الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

غــذاء الأرواح

12-07-2009 | عدد المشاهدات 10808 | عدد التنزيلات 1955

 

غذاء الأرواح
 
 
خطبة جمعة بتاريخ:
(30 شوال 1426هـ)
(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
======================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ))[الأنعام:162-163].
في هذه الآية العظيمة أن الله أمر نبيه أن يجعل حياته كلها لله، وهكذا مماته لله، فلم يبقَ من الإنسان شيء إلا وهو لله سبحانه وتعالى، بما في ذلك روحه ولسانه ويداه ورجلاه وشعره وسمعه وبصره، وجميع حواسه، كلها لله، ويجب أن تكون مسخرة كلها في طاعة الله.
وهذه الجوارح كما يحافظ عليها من العطب والتلف، ويحافظ على سلامتها وصحتها، يحافظ على أهم عضو فيها، الذي بحياته تحيا، وبموته تتلف، وهو القلب.
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جارحة في الإنسان واحدة عليها مدار الجوارح، وكان الواجب على كل إنسان حريص على نفسه أن يهتم بهذا العضو الذي عليه مدار الأعضاء، وهو القلب، أي: هذه المضغة، ويحافظ على صحتها، ويغذيها حق غذائها.
أيها الناس! إن تنافس الناس في الدنيا له تنافس كل ذلك من أجل تغذية الأجساد، وراحة الأجسام، وسلامة الأجسام، وقوة الأجسام، ولكن قليل من يهتم بتغذية الروح، بتغذية القلب تغذية حسنة، وإن فساد المجتمعات من شركيات وبدعاً وخرافات، وتقليد للكفار، وشر وبوار، كل ذلك حاصل بين الناس سببه: سوء التغذية، لكن ليست على الأجسام وإنما على الأرواح.
فسبب ما يحصل في العباد والبلاد من الفتن والفساد كل ذلك صادر عن سوء التغذية، وانظر تواريخ أهل البدع وأهل الشركيات ترى أنه حصل لهم أنهم ما تغذوا تغذية طيبة، ما اعتنوا بأنفسهم، ولا قبلوا الغذاء الطيب، ولا استفادوا؛ ولهذا طمست بصائرهم، أقبلوا على ما لا ينفعهم.
ونبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: ((وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الشعراء:87-89]، أي: كان سليماً من تغذية الباطل، سليماً من الشركيات، كان سليماً من خشية غير الله، سليماً من الرهبة والرغبة في غير الله، سليماً من المحبة الشركية لغير الله، سليماً من التعلق والثقة بغير الله، من سلم قلبه لله سبحانه وتعالى وسلمت عبوديته لله سبحانه وتعالى فهذا هو القلب السليم، أما قلب خالطه حب الله، وأشرك مع حب الله غيره، أو خوف الله وأشرك مع خوف الله غيره، أو الرغبة في الله وأشرك مع الرغبة مع الله في غيره، أو التوكل على الله وأشرك في التوكل غير الله، هذا قلب ليس بسليم، هذا قلب مريض، وقد يتدهور ويموت، ولا ينتفع يوم القيامة، ولا يسلم صاحبه من الخزي، إلا القلب السليم، الذي عنده تغذية صحيحة نافعة، ولم ترد ذلك السقم، ذلك السقم الذي أي قلب يهجم عليه يصير قد فتن.
أيها الناس! إن أعظم غذاء للقلوب والأرواح لهو كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تجد غذاء لروحك وقلبك من مطعومات ومشروبات، لكن هذا الغذاء هو أعظم غذاء، كما أبانه الله سبحانه وتعالى في كتابه: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الشورى:52]، قال أهل العلم: سمى الله قرآناً روحاً؛ لأن عليه تتوقف الحياة الحقيقية، ومعنى ذلك: أن من لم يعتنِ بالقرآن لا روح له، من لم يعتن بالقرآن علماً وتدبراً وتفقهاً وتلاوة فإنه ميت، ويبين ذلك حديث أبي موسى عند الإمام البخاري رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت}.
