الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

سعادة العباد في التذلل والقنوت لذي العزة والجبروت

24-03-2009 | عدد المشاهدات 9124 | عدد التنزيلات 1454

[سعادة العباد في التذلل والقنوت لذي العزة والجبروت(157)]

خطبة جمعة بتاريخ: (14 ربيع الأول 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

================================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن الله عز وجل خلق العباد لعبادته، وللتذلل له وللانكسار بين يديه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، وقال عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36]، والعبادة: هي التذلل لله عز وجل، يقال: طريق معبدة أي: مذللـة.

فمن حقق العبودية لله عز وجل فبقدر ما يحققه من ذلك يكون مكرماً عند الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى سخر الكون كله لعبادته، هذا الذي رضيه الله لعباده، وهذا الذي أراده منهم، قال الله في كتابه: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾[البقرة:115-116]، أي: خاضعون ذليلون عابدون طائعون، فمنهم من يعبده ويخضع له ويذل له بلسان حاله ومقاله، ومنهم من يخضع له ويذل له ظله ولسانه حاله وهو عاص لله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾[الرعد:15]، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾[الروم:25-26]، وهذا شامل لجميع المخلوقات من بر وفاجر ومسلم وكافر وأخضر ويابس وجن وإنس، كل المخلوقات قانتة لله سبحانه وتعالى، خاضعة لله سبحانه وتعالى، قال الله في كتابه: ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾[طه:108] أي: ذلت وخضعت، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾[الحج:5] أي: خافضة منخفضة ساكنة ليست مبتهجة.

فالخضوع لله سبحانه وتعالى هو السكينة له والتذلل بين يديه والانكسار له سبحانه وتعالى، على هذا خلق الله عز وجل العباد، واصطفى من اصطفى بتحقيقه لذلك، قال الله عز وجل: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[آل عمران:42-43].

فالله عز وجل لما اصطفاها على نساء العالمين، أمرها بما يثبت به ذلك الاصطفاء، وبشكر تلك النعمة، وهي عبادة الله والقنوت له، القنوت لله عز وجل تحقيق العبادة، وذكر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنه كان أمة، وكان أمة: أي: حجة جعله الله عز وجل حجة على خلقه في هذه البسيطة، ومما كان به حجة ووصفه الله به هو القنوت لله والخضوع لله والتذلل لله والانكسار بين يدي الله، فإذا أعطاك الله سمعاً أو بصراً أو مالاً أو جاهاً أو ولداً.. أو أي شيء ممن امتن الله سبحانه وتعالى به عليك، فقابل ذلك الخير بالقنوت لله سبحانه وتعالى والتذلل والانكسار للملك الجبار سبحانه وتعالى، هذا الذي أراده الله من عباده، قال الله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾[النحل:120-122]، انظر هذه الصفات التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها نبيه إبراهيم إمام الحنفاء، خليل رب العالمين؛ وصفه الله أنه قانت خاضع خاشع ساكن لله سبحانه وتعالى، هذا هو شأن المؤمنين، مريم عليها السلام حين أمرها الله بذلك حققت ما أمر الله عز وجل فوصفها الله به، وأنزل سورة تسمى باسمها سورة مريم، وذكر من مناقبها وذكر مما أكرمها الله عز وجل به، وجعل من ذريتها نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾[التحريم:12]، من حرم القنوت، ومن حرم الخضوع لله سبحانه وتعالى فقد حرم الخير كله.

أيها المسلمون! إن المسألة ليست إلا بالتذلل لله سبحانه وتعالى، فلو تدبرت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيت أن من أكرمه الله عز وجل بالرزق الحسن كان ذلك بسبب خضوعه وقنوته وتذلُّلِهِ لله سبحانه وتعالى، وأن من أهانه الله أو قصمه أو أذله كان بتخلل أو باختلال هذا الجانب؛ إما بتجبر وإما بتكبر وإما ببعد عن عبادة الله وعن القنوت له، قال الله عز وجل في كتابه الكريم لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾[الأحزاب:28-31]، هذا الرزق الكريم بسبب طاعتها لله ولرسوله، ولما طالبنه النفقة عاتبهن الله عز وجل وقال: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾[التحريم:5]، أراد الله لنبيه الكريم القانتان الكريمات الصالحات، كما وصف الله عز وجل تلك الأصناف بقوله: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾[النساء:34].. الآية.

