الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

النصيحة بالاستفادة من الموعظة الصحيحة

16-03-2009 | عدد المشاهدات 11202 | عدد التنزيلات 1368

 [النصيحة بالاستفادة من الموعظة الصحيحة]

خطبة جمعة بتاريخ
: (25-شوال-1429هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
==================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[النساء:66-68]، هذه عدة أمور، أبانها الله عز وجل من فوائد امتثال الوعظ، والأخذ به، فالأخذ بالموعظة فيه فوائد جمة، منها: ما ذكره الله عز وجل في هذه الآية، أولاً: أنه خير لهم، وكلمة (خير) شاملة، فلو فعل الإنسان ما يوعظ به لكان خيراً، سواء في أمر مخصوص، أو في أمر عام خير له، سواء في دينه أو في دنياه خير له، سواء وُعظ من عالم أو من دونه خير له، فلا يلزم أن لا تكون الموعظة إلا من عالم، فإن الموعظة لها نفعها ممن كانت ما دامت موعظة، مؤيدة بأدلة الوحيين.
الفائدة الثانية: أن الأخذ بالموعظة أشد تثبيتاً، فقد يكون الإنسان عنده ثبات لكن يحصل له تزعزع في بعض الأمور، فإذا جاءته موعظة ثبته الله عز وجل بها، وكم من أناس أسلموا بمواعظ، وآخرون كانوا ضلالا فاهتدوا بموعظة.. وهكذا نفع الموعظة نفع عظيم، ثبات الإنسان على دين الإسلام بسبب الموعظة، لذا قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الجمعة:9]، فأخبر الله عز وجل أنه خير لهم؛ وذلك لاستماع الذكر والموعظة، وأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: «من ترك ثلاث جُمع طُبع على قلبه»؛ وذلك لبعده عن الموعظة؛ وبسبب بعده عن الوعظ والتذكير، يقسو قلبه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[المائدة:13]، ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[الأعراف:165]، وقال: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الأنعام:44]، فبسبب البعد عن التذكير وعن الوعظ تنفتح على الإنسان أبواباً كثيرة من الفتن، وأبواباً كثيرة من الدنيا، وأبواباً كثيرة من ظاهره وباطنه يعلمها أو لا يعلمها، كل ذلك بسبب عدم معاهدة نفسه بالتذكير والوعظ.
أيها الناس! إن أمر الوعظ والتذكير تولاه الله سبحانه وتعالى بنفسه وجنّد له رسله وصالح خلقه، قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما حصل في حادثة الإفك: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النور:17-18]، فكانت موعظة رب العالمين سبحانه لعباده المؤمنين لمن كان مؤمناً بهذا الكتاب العزيز وبيانه، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النحل:90]، هذا وعد من؟ قال الله عز وجل: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90]، هذا وعد الله لعباده، وقال سبحانه تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58]، فسمى الله كتابه العزيز موعظة، وهي موعظة من الله سبحانه وتعالى لعباده، فلا موعظة أبلغ من كلام الله، لا موعظة أبلغ من وعظ الله سبحانه وتعالى لعباده، فوعظ الله كلامه، هذا وعظ الله في قلب كل مسلم، الكلام الذي أنزله سبحانه تبارك وتعالى والفطرة التي فطر الله بها عباده.
إن أمر التذكير والوعظ أمر له أهميته عند كل إنسان مؤمن يستفيد منه، وينتفع به نفعاً عظيماً يقول الله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:55]، فهذا بيان الله: أن التذكير ينفع العبد المؤمن ذكراً كان أو أنثى، إذا وعظ وذكر ينتفع، وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾[الأعلى:9-10]، هذا شأن الخاشعين: أن الذكرى تنفعه وتردعه عن الشر وتدفع به إلى الخير، وقوله: ﴿تنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الذاريات:55]، لفظ عام، أي نفع هو؟ شامل للانتفاع في الدنيا والآخرة، فمن تذكر خير له، ومن اتعظ خير له، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾[النساء:66].
