الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

أهمية البيان في حياة الإنسان

02-04-2009 | عدد المشاهدات 4711 | عدد التنزيلات 1413

 [أهمية البيان في حياة الإنسان (109)]

خطبة جمعة: (2/شوال/1426هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

===========================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ويقول سبحانه في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحشر:18]، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[الحج:1-2]، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102].

في هذه الآيات وصية من الله سبحانه وتعالى بتقواه التي هي وصية الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء:131]، وتقوى الله سبحانه وتعالى تتوفر عند الإنسان المؤمن كلما ازداد عنده بيان الحق، وكلما استفاد شيئاً من البيان ازداد به تقوى للرحمن، فإذا تبين له تحريم الزنا اتقاه، وتحريم الربا اتقاه، وتحريم الكذب اتقاه، وتحريم الزور اتقاه، وتحريم عقوق الوالدين اتقاه، وتحريم قطيعة الأرحام اتقاه، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الشركيات والبدع والخرافات اتقاها، وإذا اتقى الله كان من عباد الله الصالحين.

فلهذا حرص الأنبياء على بيان الحق للناس، وأنزل الله كتبه وأرسل رسله بياناً وهدى، قال الله عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:1-2] لا ريب فيه ولا شك فيه ولا التباس فيه كتاب مُبَيَّنْ، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[فصلت:42]، وقال الله: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾[الدخان:1-3]، فهو كتاب بين مبين، وقال الله عز وجل: ﴿هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[إبراهيم:52]، وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه أراد لهم البيان والوضوح حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، قال الله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[النساء:26-28]، وأخبر عن رسله أنهم أتوا الناس بالبينات، قال سبحانه: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾[آل عمران:184].

فكتاب الله بيان مبين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:44]، فالسنة ذكر والقرآن ذكر وكل ذلك مبَين ومبيِن للناس، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[النحل:64]، فبين لهم ما كانوا يختلفون فيه، مما دعاهم إليه المرسلون، وما عارضهم به المعارضون، فنزلت البيانات من رب العالمين سبحانه بأن من عصى الله ورسوله فإنه متوعد بالجحيم وبعذاب الله الأليم، ومن أطاع الله ورسوله فإنه من أهل جنات النعيم ببيانات كافيات شافيات: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، فقطع الله عز وجل عليهم الحجة والمعاذير بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الحق إليهم.

أيها الناس! إن البيان يستبين به الباطل، كما قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾[الأنعام:55]، فسبيل الحق يستبين بالبيان للناس، وسبيل الباطل يستبين بالبيان للناس، ولا يظهر ذلك إلا بالتوضيح والبيان، وكم بين الله سبحانه وتعالى حال الكافرين وحال المنافين، وحال الفاسقين، وحال الظالمين، وما أعده للمؤمنين؛ كل ذلك أن الحياة الدنيوية والأخروية لا تستقيم للعباد ولا يتضح منها المراد إلا بتوضيح ما أراده الله سبحانه وتعالى من الخير والرشاد والسداد، إن أمر البيان للناس أمر هو وظيفة الأنبياء ومراد رب العالمين سبحانه وتعالى، فلهذا ترى أن الهلكة تقع لمن تبين لهم الأمر وأعرضوا عنه أكثر ممن خفي عليهم ذلك الأمر، قال الله سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾[القصص:59]، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115].

وشاهدنا من ذلك: أن البيان لا يصل إلى الناس على ما أراده الله سبحانه وتعالى إلا بنشره وببذل الوسع في بثه بين الناس وعدم كتمانه، ولهذا ترى أن الله سبحانه وتعالى ذم أهل الكتاب على عدم بيانهم للحق، وعلى كتمانهم له، قال الله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[آل عمران:71]، ولما زنى يهودي بامرأة وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بالإتيان بالتوراة: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[آل عمران:93]، حتى يظهر أنهم كذابون وأن التوراة فيها بيان هذا الحكم، فجعل ذلك يقرأ عن يمين الآية وشمالها ومن جانبها يعني: من جوانب أخرى عن يمينه وشماله ويغطي على آية الرجم، قال له ابن سلام: ارفع يدك، فصار بذلك كاتماً لحكم أراده الله وأمر به، فشأن اليهود والنصارى وأهل الباطل كتمان العلم والحق، وهذا مذموم، والله قد أخذ عليهم الميثاق الوثيق العظيم ألا يكتموا العلم وأن يبينوا العلم وألا يكتموا الحق وأن يبينوا الحق، وألا يكتموا الشهادة وأن يبينوا الشهادة، وألا يكتموا ما هدى للناس.

