2009/07/12
الجهد الميسور في تحذير الناس من إثارة الشرور

 

الجهد الميسور في تحذير الناس من إثارة الشرور
 
 
 
 
خطبة جمعة:
(8/ربيع الثاني/1427هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري - حفظه الله تعالى)
=======================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! إن دعوة أنصح الناس للناس وهم أنبياء الله ورسله، قامت على إزالة الشر والتحذير منه والدعوة إلى الخير والحث عليه، وما من نبي ولا رسول بعثه الله عز وجل إلا وكانت دعوته مرتكزة على هذا؛ إبعاد الشر عن الناس بقدر ما آتاه الله من قوة، وجلب الخير إليهم بقدر ما أمده الله من قدرة وما مكنه الله منه، والأمر لله من قبل ومن بعد، يدل على ذلك أدلة كثيرة منها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتظر، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاجتمعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنه ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان حقاً عليه أن ينذر أمته شر ما يعلمه لهم، وأن يدلهم على خير ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع}.. الحديث، وشاهدنا منه أن أنبياء الله ورسل الله عليهم صلوات الله وسلامه الذين يذكر الله عنهم أن ما من أحد منهم إلا ويقول مبيناً لنصحه لقومه: ((وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ))[الأعراف:68]، أو ويقول: ((وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:62].. إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على نصحهم للخلق، وإن من نصحهم لهذه الأمم تحذيرهم من أعظم الشر، فإن أعظم الشر على الإطلاق وأعظم الأشرار وأشد الأشرار على الإطلاق هو الشرك والمشركون: ((قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ))[المائدة:60]، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ))[البينة:6]، بسبب شركهم صاروا شر البرية، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها كنيسة بالحبشة وما فيها من الزخارف، قال: إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو قال العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله}، بسبب شركهم بالله سبحانه وتنديدهم له، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء}، زاد أحمد في مسنده بسند صحيح: {والذين يتخذون القبور مساجد}.
فلهذه الشرور الحاصلة فيهم بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمم لإزالة هذا الشر، وما من نبي بعثه الله إلا وطرق أسماع قومه بإبعادهم وزجرهم عن هذا الشر المستطير: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))[لقمان:13]، فأظلم الظلم وأعظم الجرم هو الشرك بالله سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36]، ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))[الأحقاف:21]، ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25]، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما بعث قال أبو ذر : إني كنت رجلاً من غفار، وسمعت برجل بمكة يقال: إنه نبي، فقلت لأخي: اذهب فانظر خبر هذا الرجل ثم أخبرني، فلما أتى إليه واستمع منه، قال: لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر، وهذه منقبة في كل زمان ومكان وأينما وجدت أن الذي يدعو إلى الخير وينهى عن الشر هذه منقبة فيه، فتوسم أبو ذر رضي الله عنه من هذا القول أن هذا نبي حقاً، ولكنه قال: لكنك ما شفيتني ولا يزال راحلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه وجلس معه وسمع كلامه.. القصة بطولها في قصة أبي ذر وإسلامه رضي الله عنه.
أيها الناس! إنه لا يعلم خير الإنسان إلا بدعوته للخير وبإظهاره للخير، فإن عمر بن الخطاب يقول: من أظهر لنا خيراً أمناه وقبلناه، ومن أظهر لنا شراً لم نأمله ولم نقبله وإن قال: سريرته حسنة، فالأمور تؤخذ بظواهرها، ويعرف خيرها من شرها بظواهرها، كما قال عمر وعلى ذلك أدلة كثيرة، ألا وإن من يرجى خيره يصير خير الناس، فإذا أردت أن تصير خير الناس فليرجى خيرك في أوساط الناس، أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وإقامة الدين في نفسك وقومك وأهلك، وفي القريب والبعيد والصغير والكبير، دون مجاملة ولا محاباة، ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أنبئكم بخيركم من شركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره}، فمن كان على هذا الحال يرجى خيره ويؤمن شره هذا خير الناس، ومن كان على عكس ذلك هذا شر الناس، هذا ميزان للأشرار وميزان للأخيار، وإن طيب حياة الإنسان في هذه الدنيا والأخرى بقدر سده لأبواب الشرور وفتحه لأبواب الخير، كما ثبت عند ابن ماجه من حديث سهل وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لهذا الخير خزائن ولتلك الخزائن أبواب، فطوبى لمن كان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن كان مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر}، وليختر الإنسان لنفسه ما شاء: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))[الإنسان:3]، فإما أن تختار طوبى وتصير مفتاحاً لمفاتيح الخير في أقوالك وأفعالك وحركاتك وسكناتك ودعوتك وليلك ونهارك حتى تلقى الله على ذلك الحال، ثم يجزيك الجزاء الأوفى بطوبى، وإما أن تكون مفتاحاً للشر وتصير على ذلك الحال حتى تلقى الله ويجزيك على عملك بالويل والعذاب والثبور إلا أن يتجاوز الله عمن شاء من خلقه، وإلا فكل من كان هذا شأنه يستحق الويل بقدر مع عند الإنسان من سد أبواب الشرور على الناس فإنه يصير أفضل الناس، في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال له أبو موسى : يا رسول الله من أفضل الناس؟ قال: أفضل الناس من سلم المسلمون من لسانه ويده}، وفي رواية: {خير الناس من سلم المسلمون من لسانه ويده}، فإذا كفيت المسلمين شرك، فإنك تصير من خير الناس، كيف إذا كفيت المسلمين شرك وشر غيرك من الناس، هذا طريق الجنة، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن طريق المسلمين كانت تؤذي المسلمين}، كفى المسلمين شر شجرة آذتهم، فتقلب في الجنة بسبب دفع ذلك الشر عن المسلمين، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من خير الناس؟ قال: رجل مجاهد في سبيل الله، قيل: ثم من؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه يتقي ربه ويكف عن الناس شره ويقي الناس شره} هذا خير الناس، إذا كان مقبلاً على تقوى ربه وعبادة ربه ويدفع شره عن الناس، وفيهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على كل مسلم صدقة، قيل يا رسول الله إن لم يجد؟ قال: يعمل بيده ويتصدق، قيل: يا رسول الله إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: يا رسول الله، إن لم يستطع؟ قال: يكف شره عن الناس، فإن ذلك صدقة منه على نفسه}، صدقة تصدق على نفسك بكف شرك، بكف لسانك، بكف يدك، بكف فكرتك، بكف شركياتك، بكف بدعك وخرافاتك وتحزباتك، كف شرك عن الناس تكون قد تصدقت على نفسك: {من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة} كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، كف شرك عن الناس والفتنة عن الناس والشر عن الناس تصير من الناجين، ثبت عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: {يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك}، وهذا معناه: أنه يصير كافاً شره عن الناس، فإنه يصير ناجياً من الفتن بقدر ما يكف به من الشر، ولما قال معاذ : {يا رسول الله! أويؤاخذ الناس بما يتكلمون؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم}.
إن كف الشر عن الناس أمر عظيم جداً، ولهذا تجد الشريعة مبنية على دفع المضرات وعلى جلب المنافع، الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد عن الناس في سائر شئونها، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين تكلم ابن سلول، وقال: ((لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ))[المنافقون:8]، وأنزل الله توبيخ ابن سلول في القرآن في سورة كاملة بسبب هذا القول، قال عمر: {يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه}، فإن هذا يجلب على الناس شراً وربما أدى بهم إلى الارتداد خوفاً من ذلك الفعل، إذ أنهم يشيع الناس بين بعضهم البعض أن من أسلم وصار تحت هذا الرجل أو دعوة هذا الرجل قتله، ويجد المنافقون مدخلاً ومسلكاً لفشو فتنتهم ولنشر شرهم بين الناس.
أيها الناس! رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل في الكعبة شيئاً، مع قدرته المادية فيما آتاه الله عز وجل من المال الحلال من الزكوات والصدقات وغير ذلك مما يستحق أن يصرف في بيت الله عز وجل، كل ذلك درءاً لما قد يتوقع من الشر حاصل على الناس: {يا عائشة! لولا أن قومك حديث عهد بشرك، -وفي رواية- بجاهلية، لنقضت الكعبة، ولجعلت لها بابين ولأنفقت كنزها في سبيل الله، ولجعلتها على قواعد إبراهيم}، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر خوفاً أن يحصل في قلوب الناس شر، {ولما جاءت إليه زوجته صفية في المسجد وهو معتكف حادثته قليلاً ثم انصرف معها يقلبها إلى بيتها، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل آخر، قال: على رسلكما إنها صفية، -وفي مسلم- إنها صفية إنها زوجتي، قالوا: سبحان الله يا رسول الله!}، يعني: أوتظن يا رسول الله أنا نشك أن يكون عندنا شر أو سوء في ذلك، قال: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً}، يحصل في قلوبهما بعض الوسواس: من هذه المرأة مع رسول الله؟ فتحصل الهلكة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما هذا الشر، وفيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بحنين وحصلت الغنائم كان يعطي الرجل من قريش الإبل الكثيرة، فقال الأنصار رضوان الله عليهم: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فلما بلغه هذا الخبر جمعهم وقال: يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟ قالوا: يا رسول الله، أما ذوو الرأي منا لم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم، فقالوا: كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو شئتم لقتم، جئتنا وحيداً فآويناك، وجئتنا كذا وكذا وكذا، وجعل يثني عليهم ويذكر مناقبهم، ثم ثنى بعد ذلك بما من الله سبحانه وتعالى عليهم به من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما ترضون يا معشر الأنصار أن ينقلب الناس بالشاه والبعير وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ والله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، وفي تلك الموعظة البليغة غط الصحابة الأنصار رءوسهم ولهم خنين بالبكاء} دفع عنهم الشر الذي كان في قلوب الصغار، وسكت عنه بعض الكبار، ووعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم ببعثته.