وأبان الله سبحانه تبارك وتعالى موعظته لنبيه نوح عليه الصلاة والسلام حين قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[هود:45-46]، فوعظ الله سبحانه وتعالى عام وخاص لعباده، فمن وعظ الله العام نزول القرآن، ومن وعظه الخاص وعظه لنبيه عليه الصلاة والسلام ولمن شاء من عباده، وأخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام، أخبره أن يعظ قومه أن يعظ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾[النساء:60-62]، شأن المنافقين هذه صفاتهم، قال الله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾[النساء:63]، وقال: ﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾[النساء:34]، حتى على مستوى امرأة إذا حصل منها خطأٌ احتاجت إلى رتبة أولى: وهي الوعظ والتذكير بالله سبحانه، وبالنعمة التي هي فيها .. وبغير ذلك مما تحتاج إلى تذكير فيه، ثم الرتبة الثانية: الهجرة في المضاجع، ثم الرتبة الثالثة: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾[النساء:34]، وهو ضرب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مبرحاً: «لا يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد ثم هو يضاجعها من الليل»، وشاهدنا من الآية: أمر الوعظ، أنه لا يمكن أن يتخلى عنه إنسان ولا يستغني عنه مسلم كائن من كان، فإنه بحاجة إليه يقيم به دينه، وما أنزل الله كتبه، ولا أرسل الله رسله إلا أن يقيموا على الناس حجج الله بالوعظ والتذكير قال سبحانه تبارك وتعالى مبيناً موعظة هود عليه الصلاة والسلام: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[الشعراء:128-135]، فكان جوابهم بعد هذه الموعظة البليغة والتذكير هم بنعم هم فيها: ﴿قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ..﴾[الشعراء:136-139].
فالشاهد: أن مخالفة الموعظة النافعة الصحيحة هلكة، هلكت بها أمم، لا تيأس من الوعظ أيها المسلم إن أقبل الناس عليك أو أعرضوا فإن هذه دعوة الله ودعوة رسوله عليهم الصلاة والسلام: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[الأعراف:163-164]، فالموعظة تكون عذراً لك عند الله سبحانه تبارك وتعالى والموعظة ربما اتقى أناس بها وتذكروا بها فكانت حسناتهم وكل عمل يقيمونه من دين الله لك من ذلك نصيب: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12]، «من دل على هدى له من الأجر مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة ..»، وأبان الله سبحانه وصية لقمان وموعظة لقمان عليه السلام لابنه موعظة بليغة لا يزال الناس يتدارسونها ويعتبرون بها ويتعظون بها، وذكره الله في كتابه من أجل حكمته ووعظه وصلاحه مع ولده ومع الناس وليس بنبي رجل صالح، ولكن الله شرفه، وعظمه بما قام به من الوعظ والتذكير لولده حتى صارت تلك الموعظة لجميع المؤمنين: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ[لقمان:17]، قال الله سبحانه وتعالى عن موعظة لقمان: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان:13] إلى قوله: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾[لقمان:17-19]، يقول أهل العلم: إن هذه الموعظة اشتملت على التوحيد، واشتملت على العبادات، واشتملت على الأخلاق، على جميع ما يحتاجه العبد من أمور الدين، فإذا قام بها إنسان فإنه قد حذر من الشرك ودل على التوحيد، وقد أمر بالعبادة، وقد أمر أيضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أمر بالصبر بأنواعه الثلاثة، وإن كان بما يتعلق بالإصابة، فالإصابة تكون بالمرض، والإصابة تكون كذلك بأقدار الله، والإصابة تكون أيضاً يصبر الإنسان عما قد يحرم منه من الخير؛ بسبب ما قدره الله سبحانه تبارك وتعالى، الصبر على أقدار الله، والصبر على طاعته وعن معاصيه، والصبر على ما ينوبه فهي شاملة.