وصف الله الصالحات بهذه الأوصاف، ووصف الله الصالحين بهذه الأوصاف بالقنوت.

من حقق ذلك أعد الله الأجر العظيم له وأكرمه به، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:35]، هكذا أعد الله المغفرة والأجور العظيمة للقانتين لهذه الأوصاف، ومنهم من حقق هذا الجانب العظيم؛ جانب القنوت والتذلل والسكينة والخضوع لله سبحانه وتعالى، هذا الذي يرفع الله به العبد أنه بقدر ما يعزه الله عز وجل بقدر تذلُّلِهِ، لذا انظر ما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عبدي استطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني، مرضت فلم تعدني، ثم قال في الحديث: مرض عبدي فلان ولو عدته لوجدتني عنده، استطعمك عبدي فلان ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي، استسقاك عبدي فلان ولو سقيته لوجدت ذلك عندي»، كل ذلك أن الله سبحانه وتعالى مع المنكسرين الضعفاء المساكين، الذين يكونون مستذلين إلى ربهم رب العالمين سبحانه وتعالى فالله معهم.

وفي الصحيح: «أن رجلاً جباراً صاحب شارة مر بجانب امرأة ولها صبي ترضعه، فترك الثدي ونظر إلى ذلك الجبار حين قالت أمه: اللهم اجعل ابني مثله، رأت ذلك الجبار ورأت هيئته الظاهرة الجملية في المظهر فسألت الله أن يجعل ابنها مثل ذلك الرجل صاحب الشارة، ترك الثدي وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع يرتضع، ومرت امرأة مسكينة يضربونها ويقولون: سرقتي زنيتي، ولم تسرق ولم تزني، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها»، هذه امرأة تحب ولدها وتريد أن يكون قمة في الطاعات: «فقالت: اللهم اجعل ابني مثلها، فترك الثدي ونظر إلى تلك المرأة، وقال: اللهم اجلني مثلها، فهناك تراد الجواب، قالت: مر رجل ذو شارة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومرت امرأة يضربونها يقولون: سرقتي زنيتي، فقلت: اللهم اجعلني مثلها؟ قال: ذلك جبار وهذه امرأة مسكينة لم تسرق ولم تزني، فقلت: اللهم اجعلني مثلها».. الحديث.

هذا هو الذي أراده الله لذلك الصبي درساً لأمه، بل ولسائر المسلمين أن يكون الإنسان على هذه المثابة على السكينة، على هذه المثابة على التواضع، على هذه المثابة على الخضوع، على هذه المثابة على القنوت لله سبحانه وتعالى هذا شأن المؤمنين كما وصفهم الله سبحانه وتعالى وأعد لهم الجنة بقوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾[آل عمران:14-17]، هذه صفات أهل الجنة الذين تتمثل فيهم هذه الأوصاف، ومنها القنوت لله سبحانه وتعالى، وله عدة معاني، ومن تلك المعاني الخشوع، كما تقدم بيانه، والله سبحانه وتعالى قد أثنى على هذه الأصناف بقوله: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:89-90] أي: ذليلين مستكينين قانتين لله سبحانه وتعالى رب العالمين.

هذا هو الشأن -عباد الله- فيمن رفعه الله في الدنيا بالنبوة واصطفاه واختاره واجتباه.

ومن هذه الأصناف أهل العلم فهم أجدر أن يكونوا خاشعين، أجدر أن يكونوا ذليلين لله سبحانه وتعالى، أجدر أن يكونوا آخذين بالحق أينما اتجه وأينما سار، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون:57-61].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21]، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة في الخشوع، ذروة في القنوت، ذروة في السكنية: «جلس يوم حين أوتي بالطعام وجثا على ركبتيه، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد»، خيره ربه بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً رسولاً نبياً، فاختار ذلك أن يكون عبداً لله، وأثنى الله سبحانه وتعالى على جميع أنبيائه بهذه الأوصاف الجميلة؛ بالعبودية والتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، قال الله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾[الإسراء:1]، وقال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾[الفرقان:63]، هوناً: ملازمين للسكينة، ملازمين للخضوع الله سبحانه وتعالى ولذكره ولشركه، هذا هو، ومن أجل هذه الصفة الملائكة لا تتنزل على أماكن الأبهات وأماكن البغي، ولكنها تتنزل على مثل هذه الأمكنة الساكنة؛ فقد روى مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»؛ وما ذلك إلا أن تلك الأماكن أماكن ذكر الله، أماكن خشية الله، أماكن القنوت لله سبحانه وتعالى، فمن أجل ذلك الملائكة تنزل والسكينة تنزل والرحمة تنزل، وكل خير ينزل في مثل تلك الأماكن الساكنة.

