الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

عواقب الغفلة

02-04-2009 | عدد المشاهدات 14021 | عدد التنزيلات 1779

[عواقب الغفلة(98)]

خطبة جمعة بتاريخ: (.............)

(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

=============================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! إن الله عز وجل رتب على كل ذنب عقاباً، ويكون العقاب على حسب الذنب، ومن تلك العقوبات: ما يتجاوز الله سبحانه وتعالى عنها ما لم تصل حد الكفر ويموت صاحب الكفر عليه.

ومنها: ما ينال صاحبها جراء ذلك الذنب، ومن أعظم العقاب لذنب الغفلة عن طاعة الله، وعن ذكر الله، وعن الحق، من أعظم العقاب هو انشراح صاحب ذلك القلب، وانشراح ذلك القلب للباطل، وهذا عقاب على الإنسان: أن ينشرح صدره للمحرم، وللمعصية، ويضيق صدره وقلبه عن الحق، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[النحل:106-108]، فكان عقاب الغافلين انشراح الصدر للباطل، شرح الله صدورهم للكفر بعد أن وصفهم: بأنهم هم الغافلون.

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الزمر:45]، فأصحاب غفلة القلوب تستبشر قلوبهم بغير الحق، وتنشرح لغير الحق، ومن أعظم العقاب لها: انشراحها للباطل، فإن هذا يدل على أنها قلوب مطموسة، مختوم عليها، ففي حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه»، وشاهدنا: أن هذا القلب صار منشرحاً للهوى؛ بسبب أنه غفل عن الحق، فعوقب بغفلته تلك: أن صار الهوى مشرباً له، أشرب ومعنى (أشرب) أي: صار راغباً في الهوى والباطل، والهوى من أبطل الباطل.

القلب الغافل، وصاحب الغفلة يعاقب بالختم عليه، فقد ثبت من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين»، هذا عقاب أصحاب الغفلة، فبغفلتهم يزدادون غفلة، فكلما غفل الإنسان عن طاعة الله تراكمت عليه الغفلة، غفل عن الجمعات، وغفل عن الطاعات وتلاها عنها فعوقب بغفلة أشد تتراكم على قلبه.

إنه عقب عظيم يتوارد ويتوالى على أصحاب القلوب الغافلة، ولو لم يكن من عقاب تلك القلوب إلا أنها تحرم الفقه، والفهم للدين فهماً صحيحاً، والفهم للحق فهماً صحيحاً لكان كافياً لها من عقاب: أن تعذب بين الجهل، وبين الزيغ، وبين التقلب في الباطل، هذا كافٍ لها.

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الغافلين: أن الله عاقبهم بعدم الفقه في الدين، جعل تلك القلوب لا تفقه، ولا تفهم، ولا تعلم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[الأعراف:179]؛ فبسبب غفلة قلوبهم حرموا الفقه في الدين، وحرموا الفقه في الحق، وصرفت قلوبهم عن الحق، وهذا عقاب للغافلين في الدنيا قبل الآخرة، أن يحرم التفقه في دين الله والفهم لدين الله فهماً صحيحاً، ولو نظرت إلى سائر أهل الأهواء، ترى أن الله سبحانه وتعالى حرمهم الفقه في الدين بغفلتهم عن الحق، فلما تغافلوا وتعاموا عن الحق حرموا الفقه، حرموا الفهم، وتعجب من سوء فهمهم في دين الله عز وجل، وتعجب من تقلب قلوبهم عن الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن الغفلة عن الحق وعدم المبالاة به هذه من أسباب الصرف حتى عن الإسلام وعن دين الله، فالذي يتغافل وربما يهتم بدنياه غاية الاهتمام، ولا يلقي لدينه بالاً ولا يهتم به، هذا قد يصرف، ويصرف على حسب غفلته وعدم مبالاته بالدين، فقد يصرف عن التفقه، وقد يصرف عن السنة، وقد يصرف عن العلم وقد يصرف عن الإسلام من أصله حتى يصير كافراً، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف:146]؛ فبسبب غفلتهم وعدم مبالاتهم بالدين تصرف قلوبهم أكثر حتى عن فقه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[التوبة:124-125].. ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾[التوبة:127].

أيها الناس! ليحذر كل امرئ على نفسه من عقاب الغفلة، غفلة القلوب، وليبتعد ولينصرف وليجتنب الغافلين حتى لا يصيبوه بذلك المرض الخطير، مرض الغفلة عن طاعة الله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا[الكهف:28] طاعة الغافلين محرمة منهي عنها بهذه الآية وغيرها، ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف:28].

الذي صاحب هوى وصاحب إفراط وتفريط، صاحب غفلة قلب لا تطعه، فإنك إن أطعته وتمكن منك بطاعتك له أغفلك، وصرت من الغافلين.