الذي لا يعتني بالقرآن ميت، وما عنده روح حقيقية، ولا له حياة حقيقية، حياته حياة يشترك فيها مع الأنعام، فأي حياة يتوفر فيها الطعام والشراب والعناية بالأجسام ولا يتوفر فيها العناية بالروح فإن هذه الحياة بهيمية، ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ))[محمد:12].
فقد أبان الله سبحانه وتعالى أن الكفار يعتنون بالأكل والشرب كما تعتني الأنعام وكما تأكل الأنعام، وأن ذلك لا فارق بينهم وبين الأنعام: ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا))[الفرقان:44].
فيا أيها المسلم! اعلم أن هذا الغذاء لا يستغني عنه قلب أبداً، عن تلاوته، وعن تدبره، وعن العمل به، وأي قلب لم يعط القسط من هذا الغذاء العظيم فإنه ستهجم عليه الأمراض والأسقام والشهوات والشبهات وسائر الفتن.
فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))[يونس:57]، هو شفاء، ومع ذلك أيضاً غذاء نافع، غذاء للهداية: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا))[الإسراء:9].
وأبان الله سبحانه وتعالى أن هذا الغذاء من أسباب الخشية والرغبة لله سبحانه وتعالى: ((قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا))[الإسراء:107-109].
أي قلب أفسد، وأي قلب أقبس، وأي قلب أنكس، ممن لا يستفيد من هذا الغذاء، ولا ينتفع به؟! وقد أبان الله سبحانه أنه لو نزل على جبل لتصدع: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[الحشر:21].
ويقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))[البقرة:74]، وهذا تهديد شديد لبني إسرائيل لما لم ينفع فيهم هذا الغذاء وهذا العلاج النافع، فإن الله عاقبهم، وإن الله هددهم بهذا التهديد.
عالج قلبك بالإيمان، عالج قلبك بذكر الله، غذي هذا القلب بطاعة الله سبحانه وتعالى، واعلم أنه أحب بالتغذية من جسمك الذي من أجله تقدح.
فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم مبيناً نفع هذا الغذاء للقلوب: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ))[الزمر:23]، هذا من أسباب اللين، هذا مبعد عنك القسوة، هذا مبعد لقسوة القلوب، وحتى أيضاً للقسوة الجسمية، دل هذا على أن القلب إذا لان لانت الجوارح، وأن القلب إذا قسا قست الجوارح.
((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))[فصلت:44].
لما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم زوده بهذا الغذاء العظيم، وبهذا الزاد العظيم، ((وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ))[الشعراء:192-194].
ما لك قدرة أيها الداعي إلى الله على أن تقيم دعوة حتى تتزود بهذا الزاد، وإلا فما عندك زاد، وكان كلما قال المشركون شبهة زوده الله سبحانه وتعالى بما يدحض تلك الشبهة: ((وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا))[الفرقان:33].
ويقول الله سبحانه وتعالى عن نبيه الكريم حين كان يورد عليه المشركون أو يعتدي عليه المشركون يسليه بالقرآن، ويغذيه بتلك التغذية العظيمة، ((فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[البقرة:109].
وإذا تنقصوه نزل القرآن مغذياً له ومبيناً بيان عزته، وأن العزة له ولأنصاره ولأتباعه: ((الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ))[المنافقون:8]، وإذا قالوا: قلاه ربه، نزل القرآن مبيناً ما عند الله سبحانه وتعالى له في الدنيا والأخرى: ((مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى))[الضحى:3-5].
غذاء لا غنى أبداً لقلب عن هذا الغذاء، وأي قلب استغنى عن الغذاء الروحي بالكتاب وبالسنة فإنه قلب يتدهور، يمرض، وقد يموت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنه ليغان على قلبي فأذكر الله فيذهب ما بي}، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن، وزوده ربه بهذا، وأمره بهذا: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا))[المزمل:1-4].
زاد عظيم لمن يحمل دعوة إلى الله سبحانه وتعالى هذا القرآن، زاد عظيم لمن يستقيم على كتاب الله هذا القرآن، زاد الحياة، ومن ليس عنده عناية بذكر الله ما عنده زاد في الحياة.