هذا دين الله سبحانه وتعالى الذي أراده لعباده؛ أن من حقق التذلل لله سبحانه وتعالى أعزه الله وأكرمه في الدنيا والآخرة، روى الترمذي في جامعه من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب»، فهو يطلب شيئاً من مرضاة الله، وبما يتصف به الطالب من السكون والهدوء والتواضع والخشية لله سبحانه تضع الملائكة أجنحتها له، ما قال: ملك واحد يضع جناحه له، ولكن الملائكة تضع أجنحتها تخفض أجنحتها لذلك الطالب الذي اتصف بتلك الصفات، والله لو كان جباراً، والله لو كان عربيداً فاسقاً باغياً ما كان له مقدر عند الله سبحانه وتعالى ولا عند صالح عباده من الملائكة ولا غيرهم، ولكن إنما تضع أجنحتها بسبب السكينة والطاعة والتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، من أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه القنوت والتذلل لله سبحانه وتعالى ويهذبهم على هذه الأوصاف، سواء كان في طلبهم للعلم أو كان في صلاتهم أو غير ذلك، فإن الصلاة تعتبر قنوتاً، وهنيئاً لمن حقق القنوت فيها وهو الخشوع، وكذلك طول القيام وغير ذلك، قال الله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون:1-2]، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾[البقرة:238]، أي: خاشعين ذليلين، وهكذا أيضاً مع طول القيام: روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة طول القنوت»، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القنوت في الليل حتى تتفطر قدماه كما في حديث عائشة رضي الله عنها.

وهكذا من القنوت الدعاء، روى الترمذي في جامعه بسند صحيح أو حسن عن الحسن رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت»، إذا تدبرت مثل هذا الحديث عرفت أنه يتضمن القنوت لله سبحانه وتعالى الذي عُلمه الحسن، فيه طلب الهداية من الله عز وجل، وفيه طلب ولاية الله سبحانه وتعالى، وفيه أيضاً دعاء لله أن يجنبه مما قضاه وقدره على العباد، مما لا يدفعه إلا الله سبحانه وتعالى، إلى آخر ما ذكر في هذا الحديث الذي لو شرحت كل فقرة من فقراته لجاءت في عدة أوراق، لما فيه من عظيم اللجوء إلى الله عز وجل والقنوت له، ورسول صلى الله عليه وسلم ليلة بدر ما جاء لقتال المشركين، ولكن جاء لأمر مذكور في السنة، فعندئذ حين جاء ورأى أن المشركين قد أقبلوا ببغيهم وعدوانهم وجحافلهم، وبإبلهم المقفلة ويشربون الألبان وينحرون الجزور وهم أضعاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو الألف، وما معه إلا نحو ثلاثمائة أو قليل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بات لاجئاً قانتاً إلى ربه، حتى سقط رداؤه وهو يدعو الله عز وجل، وجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، كفاك مناشدة ربك، إن الله منجز لك ما وعدك، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حين أن أقبل على ربه وأكثر الإلحاح والقنوت والدعاء له، فكان ينص على موطن قتل ذلك الرجل: فلان سيقتل هنا.. فلان سيقتل هنا.. فلان سيقتل هنا..، فنزل القرآن يبين له أماكن مقاتلهم، والأماكن التي يقتلون فيها.

فهذا كله بسبب التذلل لله سبحانه وتعالى، فالمسألة ليست بالكثرة ولا بالأبهة ولا بكثرة الأتباع، ولا بكثرة المال والجاه، ولا بقوة النسب، ولا بذلك ولا بذاك، ولكنه شيء من حققه رفعه الله سبحانه وتعالى: «إن الله ليرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين»، يرفعهم بقدر تمسكهم وتذللهم وتعبدهم وتخشعهم، الذي لو أنزل القرآن على جبل لذلت الجبال وخشعت وسكنت، قال الله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21]. ا.هـ