فإن الكتمان تحصل به أضرار عظيمة على الأمم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾[آل عمران:187]، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم آمراً هذه الأمة بالبيان وبمخالفة ما عليه تلك الأمم المفضوحة الذين أخفوا ما أراده الله سبحانه وتعالى وما بينه في كتابه، قال الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:158-159]، فالله يلعنهم وكل لاعن يلعنهم؛ لأن كل معصية تحصل في الأرض بجهل الحكم الشرعي سببها كتمان العلم، كل معصية يعصى الله سبحانه وتعالى بها بسبب الجهل، سببها كتم العلم وعدم وضوح العلم وعدم بيان الحق، فلهذا كل لاعن يلعنهم: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾[البقرة:159-160]، تابوا من كتمانهم ومعاصيهم، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس مراد الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه: ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة:160]، فدل هذا على أن كتمان الحق والحقائق والعلم؛ أن هذه يعتبر كبيرة عظيمة، بها هلكت أمم.

إن كتمان العلم وعدم البيان يحصل به الالتباس عند الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات:6]، دلت هذه الآية أن عدم التبين في الأمور يحصل به الالتباس على الشخص، فلهذا مراد الله سبحانه أن يتبين الإنسان وأن يبين، وانظر إلى حديث أبي موسى في الصحيحين من طريق أبي كريب عن أبي أسامة عند بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير»، هذا هو الذي يبين أن علمه وما عنده يثمر، «وأصاب أخرى أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا»، وهذه الطائفة أيضاً تبين، وإن لم يكن فقيهاً مستنبطاً كما هو الشأن في الشخص الأول أو في الصنف الأول، لكنه حافظ للعلم، ومن أتاه وأراد العلم وأراد الحق بين له، فالناس يستفيدون من ذلك خيراً كثيراً، كما يستفيدون السقي والزراعة والانتفاع بالماء، وإن لم يكن مثمراً كما يثمر الأول: «وأصاب أخرى إنما هي قيعان -أي: صباخ لا تمسك ماء حتى ينتفع الناس-، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من نفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

إن شرف العلم وشرف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وشرف تغيير المنكر وشرف كل هذه المناقب دال على فضل البيان بيان الحق للناس وزحزحة الباطل، ولا يتأتى ذلك البيان إلا بالتعلم وبالقيام بما أوجب الله سبحانه وتعالى، فالواجب على كل مسلم أن يحرص على بيان الحق للناس بقدر ما يستطيع؛ بلسانه بقلمه بفعله، بأقواله وأفعاله وأحواله؛ كل ذلك يبين ما أراد الله لناس كما أرسل الله رسله وأنزل كتبه لهذا المطلب.

أيها الناس! إن كتمان العلم وكتمان الحقائق والبيان يتمثل في عدم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويتمثل في عدم التعلم وعدم التعليم، فالذي عنده علم ولو اليسير ولم يعلمه بما يستطيع فإنه كاتم لهذا العلم، وكتمان العلم يتمثل كذلك في عدم إنكار المنكر، فمن رأى منكراً ويعلم أنه منكر يكون كاتماً للعلم: «من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطيع بلسانه وإن لم يستطع فبقله».. الحديث، وكتمان العلم الذي ذم الله عليه الأولين والآخرين إلا من تخلص من هذه الجريمة، يتمثل كذلك في عدم العمل به وعدم دعوة الناس إليه، وعدم حث الناس عليه، فمن كتم ما أراده الله عز وجل فهو كاتم للعلم، ومن صد عما أراده الله وعما ينفع المسلمين فهو كاتم للعلم شأن بني إسرائيل في ذلك؛ الذين كانوا يكتمونه ويشترون به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن كتمان العلم والحق يدل على التباس الأمور ويحصل به أضرار وشرور، وذلك في قوله: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهم»، الصدق والوضوح والبيان سبب للبركة، والكتمان سبب لمحق البركة، سواء في العلم أو في السلعة أو في غير ذلك، «وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما»، أخرجاه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، ولما مر في السوق ورأى رجلاً أظهر الطعام الطيب من الأعلى، وجعل الطعام الذي أصابته السماء من الأسفل، قال: «ما هذا يا صاحب الصبرة، ألا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غش فليس منا»، فكتمان العلم وكتمان الحق وعدم الوضوح يعتبر غشاً للناس، سواء في الدعوة أو في المعتقد أو في المنهج أو كذلك أيضاً في البيع، في الشراء، في النكاح، لابد في ذلك من البيان حتى يسير السائر غير مغشوش، فجميع أدلة الغش والخيانة والتلبيس والتزوير كلها تدل على أن كتمان الحقائق أن ذلك جرم، وأن أكثر من يفتن وينقلب وينصرف عن الحق ويتغير مفهومه الصحيح؛ كل ذلك بكتمان العلم وبتلبيس الحقائق وبعدم الوضوح.