وهكذا من الزاد قيام الليل، هو أعظم زاد وأعظم تغذية للأرواح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا))[الإسراء:79]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين بالله سبحانه وتعالى وبالصلاة: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ))[البقرة:45]، فالصلاة فيها إعانة، سواء صلاة الفرائض أو صلاة النوافل، فيها إعانة على صحة جسمك، وفيها إعانة على شفاء أمراضك، وفيها إعانة على دفع أعدائك، وفيها إعانة على نصرتك على طاعة الله، أنك تنتصر وتقوم بطاعته، وإن لم يكن لك قسط من الصلاة من فرض ونقل فإنك ما عندك ما تنصر به.
ويوم بدر النبي صلى الله عليه وسلم متوقع هجوم الكافرين وجحافل المشركين وغطرسة المتغطرسين، بما معهم من العدة والعدد، ولكن بات للتزود، وبات يستفيد من ذلك الغذاء الروحي، وبات يدعو الله سبحانه وتعالى ويذكره، حتى يسقط رداؤه وهو يقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض}.. الحديث، وأبو بكر يقول: {كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك}.
وقبل القدوم مع الكافرين يعطي أصحابه تغذية عظيمة، ويقول لهم: {قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيقول عمير بن الحمام رضي الله عنه: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ، قال: ما حملك على بخ بخ؟ قال: والله إلا رجاء أن أكون من أهلها}، ثم ألقى التمرات التي أخرجها، وأقبل على قتال الكافرين؛ لأنه عنده تغذية عظيمة في نفسه بقلبه بروحه، أنه يريد الجنة، ملأ قلبه بالإيمان، وبحب الله، وبنصرة دين الله؛ فلهذا استبطأ أن يأكل تمرات.
هذه التغذية الروحية التي تدفعك إلى الطاعة وتبعدك عن المعصية، أما تغذية الأجسام بغير عناية بالقلوب فلا تزيد صاحبها إلا خبالاً، ولا تراكم عليه إلا وبالاً.
إي والله، أهم ما عندك أن تغذي روحك بطاعة الله سبحانه وتعالى، بذكر الله، بالدعاء، بقيام الليل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يحمل من العبء الشيء الثقيل أهله الله لذلك: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))[الأنعام:124].
كان يقوم قياماً طويلاً، ويقرأ قراءة طويلة، حتى صلى خلفه ابن مسعود، قال: افتتح البقرة، فقلت: يركع عندها، عند المائة عند.. إلى أن قال عندها: ثم افتتح النساء، ثم افتتح آل عمران، وهو يقرأ القرآن، حتى هممت بأمر سوء، أم هممت أم أجلس وأدعه. وهكذا يقول لعائشة: {يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، تقول: أحب قربك وأحب ما يسرك}، فيقول ويكرر القرآن؛ لأن الحمل ثقيل، وهو بحاجة أن يستعين بالصلاة على هذا الحمل الثقيل عليه، وبطاعة الله سبحانه وتعالى، فيتهجد حتى يأتي بلال يؤذنه لصلاة الفجر.
وهكذا يخبر ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، ثم يستاك، ثم يقرأ شيئاً من القرآن، ذكره ابن عباس، ثم يقوم رسول صلى الله عليه وسلم، ويقوم ابن عباس إلى جاره، وهو يلاحظ في ذلك صلاته، ويلاحظ قيامه، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتفطر قدماه.
لا تظن أيها المسلم! أن هذا هو التعب، بل هذا هو النشاط، بل هذه هي الإعانة، بل هذا عين القوة.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه حين تسابقوا وتنافسوا في الأموال من أجل الحج والعمرة والطاعة، أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: {يا رسول الله! سبق أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، -يحجون ويعتمرون ويتصدقون-، قال: ألا أدلكم على ما تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ قالوا: بلى، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين}، فدل هذا أنه أعطاهم غذاء يقويهم وينشطهم، وخير لهم من الأموال.
وفي حديث أبي الدرداء: {ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير من أن تلقوا عدوكم وتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله}.
