الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

رد الشائعات إلى حقائق البينات

15-03-2009 | عدد المشاهدات 10127 | عدد التنزيلات 1414

بسم الله الرحمن الرحيم

[رد الشائعات إلى حقائق البينات(135)]
خطبة جمعة بتاريخ: (27 صفر 1428هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
============================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:52-55]، في هذه الآيات الكريمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بُعث عامله المشركون بما عامل به الأمم الماضية أنبياؤهم من تكذيبه والدعاوى أنه ساحر، أو أنه مجنون كل ذلك لرد ما يدعوهم به ولتشويه دعوته، ولجعل الناس على الأقل يصيرون متحفظين عما يقول لهم، وكأنه ليس مرسلاً من رب العالمين عز وجل، مما يدل أنما يشاع في أوساط الناس أن تلك الإشاعات الكاذبة هي سنة يهودية نصرانية، وهي سنة المشركين، بل هي سنة شيطانية، طريقة هؤلاء جميعاً نشر الإشاعات وبث الإذاعات التي لا أساس لها من الصحة: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام:112]، ومما يدل على ذلك أن الإشاعات هي شأن الشيطان وشأن المشركين والسفهاء و المنافقين تلك الإشاعات الكاذبة لا تصدر إلا من هذه الأصناف وأضرابها: أن ابن عباس رضي الله عنه ثبت عنه عند الإمام أحمد في مسنده أنه قال: (ما نصر المسلمون كما نصروا يوم أحد، وبيني وبينكم كتاب الله، يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ..﴾[آل عمران:152-153] -الآيات-).
والشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة أن يكونوا في الجبل وقال: «إن رأيتمونا قتلنا فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا»، فلما رأى المسلون الغنيمة -وكان أول النهار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه في غاية النصر كما ذكر ابن عباس قالوا: الغنيمة الغنيمة، وتركوا خلة استغلها المشركون وجاءوا من ذلك الجانب ورشقوهم رماية بالنبل، والتحم جيش المسلمين فجعل يقتل بعضهم بعضاً وصاح الشيطان في أوساط المسلمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، صاح فيهم: أن محمداً قد قتل ولا أحد ينكر ذلك وكلهم يصدق ذلك القول لما حصل عندهم من الغم، وكان الغم الأول ما حصل لهم من قتل كثير من المسلمين في ذلك اليوم، فهذا يرى أخاه يقتل وذاك يرى أباه يقتل، وذاك يراه صديقه يقتل.. إلى غير ذلك، والغم الأكبر حين صاح الشيطان في أوساطهم: أن محمداً قد قتل فأثابهم غم بغم! وكان الغم الذي أثابهم بسبب ما سمعوه من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم، وهذا من الأدلة: أن تلك الإشاعات الكاذبة التي روجها إبليس في صفوف الناس، القصد منها ضعضعت صفوف المسلمين، والقصد منها: أنهم يضعفون.. والقصد منها: أنهم يشعرون بأن شوكتهم قد ضعفت، ولا يزال المشركون، وهكذا ضُلاّل المسلمين يستعملون هذه الوسيلة لإضعاف المسلمين وهي الإشاعة الكاذبة، الإشاعات الكاذبة ضد المسلمين، إما بضعفهم وعجزهم وإما بذلهم، وإما بسوء أخلاقهم، وإما بقلة تقدمهم ورقيهم، وإما بتشويه أحوالهم وأقوالهم، والشأن في ذلك والقصد كله: الوقيعة في الإسلام وأهله.
إضافة إلى ما مضى ما ثبت عند الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم مكة رجل يقال له: ضماد الأزدي من أزد شنوءة، وكان يُرقي من هذه الريح، فجاء وسفهاء من قريش يتحدثون: أن محمد مجنون، فقال لعلي ألقى هذا الرجل فأرقيه لعل الله يشفيه على يدي، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح إن شئت رقيتك لعل الله يشفيك على يديّ، فلما فرغ من كلامه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله»، فذكر خطبة الحاجة أو صدراً منها، فقال ضماد الأزدي : أعد عليّ كلماتك، فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لأعرف السحر والشعر.. لأعلم بالسحر والشعر والشعراء.. أو نحو ذلك، قال: وما هذه الكلمات بسحر ولا شعر، ولقد بلغن ناعوس البحر، فامدد يدك أبايعك، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، ومرت السرية بجانب بلد ضماد، فقال أمير الجيش: هل أحد منكم أخذ من هذه القرية شيئاً؟ قال أحدهم: أنا أخذت مطهرة، قال: أعيدوها، فإنهم من قوم ضماد).
