2009/07/12
نماذج من ثبات الأسلاف عند حصول الفتن والاختلاف

نماذج من ثبات الأسلاف عند حصول الفتن والاختلاف
خطبة جمعة بتاريخ:
(9 شوال/ 1426هـ)
(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
 
 
 
 
تكملة هذه الشريط بخطبة جمعة بعنوان:
[تحذير المسلمين من الغش في الدين]
(خطبة جمعة: 5 ربيع الأول 1423هـ)
 ملاحظة : هذه الخطبة ليست مكتملة
===================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ((قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ))[الزمر:15-16], ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ))[الحج:11], فسمى الله سبحانه وتعالى الانقلاب عن الحق والهدى خسراناً مبيناً، وذلك الصنف يكون قد خسر دنياه وأخراه، وليس هناك خسران أشد من ذلك، خسران الدنيا والآخرة، وأعظم الخسرانين: خسران الآخرة، خسران النفس، وخسران الأهل، خسران النفس: بالهلكة في النار، وخسران الأهل: بالفراق وعدم اللقاء، وبالزج بهم في الفتنة لمن أطاعه منهم، لمن أطاع ذلك الخاسر من الأهل، فرب إنسان يخسر نفسه ثم يتسبب في خسارة ذريته وأهله، فيصير خاسراً ومتسبباً في خسران الأمم.
أيها الناس! إن أعظم خسارة على العبد هو الانحراف عن الجادة وعدم الثبات على الحق والهدى، ولو نظرت في حال المرتدين لرأيت أنهم من هذا الصنف، كل من ارتد عن دين الله كان يعبد الله على حرف فلم يطمئن لهذا الدين، وربما أصيب بفتنة فانقلب على وجهه، وهكذا شأن المنافقين الاعتقاديين لو نظرت في شأنهم وما ذكر الله عنهم علمت أنهم من هذا الصنف، صنف الذين لم يصبروا ولم يثبتوا، بعد أن رأوا الحق فخالجتهم أنفسهم بالردى، وأوقعتهم في خلاف الهدى، لم يصبروا على متابعة الحق ولم يروضوا أنفسهم على الطاعة: ((وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا))[النساء:142], فصار حالهم كما ذكر الله: ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا))[النساء:143], أي ضياع أعظم من هذا الضياع؟ وأي تيه أشد من هذا التيه؟ أن يصير لا إلى حق ولا إلى باطل، منبتاً منقطعاً منبتراً كالشاة العائرة بين غنمين، ومن ثبته الله عز وجل فإنه يكون قد ربح دنياه وأخراه.
ولقد امتن الله سبحانه وتعالى بنعمة الثبات على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا))[الإسراء:74-75], فبين الله في هذه الآية أن عدم الثبات من أسباب الضعف.. ومن أسباب الوهن، ضعف الحياة وضعف الممات كله مداره على الزعزعة وعدم الثبات، وأن من لم يثبت يصير ألعوبة بيد الكفار.. ألعوبة بيد الخداعين: ((لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا))[الإسراء:74], فالله ثبت رسوله صلى الله عليه وسلم.. ثبت قلبه.. وثبت كلامه.. وثبت جوارحه على الهدى والحق، فنجاه الله من الركون إلى الكافرين في قليل أو كثير أو صغير أو كبير، فإن من الثبات: عدم المبالاة بمن أهانهم الله.
أيها الناس! أن أمر الثبات على دين الله لهو الفارق بين الحق والباطل.. وبين المحق والمبطل.. وبين العز والذل.. وبين المكرمة والإهانة.. وبين النصر والخذيلة، فمن ثبته الله انتصر، ومن لم يثبته الله سبحانه وتعالى خذل: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:146-147], ((فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ))[البقرة:251]، ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[آل عمران:148].