ولما جاء الأنصار يطلبون تغذية لأجسامهم، جاءوا بجماعتهم، تعبوا من نزع الماء، فقالوا: لو ذهبتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأل الله أن يفجر لكم أنهاراً، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجماعتهم، فلما رآهم قال: {مرحباً وأهلاً، ما جاء بكم إلا حاجة، لا تسألوني اليوم شيئاً إلا أعطيتموه، ولا أسأل ربي شيئاً إلا أعطاني}، هذا وعد حاسم بإذن الله عز وجل، ومع ذلك يلتفت بعضهم إلى بعض ويقول: الدنيا تريدون، زاد الدنيا، غذاء الدنيا؟ ماء ينزل، وأراضي تسقى، ثم تنبت، ثم تثمر، والمواشي ترعى، ويحصل من التغذية الجسمية ما الله به عليم ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أرادوا الغذاء الروحي، أرادوا الغذاء الدائم، قالوا: {يا رسول الله! استغفر لنا، قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار}، هنيئاً لهم إقبالهم على ذلك الغذاء.
وابن مسعود رضي الله عنه مر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة النساء يسحلها سحلاً يصلي بها ويقرؤها، يقرؤها في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {سل تعط، سل تعط، سل تعط}، ثلاث مرات يكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنه إن سئل أعطي، فلم يسأل زاداً في الدنيا، ولا غذاء في الدنيا، لكن أقبل على زاد الآخرة، وعلى غذاء الآخرة، قال: {اللهم إني أسألك إيماناً لا ينقطع، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى درجات الخلد}.
أعظم غذاء هو الغذاء الروحي، الغذاء الجسمي يتركك وتنقطع في وسط الطريق، ولا يصحبك لا إلى قبر، ولا يصحبك في دنيا، لا يصحبك ولا ينفعك في دنيا ولا أخرى: ((وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ))[سبأ:37]، {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}، {يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد}، يرجع الغذاء الدنيوي ويبقى الغذاء الروحي الذي يصحبك إلى قبرك.
نعم، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))[الحجرات:6] * ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:7]، زينة القلوب هو القرآن، زينة القرآن هو العمل الصالح، والذي ما عنده قرآن، ولا يعتني به، فإن قلبه غير مزين، قلبه مشوه، زينة القلوب، ((وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ))[الحجرات:7].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
وفي صحيح البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة من الليالي: {لا إله إلا الله! ما نزل من الفتن، وماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة}، وهذا الحديث العظيم فيه بيان على أن النبي صلى الله عليه وسلم أبان أن خزائن نزلت، ومع ذلك حرص على نسائه وصواحب حجراته، وغير ذلك من نساء المسلمين، أن يأخذن الزاد الحقيقي الروحي الدافع للفتن.
الذي ما عنده زاد من الكتاب والسنة ما أسرعه إلى الفتن، الذي ما عنده زاد من العلم الشرعي ما أشد فتنته وتقلبه: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتة فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتة فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض كالصفاء، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه}.
ولا يستطيع القلب أن يدفع الشبهات والشهوات إلا أن يكون عنده تغذية؛ حتى يقوى على دفع ذلك، تغذية روحية علمية سنية قرآنية، وإلا فهو ضعيف: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير}، مهما كان خير المؤمن فإن النساء القوي في دينه.. في تمسكه.. في ثباته، هذا خير، وهذا أعظم.
التغذية الروحية عباد الله بمجالسة الصالحين، وبالتعبد لرب العالمين، تقول عائشة رضي الله عنها: {أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم به من الوحي الرؤيا الصالحة، كان لا يرى الرؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب إليه الخلوة، فكان يخلو بغار حراء يتحنث}، والتحنث قالت عائشة: هو التعبد الليالي ذوات العدد، فأول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيأه الله به أن حبب إليه لحمله لهذه المسئولية حب إليه قيام الليل، وحببت إليه الطاعة، فجعل يعبد الله سبحانه وتعالى.
الطاعة تؤهله لحمل الأثقال من المسئوليات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة يخر تحت العرش ساجداً، ثم يفتح له من محامده ما شاء الله، ثم يقال له: سل تعط، واشفع تشفع}، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال إذا حزبه أمر وهمه هم أو غم، يقوم إلى طاعة الله سبحانه؛ من أجل أن يستعين على تلك الأمور بطاعة الله: {أرحنا بها يا بلال}، ويقول عليه الصلاة والسلام: {وجعلت قرة عيني في الصلاة}.
