروداً، كيف بمن يتعامل بها بجرأة؟!
عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن رجلاً باع الخمر، فقال: قاتل الله فلان، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لعنة الله على اليهود والنصارى لما حرم الله عليهم الشحوم أذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها}.
وقال رجل حين شرب الخمر: قدر الله علي، قال: وأنا قدر الله علي أن أجلدك ثمانين جلدة.
إن هذه الجريمة العظيمة جريمة ارتكاب هذا المحرم كفيلة بانتشار سائر الفواحش؛ لما ثبت من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: {من باع الخمر فليشقص الخنازير}، ومعنى ذلك: أنه ن تجرأ على شرب الخمر فهو إلى التجرؤ على لحم الخنزير وعلى غيره من المعاصي أولى.
أيها الناس! إن أمر تحريم الخمر واضح بالكتاب والسنة، وإنه أمر تحريم الخمر معلوم عند كل قاصي وداني، وهو من المعلومات الضرورية مما يعلم بالضرورة، وإن تفشي ذلك ليؤذن بالدمار على العباد والبلاد؛ فواجب إنكار ذلك باليد، وواجب إنكار ذلك باللسان، وواجب إنكار ذلك بالقلب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أتي به وهو شارب قال: اضربوه، قال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بيده. فعلى ما ينكرون؟ على من أهانه الله ورسوله.
الواجب إهانة السكارى وبائعوا الخمر، وأن من وجد من ذلك المنكر أزاله بيده، وأن من رؤي وهو على هذا الحال يهان، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإهانة ذلك الذي شرب الخمر، هذا هو، وليس يختص ذلك بواحد دون آخر، فإن الدين واجب الجميع، وإن إقرار المنكرات فساد في الحياة، تفشي المنكرات من فساد الحياة.
كيف يباع الخمر ويشترى؟! كيف ينشر الخمر في بلدان المسلمين، ويشرب في بلدان المسلمين، وفي فنادق المسلمين، وشوارع المسلمين دون نكير ممن يجب عليهم ذلك ومن غيرهم؟! والله عز وجل يقول: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ))[الحج:41].
تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_416.html