والشاهد من ذلك: أن هؤلاء الناس من نصرة الأنبياء وأعوان المرسلين لما ثبتوا صار عزاً لهم، ونصراً لهم، لما استعانوا بالله، وطلبوا الله سبحانه، أن يمدهم بأعظم عون وهو الثبات، والله سبحانه وتعالى يقول: ((إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ))[الأنفال:12], جحافل الباطل إن لم يثبت الله سبحانه وتعالى العبد أمامها فأنها تنتصر، وإن ثبت الله العبد المؤمن أمامها تهزم، وفي معركة بدر ما قد ذكره الله سبحانه وتعالى من تثبيت المؤمنين، أمر الثبات في هذه الدنيا هو الفارق بين الحق والباطل والمحق والمبطل كما تقدم بيانه؛ لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنموذجاً عظيماً في الثبات قدوة.. سلفاً في الثبات على الحق، سواء في ذلك يوم أحد حين فر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلوا إلى الغنيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع النبل لأبي طلحة ويقول: {ارمِ فداك أبي وأمي -وكان أبو طلحة رامياً-}.
وهكذا يوم حنين حين فر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يركض بغلته إلى الكفار، ويقول: {أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب}، وكان إذا حمي الوطيس أو اشتد عليهم نبل الكافرين أو ما يحصل من المشركين لاذوا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولما جاء مسيلمة الكذاب بجحافله إلى المدينة ثم قال: إن قال محمد إن الأمر لي بعده آمنت به واتبعته، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جريدة بيده فقال: {لو سألتني هذه ما أعطيتك، ولم تعدوا أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، ثم تركه ومضى، وأني لأراك الذي أريت فيك} ثبات عظيم أمام النافقين والمرتدين، وأمام الكافرين ثبات عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ومن قرأ تاريخ الأنبياء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأى أن الله أعزهم ونصرهم ومكنهم بذلك الثبات العظيم، فيأتي النبي إلى قومه بجحافلهم وملوكهم وبأممهم وقوتهم، ويرد عليهم أقوالهم وأفعالهم المخالفة للحق، ويدعوهم إلى الله وحده سبحانه وتعالى، وربما سفه أفعالهم تلك بقوله كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيه إبراهيم قال الله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا))[الأنبياء:51-63], تهكماً عليهم ((بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ))[الأنبياء:63], ودافع الله سبحانه وتعالى عنه بسبب ثباته على الحق ودعوته إليه، أضرموا النيران: ((قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ))[الأنبياء:68-70].
 الثبات على الحق وعلى الهدى سبب للنجاة عكس ما يتصور كثير من الناس: أن الثبات على الحق سبب للضعف!! هذا تصور خاطئ، فرسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أنه ربى أصحابه على الثبات الذي هو سبب العز كان يقول: {لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاثبتوا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف, ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم}, حث على الثبات وسلوكه، ومن سبيل الثبات: اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وكان يعلمهم هذا الدعاء: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك}.
 الثبات سبب للعز والتمكين، فقد سمعت ما ذكر الله عن نبيه إبراهيم، وهو غاية في الثبات أمام المبطلين، وغاية في الثبات على أمر رب العالمين، رزقه الله الولد بعد أن سأله إياه ثم أمره بذبحه، فأراد أن يذبح ولده، ثباتاً على أمر الله: ((قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ))[الصافات:102], فصار الثبات في غاية من الأب وابنه وكلهم ثابت على أمر الله، فنجى الله الولد من الذبح، وأعز الله إبراهيم وولده وأكرمهما: ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ))[الصافات:107], وبشر الله بعد ذلك نبيه إبراهيم بإسحاق وجعل البركة في ذريته ونسله؛ بسبب ثباته، أمر عظيم! أن تربي ولدك ونفسك على الثبات على الحق كما أمر الله سبحانه وأوصى بذلك: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[البقرة:132], أي: اثبتوا على هذا الدين، والذي يتزعزع عن دينه، والذي يتزعزع فيما آتاه الله من الخير يفتن، إن الثبات من أسباب الفرج من الشدائد وسائر الكروب، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريق الغلام راهب فكان إذا مر إلى الساحر مر على الراهب فسمع منه فأعجبه كلامه، فبينما هو في مرة رأى دابة قد سدت الطريق على الناس، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أعظم أم أمر الساحر، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، فرمى الدابة فقتلها، ثم إنه كان على ذلك الحال حتى أخبر الراهب بذلك، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل منى، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني}, بلوى من الله سبحانه وتعالى لهذا الغلام ولكل من آمن، ولكن انظر عاقبة الثبات أن أحيا الله على يديه أمماً ميتة القلوب: {فقال إني لا أشفى أحداً إنما يشف الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي، قال ألك رب غيري؟ قال ربى وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بنيّ قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل.. وتفعل}؛ لأن هو الذي أرسله يتعلم السحر: {فقال إني لا أشفى أحداً إنما يشفى الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فأمر به فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوافاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر فألقوه، فإن رجع عن دينه},
وهذا أخف عذاباً منهم، تهديدات للغلام.. عسى أن يرتد عما هو عليه ليكسبه ذلك الملك فإنه هو الذي أرسله ليتعلم السحر: {فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه، فلما توسط البحر: فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ورجع إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، ثم قال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشى إلى الملك}, وهكذا عدة محاولات يحاول لهلكته وينجيه الله سبحانه؛ بسبب ثباته على الحق: {فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإذا فعلت ما آمرك قتلتني! فقال وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، فإذا اجتمعوا فخذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني}, ففعل كما أمره وهو يريد أن يثبت للأمة: أن الغلام له رب غير ذلك الدجال، أنه الله سبحانه وتعالى: {ثم قال باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام}.
 إذا: هناك رب غير الله سبحانه وتعالى أعجز هذا الملك أن يقتل هذا الغلام! فآمنا برب الغلام، فآمن الناس أجمعون، ويأتي الثبات الآخر من امرأة، من صبي أراد الله سبحانه وتعالى أن ينجي أمه من عذاب الله: {فخدت الأخاديد، وأمر بالنيران فأضرمت فيها ثم قال إما أن يرجعوا، ومن لم يرجع عن دينه فأقحموه في النار، فأتي بامرأة معها صبي} ثبت الله تلك المرأة بذلك على لسان ذلك الصبي، وهو صبي تحمله {فتقاعست أن تقع في النار هي وولدها، فنظر إليها ولدها وقال: يا أمه اصبري فإنك على الحق}, وكان ثبات تلك المرأة وصبر تلك المرأة عن طريق ذلك الصبي فوقعت: ((وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))[البروج:8]؛ كل ذلك كان بسبب إيمانهم بالله سبحانه وتعالى.
الشاهد: من ذلك أن الثبات سبب إنقاذ الأمم، وسبب نجاح الأمم، وسبب فوز الأمة لمن ثبت ولو كان واحداً بمفرده، فكم أحيى الله من الأمم على يد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بثباته.. وكم أحيى الله من الأمم على يد محمد صلى الله عليه وسلم.. وكم أحيى الله من الأمم على يد موسى عليه والصلاة والسلام حين أن أتى إلى فرعون وهو يدعي الربوبية: ((.. فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا))[الإسراء:101-102] أي: هالكاً ((فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا))[الإسراء:103], بسبب ثبات موسى عليه والصلاة والسلام حصل النصر لأمة بني إسرائيل في زمن موسى، وأهلك الله ذلك الجبار العنيد فرعون -عليه لعائن الله- وهكذا ترى أن ما من إنسان أعزه الله على ممر التاريخ إلا وله قسط من الثبات على الحق بقدر ذلك الثبات يرفعه الله سبحانه وتعالى.