فاحرصوا على إيضاح الحق للناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالحق أعلى، الحق من عارضه صار منهزماً، والعلم من أبرزه أفلج ويعتبر مغبوطاً محسوداً من بين للناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»، عمر بن عبد العزيز يكتب إلى العلماء في زمنه: أن اجلسوا للناس وعلموا الناس فإن العلم لا يذهب حتى يصير خفية لا يبين، وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً من المخلوقات تستغفر لمن بين الحق من الباطل، كما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحيتان في الماء ليصلون على معلي الناس الخير»، على من يبين للناس الهدى، ويبين لهم مسالك الهدى ومسالك الردى، فلا يتحصل ذلك إلا ببذل ووسع وبيان.

ألا فعلى المسلمين جميعاً أن يعتنوا بجانب بيان الحق وعدم التلبيس فيه، فإن ذلك مذموم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فانظر إلى أدلة التقليد التي ذم الله المقلدين المشركين، وحيث أنهم لم يتحروا الحق البين، وإنما تابعوا على ما وجدوه ولو لم يكن حقاً، قال الله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[الزخرف:23]، فصار المقلد ليس متحرياً للشيء البين الواضح، وليس متحرياً للحق الجلي، وإنما هو متابع لما وجده على خفائه وعلى لبوسه، فلهذا المقلد لا يعتبر متجرداً للحق، وإنما هو متجرد للهوى وللعصبية، هذا شأن المقلدين من اليهود والنصارى والمشركين، ولمن تابعهم في التقليد على ذلك قسط من هذا الجانب، وإن أمر بيان الحق يحتاج إلى صبر وإلى بذل وسع، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على ذلك، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»، وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» بيان الحق له، وتوضيح الحق له، فليحذر امرؤ على نفسه من أن يكتم ما أراده الله وما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن أمر إخفاء الحق والسكوت على الحق وتلبيس الحقائق تفشى في هذه الآونة كثيراً؛ مداهنة وخيانة وغش وتلبيس؛ كل ذلك من أسباب فساد الأمة، كل ذلك من أسباب تنغص الحياة، فإن الحياة تتم وتصلح بالتواصي والتناصح والوضوح في الدعوة، والوضوح في الكلام، والتبيين للحق، وعدم إخفاء الحقائق، أمور مهمة يسكت عنها بنو إسرائيل فيهلك بسبب السكوت أمم، ويحيي الله سبحانه وتعالى أمماً أخرى بسبب البيان، ولكم عبرة في أهل السبت، فمن كان من الساكتين والكاتمين وعدم المبينين صار ممسوخاً: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾[الأعراف:163-165]، الذي بين الحق ونهى عن السوء صار من الناجين: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[الأعراف:165]، والذي يكتم الحق يعتبر ظالماً، قال الله: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾[إبراهيم:45]؛ ظهر لكم ووضح الأمر عندكم أن الله أهلك من كان على سبل المفسدين: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم:45-46].

فالشاهد من هذا كله: وجوب النصح وبذل البيان والتوضيح للناس، وعدم التخفي بدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم السرية في شيء يريد الله بيانه، في شيء يريد الله وضوحه، في شيء يريده الله وبينه في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الإنسان صادقاً، ناصحاً، بيناً، مبيناً، واضحاً بكل ما أراده الله سبحانه وتعالى: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول حقاً رآه أو شهده أو سمعه» هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه ذلك في مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه.

والحمد لله رب العالمين.