دفع الشر عن الناس ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك أن يأتي زمان فيه أناس مرجت عهودهم وقلت أمانتهم واشتبكوا فصاروا هكذا، قالوا: يا رسول الله ما تأمرنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، وتأخذون أمر خاصتكم وتدعون أمر عامتكم}، ومعنى ذلك الإقبال على الخير، الإقبال على الطاعة، الإقبال على العلم وأهله، الإقبال على السنة وأهلها، الإقبال على العبادة، الإقبال على الطاعة: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فحثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتن وعند اشتباك الفتن أن يقبل الإنسان على الطاعة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإنه لما تثاور الأوس والخزرج في حادثة الإفك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من يعذرني في بلغ أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فجعل يسكت الناس ويخفض الناس حتى سكتوا وسكت}، كل ذلك إزالة للشر عنهم وأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقال لبلال: {إذا حضرت صلاة العصر فمر أبا بكر ليصلي الناس، حين حصل بين الأوس والخزرج شر ذهب يصلح بين الأوس والخزرج؛ إزالة للشر الذي حصل بينهم، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون وجعلوا يصفقون لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، -أي: ما يريدون أن يؤمهم غير رسول الله، فأشار لأبي بكر، فلما رآه رفع يديه وحمد الله، ثم رجع في الصف وأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم قال: ما لكم إذا نابكم شيء في صلاتكم صفقتم؟ إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء}.. الحديث، شاهدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً، بل بعث من أجل ذلك؛ لإزالة الشر عن الناس، ولدفعهم إلى الخير، سواء كان هذا الشر في الأخلاق في الأقوال في الأفعال في سائر الحياة، حتى لو كان لفظياً فإن النبي صلى الله عليه وسلم سرعان ما يزيل ذلك الشر بدعوته إلى الخير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إني لأعطي أناساً لما أعرف في قلوبهم من الهلع والجزع أو قال: من الشر، وأكل أناس من الشر لما جعل الله في قلوبهم من الخير منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو: والله ما أحب أن لي بتلك الكلمة الدنيا}، فرب كلمة يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيل الله بها شراً عظيماً عن الناس، ويجعل الله بها خيراً كثيراً على الناس.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ففي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: {كان الناس يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن يدركني}، هذا شأن كل صالح مصلح يخاف على نفسه من الشر وعلى أمته من الشر، وأن الجاهلية هي الشر، وأن البدع هي شر، قال: {فجاء الله بهذا الخير -أي: الإسلام- فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر وقد جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: أناس يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: يا رسول الله ما تأمرني؟.. في آخر الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك}، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، من استشرف لها تستشرفه، فمن وحد ملجئاً أو معاذاً فليعذ به}، الذي يجد ملجئاً عن الشر يجب عليه أن يفر إلى ذلك الملجأ، وما أثنى الله عز وجل على الهجرة والمهاجرين من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين، ومن بلاد الأشرار إلى بلاد الخيرين إلا من أجل الفرار بالدين والبعد عن الشر، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن رجلاً فيمن كان قبل قتل تسعة وتسعين، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، قال: هل له من توبة؟ قال: لا، فقتله وكمل به المائة، ثم سئل عن أعلم أهل الأرض، فدل على عالم فأتاه فسأله: هل له من توبة، قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ اذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، -أناس أخيار وبلدته بلدة أشرار-، فانطلق ذلك الرجل طالباً للخير فاراً من الشر حتى انتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً على ربه، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأرسل الله ملكاً يقضي بينهم أن قيسوا بين الأرضين، فإلى أيهما أدنى كان له}.
الشاهد: أن من أقبل الله بقلبه على الخير نجا وأفلح، ومن أقبل الله بقلبه على الشر هلك، وهذا الرجل الذي كان بين الشريرين مكث دهوراً وهو ما زال يقتل، حتى تخلص منهم ونجاه الله من تلك الفتنة إلى بلاد الخير، فمجالسة الصالحين من أسباب الخير وحصول الخير وحصول النعمة والبعد عن الفتنة، والمخالطة للدنيا وأهل الدنيا، والمخالطة للأشرار وأهل الشر، لا يسلم صاحبها كالكير، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل الجليس الصالح وجليس السوء -جلس الشر وجليس الخير- مثل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المثل العظيم: كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إن أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة}.
أيها الناس! إن الله سبحانه وتعالى سيجزي العباد على ما عندهم من الخير ومن الشر يوم القيامة، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه))[الزلزلة:7-8]، فكل ما يعمله الناس من شر أو خير يرونه يوم القيامة بين أعينهم ماثلاً لهم، وعلى ذلك يجزون يوم القيامة: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ))[الأنبياء:47]، ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))[الكهف:49].ا.هـ
تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_418.html