يوسف عليه الصلاة والسلام مكر به إخوانه مكراً كباراً، ولكن قابل ذلك المكر كله في مواضع كثيرة بالثبات على الحق وعلى الهدى وحتى صار أيضاً أميناً على خزائن الملك، بعد أن صار عند إنسان عبارة عن رجل قد بيع مباع، وبعد حين يرفعه الله سبحانه وتعالى وتراوده تلك المرأة على نفسه فيثبت على الهدى، معاذ الله قال الله عز وجل: ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا))[يوسف:24-26], الآيات, وهو يقول: ((مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ))[يوسف:23], ويثبت مرة أخرى حين يدخل السجن ويؤمر بإخراجه من السجن، ولكن قبل أن تبرأ ساحته وقبل أن يعلم الناس أنه بريء من تلك التهم التي حصلت عن طريق النسوة، فيأبى حتى تأتي براءته، وحتى تعترف تلك المرأة أنها هي راودته عن نفسه: ((الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ))[يوسف:51-52].
 وهكذا مناقب يحصل عليها بسبب ثباته على دين الله الحق في ذلك الزمن، وبعده عن المنكرات، واعتماده على الله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فزعزعة أيما زعزعة تحصل في أوساط المسلمين، وضعف وخور، وتفلت وانحرافات، كم ترى من الناس فترة من الزمن نظيفاً مؤنقاً، مستقيماً زكياً نقياً.. مكرماً معززاً.. محبوباً مجللاً، ولا تدري إلا وقد انحرف؛ بسبب عدم الثبات على الحق، وعدم الصبر عليه.
إن هذا الثبات يحتاج منك إلى دعاء، وإلى لجوء إلى رب العالمين حتى تلقى الله عز وجل به، وأنت تصير إن شاء الله عز وجل من الناجين ومن أهل الجنة أن لقيت الله ثابتاً على الهدى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكوا عليه أذى الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: {كان من كان قبلكم يحفر له حفرة ثم ينشر بالمنشار ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه ولكنكم قوم تستعجلون}, فربى أصحابه على هذا الثبات على دين الله، وعدم العجلة، وعدم التقلبات، ولم يحصل منهم ذلك، وإنما حصل من أصحاب الريب وممن ذكر الله من أهل الردة، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النصحاء الأمناء، الأبرياء الأتقياء، فإن الله عز وجل جعلهم مضرب مثل لثبات، ومن هؤلاء: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الناس اختلفوا: أهو ميت؟ أم أنه رفع وسيعود كما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فجاء بما آتاه الله من القرآن والعلم، وربنا سبحانه يبين: أن العلم النافع من أسباب الثبات لمن صدق مع الله عز وجل: ((كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا))[الفرقان:32], فقرأ أبو بكر تلك الآية: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ))[آل عمران:144].
وكأن الناس لم يسمعوا بتلك الآية إلا ذلك الحين، وفي غاية من الثبات، وهو أيضاً في غاية من الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن حزنه ذلك الذي حصل في قلبه قابله بثبات عظيم أمام ما حصل له من الحزن، وفي يوم السقيفة كذلك، وعند الميراث كذلك، قال: (إني أخاف إن غيرت ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيغ) وعند الردة كذلك: (والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
فلهذا الثبات العظيم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته، صار أبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بإجماع المسلمين، وهكذا تتوالى سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما آتاهم الله عز وجل من الثبات، إنما ذكرنا هذا نبذة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه عبارة عن أنموذج لما آتاه الله من الفضل والعزة والمكرمة بثباته في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد موته.
ألا أيها الناس! الثبات الثبات أمام الفقر.. والثبات الثبات أمام الفتن.. والثبات الثبات أما الابتلاءات.. والثبات الثبات أمام أفكار الكفار.. والثبات الثبات على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كونوا داعين لاجئين إلى الله: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ))[إبراهيم:27], ومن حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين دفن رجل قال عثمان: لما فرغوا من دفنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: {استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل}.
دل هذا: أن الثبات يحتاج له العبد في حاله، ما من حالة في أحوالك في الدنيا في صلاة أو صيام أو زكاة أو حج أو قتال للكافرين أو كلمة حق أو أمر بالمعروف أو نهي عن منكر أو غير ذلك إن لم يثبتك الله فيها لا تهدى، ولا توفق، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي إلى كعبة اليمانية ليهدمها، وكان لا يثبت على الخيل دعا له بالثبات، وكان أعظم زاد لجرير بن عبد الله ولأصحابه ذلك الدعاء له بالثبات، قال: {اللهم ثبته واهدي به، فما رجع جرير وأصحابه حتى جعلوها كالجمل الأجرب} ذلك الوثن الذي كان يعبد من دون الله عز وجل.