فالطاعة تؤهله لحمل المسئوليات، ولدفع الفتن والمشكلات، الطاعة لله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى أذكار النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى محافظته على الذكر قبل النوم، وإرشاد الأمة إلى ذلك: {إذا أتى الإنسان مضجعه، وسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين، يصير نشيطاً}.
وهذا الذي أرشد إليه فاطمة رضي الله عنها لما جاءت إليه تشكو إليه أثر التعب والإرهاق من الرحى، فدلها على شيء تعينها تغذية روحية تقوم مقام التغذية الجسمية، وتقوم أكثر من ذلك: {ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ قالت: بلى، قال: تسبحين ثلاثاً وثلاثين وتحمدين ثلاثاً وثلاثين وتكبرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك، فذلك خير لك من خادم}.
هذا أمر مجرب، أن من ذكر الله بذلك الذكر أنه يصير نشيطاً، ويقوم نشيطاً، ويذكر الله نشيطاً، وخير من أن يأكل قبل نومه لحم كباش، وخير له من أن يغذي نفسه وجسمه قبل نومه بالعسل وسائل المطعومات؛ لأن تلك التغذية الروحية لا تقوم مقامها التغذية الجسمية أبداً، فاحرص على تغذية روحك، فإن فيها تغذية الجسم تماماً:
لها أحاديث من ذكراك تمنعها                   عن الشراب وتلهيها من الزاد
ابن القيم يذكر هذا البيت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إني لست كهيئتكم، إني أبيت أطعم وأسقى}، ما يبيت يأكل الأطعمة والأشربة، ولكن يبيت يغذى بذكر الله، وهذه التغذية بذكر الله تعينه وتنشطه، حتى إنه يواصل في الطاعة وفي العبادة ولا يشعر به بثقلها، فكلما كان الناس أطوع لله سبحانه وتعالى كان أنشط، أنشط في قلبه، وأنشط في ذكره، وأنشط كذلك في القيام بأعماله، وأنشط كذلك أيضاً في بيان أحوال أهل الباطل.
والله ما جاءت الفتن إلى المسلمين إلا من سوء التغذية الروحية، فإنهم يغذونهم بحب الدنيا، ويغذونهم بالأطعمة والأشربة، ويغذونهم بالمطامع الدنيوية واللهوث وراءها، وهذا في الحقيقية أتعاب وإرهاقات: ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التوبة:55]، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ))[المنافقون:9].
ومن ألهاه الشغل بغذائه الجسمي عن غذائه الروحي بذكر الله سبحانه فإنه خاسر، ولو جمع من الغذاء ملء الدنيا، فإنه خاسر، ولا يمكن أن يتغذى قلبه ولا يستفيد قلبه من ذلك، إلا أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ))[المعارج:19-23].. الآيات، فأبان الله أنه شأن الإنسان الجزع والهلع، إلا من كان على صلاح فإنه يستفيد حتى من... ويصيبه التغذية الروحية، بدلاً من أن يكون تغذية جسمية فقط.
ألا يا أيها الناس! القرآن القرآن، والسنة السنة، فلم يعتن بقلبه بالقرآن والسنة، وطلب العلم، ومجالسة الصالحين، فإنه يصير قلبه متعباً مرهقاً سقيماً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله}، يأتيهم الغذاء الروحي من كل جانب.
وفي حديث البراء عند الصحيحين: أن رجلاً كان يقوم الليل يقرأ سورة الكهف، فنزلت سحابة حتى تغشته، وكانت تدنو، وكلما دنت نفر الفرس، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: {تلك السكينة، نزلت للقرآن}، فرسه مربوطة وتفر من ذلك؛ من أجل أن الملائكة ينزلون للاستفادة من كلام الله، وهكذا لهذا الغذاء العظيم، أما الغذاء الدنيوي والغذاء المالي: {إن الله لا ينظر إلى أموالكم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
وبالله التوفيق.