هذه وصايا من الله سبحانه تبارك وتعالى ومن أنبيائه ومن صالح خلقه كلها وعظ وتذكير للمؤمنين، وما ذلك إلا لأهمية الموعظة، فإذا يسر الله لك بمن يعظك بتذكير الله، ويفقهك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن هذه تعتبر لك مكرمة من رب العالمين، وأعراضك عن الموعظة، وإعراضك عن التذكير مؤذن بانتقام من الله عز وجل، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾[السجدة:22]، فسمى الله المعرض عن التذكير وعن الموعظة النافعة مجرماً وآذانه بالانتقام منه، والله المستعان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ثبت عند الترمذي في جامعه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا - فأوصاهم عليه الصلاة والسلام فيه هذه الموعظة البليغة بتقوى الله-»، فخير ما تعظ به أيها المسلم تقوى الله، كما في هذا الحديث: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[الأعراف:26]، نعم.
قال: «أوصيكم بتقوى الله»، وأوصاهم في هذه الموعظة بالسمع والطاعة وإن تأمر عليهم عبد، قال: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فأوصاهم أيضاً بسنته، قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور» .
إنك أيها الداعي إلى الله أيها المسلم، إذا تأملت هذا الحديث عرفت طريق الوعظ الصحيح، الوعظ بتقوى الله، الوعظ بالأدب مع أولياء الأمور بالسمع والطاعة، بالبعد عن الفتن، والقلاقل والانقلابات والتفجيرات، وإن حصل عليك ضرر فإنك تكل أمرك إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ما دام ذلك الوالي من المسلمين، فليس من الحلول أبداً ما يفعله كثير من أصحاب الفتن، وليس مما تدل عليه الأدلة: «وإن تأمّر عليكم عبد»، لا تحتقره ولو كان عبداً وأنت حر، ما دام قد وُلي عليك فإنه يبغي الأدب وينبغي ملازمة ما دلت عليه الأدلة سلامة لك وللمسلمين، سلامة لعرضك، سلامة لدينك، سلامة لأهلك، سلامة للمسلمين لأسواقهم لمتاجرهم لمساجدهم لمدارسهم، سلامة لدينهم ودنياهم، كل ذلك يتضمن، فلا تغتروا عباد الله بمن خالف الأدلة كائن من كان قرب أو بعد، «والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» .
ووعظ العباد بسنته هذه موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب على المسلم أن يكون شديد الحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة، «فعليكم بسنتي»، موعظة بليغة حثكم عليها، ثم أيضاً بطريقة السلف الصالح: «وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»، هذه الموعظة أيضاً إضافة إلى الأولى، فاشتمل هذا الحديث على عبارة عن خطبة كاملة وموعظة بليغة، بحيث لو شُرح لكان في جزء مستقل، نعم.
«وعظوا عليها بالنواجذ»، فالواعظ ينبغي أن يسلك هذا المسلك في حث الناس على السنن، وعلى التمسك بها وعلى الثبات عليها، فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوها بالثنايا، ولكن قال: «عضوا عليها بالنواجذ»، وذلك لأن الضابط الشيء بالناجذ أقوى من أخذه بالثنايا وأشد صعوبة من أن يسحب وأن يسلب منه وأن يؤخذ منه.
فالواجب تثبت الناس على هذا الخير، على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقاً لموعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والموعظة التي تليها: «وإياكم ومحدثات الأمور»، ومن خالف ذلك ضل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى[النساء:115]، أي: يكله الله إلى نفسه الأمارة بالسوء، ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:115]، فبقدر بعدك عن هذه الموعظة تضل: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وهذا دليل على: أنه ليس هناك بدعة حسنة في الدين، كلها ضلالات بخبر الصادق المصدوق، عليه الصلاة والسلام، قال الله: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾[النحل:105]، والبدعة كذب على الله، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾[الأعراف:152].
هذه موعظة بليغة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الداعي إلى الله من سائر المسلمين، ما من مسلم إلا وله قسطه من واجب الدعوة إلى الله إلى الإسلام: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[يوسف:108]، فما دمت تابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب أن تدعو إلى الله بقدر ما تعرف وتقدر، وما لا تحسنه تكله إلى غيرك.
نسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه. ا.هـ