أيها الناس! يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مبيناً أضرار الغفلة: أنها تؤدي إلى الإعراض وأكثر المعرضين من أصحاب غفلة القلوب: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:1]، الله سبحانه وتعالى يبين أنهم قريبون من الموت ومن الحساب ولا يزالون معرضين غافلين: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾[الأنبياء:1-2] أي: جديد مهما كانت بلاغته ووعظه: ﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾[الأنبياء:2].

فمن أضرار الغفلة أن يصير صاحب تلك الغفلة لعاباً، دينه كله يذهب لعباً، ويذهب لهواً، ويذهب ضياعاً، ولا يستفيد في حياته، هذا خطير عليه جداً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾[لقمان:6] شراء.. شراء، يشتري اللهو شراءً، يشتري اللعب شراءً، ينفق فيه الأموال من أجل الغفلة: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾[لقمان:6].

ولا بد أن يعلم الإنسان يتفكر وينتبه من أضرار الغفلة، لها أضرار خطيرة، ولا يبقى الإنسان غير مبالٍ بدينه، ومن أعظم ما يستيقظ به الإنسان عن غفلته: هو تذكر الموت، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق:19-22].

وكذا ذكر الله سبحانه وتعالى، فالقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وقلب الإنسان قد يغان عليه، فإذا ذكر الله ذهب عنه ذلك التغافل، وانكشفت عنه تلك الغطاءات، وانبرى لطاعة الله سبحانه وتعالى معنقاً نظيفا، فعلينا وعليكم جميعاً بالحرص على الانتباه، وعلى اليقظة في طاعة الله، وعدم الغفلة، فإن الغفلة شر على الإنسان، وذلك إذا تبصر الإنسان واعتبر بمن مضى، وبمن هلك على الباطل يرى أنه كان غافلاً في دنياه، فمنهم: من وصفه الله بأنه بعد الدنيا، ومنهم من وصفه الله بالبغي، ومنهم من وصفه الله بأوصاف مؤداها جميعاً: أنهم كانوا على غفلة من لقاء الله سبحانه، وانظر إلى بني النضير من اليهود، كيف أخبر الله سبحانه وتعالى عما حصل لهم بسبب ذنوبهم وغفلتهم؟ ثم بعد ذلك نبه بما في تلك الآية: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ[الحشر:2] قال سبحانه: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾[الحشر:1-2] أي: انتبهوا واستيقظوا، لا تكونوا غافلين الاعتبار: هو النباهة واليقظة والتفكر والانتفاع بما رأى الإنسان من المواعظ والعبر.

بنو النضير كانوا يظنون أن حصونهم تلك ستمنعهم، بل ما كانوا يظنون أن يخرجوا من تلك الحصون، ومن تلك الدور المحصنة، ولكن الله جعلهم يأخذون مساحيهم وفئوسهم ويهدمون بيوتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الأرض لله ولرسوله فمن كان له مال نفيس فليأخذه أو يأخذ ما شاء منه»، فجعلوا يهدموا بيوتهم يحملون جمالهم، فقد أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا ما حملت جمالهم إلى خيبر، ومنهم من ذهب إلى أذرعات بالشام أرض المحشر.

اعتبروا بحال الفجرة.. اعتبروا بحال العصاة لله ولرسوله.. اعتبروا بحال من مضى من المعاندين: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾[الحشر:2]، ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ[طه:128] أنتم الآن تمشون في مساكنهم، في مساكن أمم من الأمم مضت، سواء كانوا في ديار اليمن، أو في ديار الشام، أو في سائر البلدان، مضت أمم لنا فيهم عبرة: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾[السجدة:26].

آيات وعبر، تمشي في ديار أناسٍ علمت أن الله قد عاملهم بتلك المعاملة؛ بسبب ذنوبهم: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[العنكبوت:40]، وهؤلاء أين كانوا؟ كانوا في هذه الديار في هذه الدنيا على ظهر الدنيا.

اعتبروا بقصة فرعون فإنه طغى كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابة: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾[النازعات:15-25]، ثم قال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[النازعات:26]، عبرة لرجل فاجر عصى الله سبحانه وتعالى فانظر كيف عاقبه، أغرقه في البحر قال الله سبحانه مخبراً عنه حين غرق في البحر: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس:90-92].

إن قصص هؤلاء القوم ممن عذبهم الله وأهلكهم الله، لنا فيهم عبرة، كما أخبر الله سبحانه، حتى ممن حصل من سائر العبر لنا فيها عبرة، هذه عبر وقصص، والقصص كما يقال سياط الله على عباده، وسورة يوسف ذكر الله فيها قصة عظيمة: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾[يوسف:1-3]، وقال في آخر السورة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[يوسف:111].

هذه القصص في القرآن قصص الأنبياء، بل الأنبياء أرسلهم الله يقصون على قومهم: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾[طه:99-101]، قص عليهم أنباء الماضين وأخبار الماضين حتى ينتبهوا من الغفلة.