والشاهد من ذلك: أن ضماداً شاع عنده من طريق السفهاء، وأن الإشاعات غالبها تروج عن طريق السفهاء، تلك الإشاعات الكاذبة لا تروج إلا من طريقهم، من طريق تلك الأصناف التي سبق ذكرها، وكان الرجل يظن أن هذه الإشاعات إشاعات صادقة، حتى جعل يلتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يرقيه من ذلك الريح، وحين تبين له، أنما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو حق، ولا يصدر عن طريق من به ريح لا من مس ولا من شيطان، وعلم كذب تلك الإشاعات المزوقة بادر إلى الإسلام.
فالإشاعات الكاذبة تحول بين الإنسان وبين الحق، الإشاعات الكاذبة تعتبر من فرى الأفاكين، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: تلك القصة الطويلة التي أبانها الله في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[النور:11-13]، إلى آخر الآيات، والله عز وجل يقول في آخرها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النور:19]، فتوعدهم الله بالعذاب الأليم، هذا لأن الإشاعات في عصرنا وفي مصرنا وغير مصرنا قد تفشت في أوساط المسلمين على غير الحقائق بما لا أساس له من الصحة سواء كانت تلك الإشاعات عن طريق بعض الإعلام، أو عن طريق بعض المجالس: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع»، ثبت هذا الحديث بشواهده وهو في مقدمة صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال عمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (بحسب امرئ من الكذب أن يحدث بكل ما سمع) قال: ابن وهب عن مالك أنه قال: (ليس يسلم إنسان يحدث بكل ما سمع ولا يكون الإنسان إماماً وهو يحدث بكل ما سمع) فليحذر امرؤ على نفسه من الخاطفات المتلقاة التي لا أساس لها من الصحة، وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل يغدو فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق»، هذا وقد حصلت الإشاعات على غير الصحيح في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت تلك الإشاعات عن طريق المرجفين من المنافقين والمشركين الذين هددهم الله بقوله عز وجل: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾[الأحزاب:60-61]، أو كانت تكلك الإشاعات بين أوساط صلحاء المسلمين، ربما روجها المنافقون فاختطفت عنهم وشاعت بين المسلمين أنفسهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ[التوبة:47]، وهكذا في الصحيحين عن أم حبيبة رضي الله عنها: أنها قالت: «يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان فقال: أوتحبين ذلك؟ قالت: نعم يا رسول الله: لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال: إنها لا تحل لي، قالت: يا رسول الله! والله إننا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: ابنة أم سلمة ؟ قالت: نعم، قال: لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة –أي: مولاة أبي لهب، والشاهد من ذلك: أن أم حبيبة رضي الله عنها ولم تقل: إني أحدث، بل أضافت ذلك إلى ضمير الجمع: أنه قد شاع في أوساط الناس، وقد حدث الناس وتحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينكح درة التي هي ربيبته وابنة أخيه من الرضاعة، فشاع الحديث في أوساط المسلمين على غير الصواب، وأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلان هذا القول من وجهين:
الوجه الأول: أنها ربيبته.
والوجه الثاني: أنه ابنة أخيه من الرضاعة.
ولم يكن هذا يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم والحال هذا البتة، وبلا شك ونظير ذلك: ما روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً» أي: حلف أن لا يأتيهن شهراً، وهذا ليس بطلاق، وشاع في أوساط المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نسائه حتى دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها وقال: (بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: عليك بعيبتك)، فذهب إلى حفصة وقال: (يا حفصة بلغ من أمرك أنك تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد علمت أنه لا يحبك؟ وذكر ما قاله) ثم انطلق إلى المسلمين.. إلى الناس في المسجد وهم يبكون لما حصل عليهم من الغم بسبب فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله، وما حصل له من الضيق وهم يضيقون مما يضيق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فانطلقت، إذ أشاروا له أن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة، قال: فانطلقت فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله، فنظر إلى المشربة ثم نظر إليّ ولم يقل شيئاً، وهكذا في الثانية وفي الثالثة ورفع صوته، وقال: يا رباح استأذن لي على رسول الله، لعله يظن أنني أشفع في حفصة وأنه من أجل حفصة والله لو أمرني بضرب عنقها لضربت عنقها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فأذن له، فلما دخل عمر واستنبط الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يطلق نسائه رجع إلى الناس فأخبرهم: أنه لم يطلق نسائه، فأنزل الله في كتابه الكريم: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]).