ولما خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن قال: يا رسول الله تبعثني إلى قوم هم أسن مني، أعلمهم قال: {إن الله سيثبتك ويهدي قلبك}, وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن إلى نجران، وبقي في أولئك الأمم في أولئك الناس هو المفتي وهو الداعي وهو المثبت وهو المهدى وهو المعلم، ثبته وهدى الله قلبه وهدى به، فأعظم زاد عندك في هذه الدنيا وفي القبر حتى تلقى الله سبحانه وتعالى، هو ثباتك على الحق الذي عز في هذه الأزمنة إلا عند من رحم الله عز وجل، فتراهم يذوبون أمام الشهوات والشبهات، وأمام الفتن والتقلبات، وأمام المطامع الدنيوية محنة وبلية إلا من رحم الله، لا ينجح في هذه الدنيا نجاحاً صحيحاً إلا من ثبت ولا يبرز علمياً ودعوياً وفي الدنيا والأخرى إلا من ثبت مهما كان علمه، ومهما كانت وجاهته، ولم يثبت على الحق فإنه سيكون مضرب المثل في الانحراف والفتنه: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا))[الأعراف:175], أي: لم يثبت عليها: ((فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ))[الأعراف:175-176], وأصحاب السبت لم يثبتوا أمام سمك، أمام مأكل ومطعم، فصاروا ملعونين، ومسخوا قردة وخنازير: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ))[المائدة:78], الآيات وقال الله عز وجل: ((قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ))[الأعراف:166], ما استطاعوا أن يثبتوا أمام أكلة، أمام صيد سمك؛ فلهذا من لا يثبت على كتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يحصل على خير، من ثبت على الحق هدي وأعزة الله، ومن انحرف فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل لعباده بلوى يبتليهم بذلك وهو الثبات: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))[العنكبوت:1-3], ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ))[محمد:31], ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214], ثبت من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم الأحزاب:
والله لولا الله ما اهتدينا                ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علـينا                 وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا                  إذا أرادوا فتنـةً أبينا
يقال ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسول الله يرددها ويقول: {أبينا.. أبينا}.
ونسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه
================================================-
إكمـال الشريط بهذه المادة:
تحذير المسلمين من الغش في الدين
خطبة جمعة: (5 ربيع الأول 1423هـ)
==================================================-
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ))[محمد:31], ويقول سبحانه وتعالى: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ))[الحج:41], ويقول سبحانه وتعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))[المائدة:78-79], هذا أصل أصيل في سبب لعنة بني إسرائيل وذمهم، وتوبيخهم ومقتهم، ومسخهم قردة وخنازير: {أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، فيلقى الرجل أخاه على منكر فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيدة} على ما جاء في حديث ابن مسعود وله شواهد، نعم عباد الله.
إنها حياة قصيرة محفوفة بالابتلاءات.. محفوفة بالامتحانات.. محفوفة بالاختبار من الله سبحانه وتعالى لبيان الحق من الباطل، كما ذكر ربنا عز وجل في هذه الآيات وغيرها، فكان الواجب على كل مسلم: أن يجند نفسه لطاعة الله عز وجل ولإبعاد معصية الله عز وجل قدر مستطاعه، فإن لم يستطع فتهوين الشر، إن لم يستطع إبعاد الشر فالتهوين منه، والتخفيف منه، وإلا فإنه لا بد أن يحصل شر في هذه الدنيا؛ وذلك لحكمة أرادها ربنا سبحانه وتعالى: ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[البقرة:220].