فقصص القرآن عظيمة بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى درة مما حصل في سورة هود قال: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾[هود:97-101] غير هلاك، تتبيب الهلاك، قص الله سبحانه وتعالى في كتابه قصصاً عظيمة لمن مضى، ينتبه بها الإنسان بها من غفلته، ويستيقظ بها من رقدته، ولا يبقَ غافلاً لاهياً ساهياً، عبرة وعظة فيقول الله سبحانه وتعالى منبهاً على الاعتبار بحال من مضى حتى في الأنعام لنا عبرة: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾[النحل:66]، لنا عبرة أن يخرج اللبن من بين فرث ودمن ويصير مشروباً لذيذاً.

ولنا كذلك أيضاً في السحاب لعبرة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾[النور:43-44].

كيف ما يعتبر الإنسان من آيات الله ومخلوقات الله وبطش الله ونقمته بمن مضى، فإن هذا يدل أعظم دلالة أن الله خلق العباد لعبادته وطاعته والتذلل له، وأن من عصاه ولم ينتبه وصار غافلاً: أن الله عز وجل يعاقبه: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾[آل عمران:13]، عبرة! ثلاثمائة من المسلمين يقتلون أضعافهم، أكثر من تسع مائة، وتنزل الملائكة تقاتل مع الصالحين، هذه عبرة ولا يدري قريش ومشركو قريش إلا وقد قتل صناديدهم، وربما أراد أحد المسلمين أن يقتل كافراً فيموت قبل أن يصل إليه بالضرب، أو يصل إليه بالبطش؛ لأنه قتله ملك من الملائكة، نعم عباد الله.

هذه عبر وقصص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يعتبر ويتعظ مما يرى، والذي لا يعتبر صاحب قلب، قلب ما ينتنه فاعتبر بمن مضى وهلك بسبب ذنوبه، وهلك بسبب بيعته وهلك وضاع بسبب تخبطاته، اعتبر فإن الاعتبار نعمة على الإنسان ويعود به الإنسان عن تماديه في الباطل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

ويقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾[الأعراف:175] هذا كله من التذكير بالعبر الماضية، جميع ما حصل من الماضي، وقص الله عز وجل علينا خبره في القرآن للاعتبار، وليس لمجرد القراءة والغفلة لا.

للاعتبار والتذكر ومن ذلك ما ذكره الله من هذه الآية: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾[الأعراف:175-176]، قصص عظيمة، آتاه الله القرآن آتاه الله الآيات، الآيات آيات ما هو القرآن، نعم، وما بالى بتلك النعمة، وصار من أهل الأرض يخلد إلى الأرض، وبعد الهوى: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الأعراف:176] فصارت القصص في القرآن قصص كتاب الله للعبرة والتفكر، وليست لمجرد التلاوة والنظر: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾[الأعراف:176-177].

اعتبر عبد الله! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً خرج بصدقته في الليل فوضعها في يد زانية ثم أصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على زانية –أي: الليلة الماضية- فقال: اللهم لك الحمد على زانية –يعني: وضع مالي في يد زانية وما كان يريد ذلك- ثم خرج من ليلة أخرى فتصدق على غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، ثم خرج الليلة الأخرى فتصدق على سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتاه خبر أنه قد قبلت صدقته: أن الله قد قبل صدقتك، أما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله ينتهِ عن سرقته، وأما الغني فلعله أن يعتبر فيتصدق»، غني والناس يتصدقون وهو ما يتصدق! يعتبر ويتصدق، فهذا يعتبر، لعل الإنسان ببعض الموعظة والذكرى يعتبر، وهكذا أيضاً الجاهل لعله يعتبر بمن يطلب العلم فيتعلم، وهكذا أيضاً الباغي لعله يعتبر بمن بغى وهلك فينتهي ويتأدب ويتواضع، وهكذا الظالم لعله ينتهي، يعتبر بما حصل من بطش الله سبحانه للظالمين فينتهي عن ظلمه ويعدل.. وغير ذلك، مما فيه العبر «لعله يعتبر فيتصدق».

وهكذا بعض المرض فيه عبرة، الأمراض والبلاء الذي يصاب به الإنسان قد يكون فيه عبرة فيعتبر بصحته والناس مرضى، ويشكر الله سبحانه وتعالى يعتبر، هذه نعمة عليه من الله تغافل عنها، فكم من إنسان لا يذوق الطعام ولا يتلذذ به، وكم من إنسان لا يذوق النوم ولا يتلذذ به، وكم من إنسان لا يذوق الراحة والطمأنينة وهدوء البال ويتلذذ به، وكم من إنسان لا يذوق نعماً كثيرة وأنت في نعمة اعتبر، وزيارة المرضى وعيادة المرضى.. وما إلى ذلك، فيها عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن تذكر.

وهذه الآيات حتى في جسم الإنسان عبرة: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾[الذاريات:21-23]. ا.هـ