هكذا أيضاً تصدر تلك الإشاعات الكاذبة ربما عن إنسان ليس بكذاب ولكنه مغفل، ينقل كلما سمع، وقد ثبت نظير ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أسلم بقي وقت وهو مسلم ثم قال: أي الناس، أي أهل مكة أكثر نشراً للحديث -إشاعة للحديث-؟ قالوا: أكثرهم إشاعة للحديث ابن معمر الجمحي، فعمد إليه عمر بن الخطاب وقال له: (إني أسلمت، وحدثه بينه وبينه، قال عبد الله بن عمر : فو الله لم ينشب إلى أن أسرع إلى المسجد فصرخ في الناس: يا معشر قريش إن عمر بن الخطاب قد صبأ، ومعنى: (صبأ) عندهم أي: ترك دينه ولا دين له، وهذه إشاعة كاذبة، كان المشركون يروجونها على كل من أسلم واتبع دين الحق: أنه قد صبأ وصار لا دين له، فاجتمع إليه المشركون ولم يزل عمر يقاتلهم رضي الله عنه، حتى دنت الشمس وقيض الله رجلاً من المشركين وهو العاص بن وائل فقال: ماذا تريدون منه، رجل اختار ديناً له، أو تظنون أن قومه يسلمون لكم صاحبهم، قال: فكأن ثوباً انكشف) والقصة عند ابن حبان بسند صحيح.
وشاهدنا: أن عمر رضي الله عنه أراد أن يشاع الخبر، فذهب وأخبر إنساناً ثرثاراً من القوم ويرسل الخبر يشيعه في الناس، فأشاعه ولم يلتفت يمينة ولا يسرة حتى أخبر القوم به، وأيضاً أنهم كانوا يشاع بينهم الخبر على غير حقيقته.
هذا لتعلموا عباد الله! أن أمر إشاعات الخبر أمر مقصود وأمر أيضاً يصدر من عدة أصناف لا يرعوون ولا يتورعون والله المستعان.
الخطــبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فعلى المسلم الحريص على دينه أن يحافظ على نفسه فلا يقول إلا خيراً، وألا يشيع الباطل والكذب وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، سواء كان لإضحاك الناس أو لغير ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له»، وهكذا ضمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يحفظ لسانه ويحفظ فرجه، فيحفظ لسانه عن الكذب وعن الإشاعات وعن نقل ما لا أساس له من الصحة، ويحفظ فرجه عما حرم الله، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»، وبنحو هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين: «أن العبد ليتكلم بالكلمة»، يشيعها وينشرها، يقولها ويخترعها «ما يتبين ما فيها» سواء نطق بها هو، أو نقلها عن غيره لقوله : «ما يتبين ما فيها»، «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب»، متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فلاحظ هذا الخطر العظيم على من ينشر الكلام لا يتبين، سواء نشره في جريدة أو نشره في إذاعة، أو نشره في كتاب أو نشره في مجلس أو نشره عند قريب أو بعيد إن لم يكن يتبين فيما يقول: فإن تلك المقولة التي يقولها ينشرها ويشيعها قد تكون سبب إيباقه في النار وسبب سقوطه فيها، ولما قال معاذ : «يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك، يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»، ومن المعلوم: أن الألسن تحصد من الشرور من الشركيات والبدع والأكاذيب والتزويرات ما الله به عليم، فلا تجعل لسانك يحصد عليك شر، ويحصد عليك الإشاعات الكاذبة، وكن كما قال الإمام مالك –أيها المسلم المستقيم-: (فلا يكن إماماً في الدين وهو يحدث بكل ما سمع«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، والخير ليس من نشر الأكاذيب أبداً، ولكن الخير ذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وملازمة الصدق، والتثبت مما يقول: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء:36]، أنت يوم القيامة مسئول عن كل كلمة تلفظها لا برهان لك بها يوم القيامة، حتى قال ابن دقيق العيد : ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جواباً عند الله عز وجل، هذا شأن الصالحين.
نعم، عباد الله: ثبت عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك»، هذه هي النجاة لمن أراد النجاة ألا يطلق لسانه بالثرثرة وبالنقولات وبما لا برهان له به، فإن أعوز على نقل شيء أسنده إلى مصدره الثابت لتكون العهدة على قائله أو على كاتبه أو على صاحبه وأنت من ذلك بريء عند الله وعند صالح عباده.
وبالله التوفيق.