 أيها الناس! إن من أخطر الأمور في هذه الحياة على الفرد والمجتمع، وعلى سائر المسلمين؛ بل وعلى الكافرين، من أخطر ذلك: هو الغش في هذا الدين، بل والغش في أمور الدنيا، فإن مسألة الغش قد تطورت واستشرت، وأي من حين إلى آخر وهي في ازدياد، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم}, كما في حديث أنس بن مالك عند البخاري وغيره سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم وإذا كان الأمر كذلك: فلا بد من أن تعلم مسألة الغش ويعرف الغشاش من الصادق، بما ذكره ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه عليه والصلاة والسلام.
ففي الصحيحين من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين بيان جلياً أن مسألة الغش وأن أمر الغش ولو كان في بيع وشراء، أن ذلك من أسباب فساد الحياة، ومن أسباب ذهاب البركة، وإذا ذهبت البركة حلت النقمة، وحل الشر والفساد بين الناس قال عليه الصلاة والسلام: {البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما}, هذا في بيع وشراء، في معاملة دنيا، إذا حصل الصدق حصل الخير، وحصلت البركة، وإذا حصل الغشش والدغل وعدم النصيحة حصل الشر، وذهبت البركة محقت البركة، فهكذا أي عمل من الأعمال، وأي دعوة من الدعوات تقوم على غشٍ وعلى عدم نصيحة لا شك أنها تمحق، وقد زالت وذهبت واضمحلت، وانتهت دعوات بعدم النصيحة، وبالغش في هذا الدين، وبالسكوت والممالئة، وعدم قول كلمة الحق: ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى))[الأنعام:152].
 إن العدل وإن القسط وإن اليقين كل اليقين والاستقامة كل الاستقامة لهي في كلمة الحق، ولهي والله النصيحة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه والبخاري تعليقاً {الدين النصيحة} الدين النصيحة يا معشر المسلمين (الدين النصيحة) لا يقوم الدين إلا على النصيحة وعلى الصدق، وعلى البيان، نعم والله.
روى الإمام مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: {مر على رجل يبيع صبرة –طعاماً- فأدخل يده في تلك الصبرة فأصابت أصابعه بللاً، فقال: يا صاحب الطعام؟ قال: يا رسول الله أصابته السماء، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس منا}.
فأعظم منه، وأجرم منه من غش الناس في دينهم، وأدخل عليهم الأضرار، هذا والله غش عظيم، هذا والله سبب نكبه الدنيا والآخرة: ((وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ))[يونس:27], ألا هل من منتبه للغشاشين في سائر هذه الحياة حتى يلقى الله فإنه سيلقاه بوحده وبمفرده: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ))[الكهف:29].
الغش خطير على الأمة في دينهم ودنياهم، حرم الله النجش في البيع والشراء، من حديث ابن عمر وأحاديث كثيرة من أجل ما فيه من الغش على المسلم في دنياه: {ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض}.
حرم الله بيع الحصاة، وحرم الله كثيراً من البيوع المعروفة في بابها لما فيها من الغرر، ولما فيها الغشش، ولما فيها من الخداع، ولما فيها من الأضرار على المسلمين، وغالب المحرمات لهذا الأمر ولتلك الحكمة، نعم، من بيع تلقي الركبان، وما كان من هذا وتعرفون.
إي والله إنه خطير الغش في هذه الحياة، خطير على المسلمين، وأعظمه خطراً: الغش في الدين باسم الدين، الغش في الدعوة باسم الدعوة، الغش في السنة باسم السنة نعم: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ))[العنكبوت:43] إذا كان العالمون لا يعقلون الأمور فمن الذي يعقلها؟ الله سبحانه أحالنا على غبش؟! أحالنا على عمى! أحالنا على خائنين أم ماذا؟! إن الله أحال الأمة على من يعدل الأمور، وأحال الأمة على من يدرك الأمور، وأحال الأمة على أنصح الناس..
(هنا آخر المادة الصوتية، انقطـــــاع.. ينظر من الأصول)

 

تمت الطباعه من - https://sh-yahia.net/show_sound_420.html