بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الثاني: من
التعليق على رسالة التحف فِي مَذَاهِب السّلف للإمام الشوكاني رحمه
الله
وَأَقُول: اعْلَم أَنَّ الْكَلَام
فِي الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الصِّفَات قد طَالَتْ ذيوله وتشعبت أَطْرَافه
وتباينت فِيهِ الْمذَاهب وتفاوتت فِيهِ الطرائق وتخالفت فِيهِ النَّحْل وَسبب هَذَا
عدم وقُوف المنتسبين إِلَى الْعلم حَيْثُ أوقفهم الله ودخولهم فِي أَبْوَاب لم
يَأْذَن الله لَهُم بِدُخُولِهَا ومحاولتهم لعلم شَيْء اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ
حَتَّى تفَرقُوا فرقا وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابا وَكَانُوا فِي الْبِدَايَة
ومحاولة الْوُصُول إِلَى مَا يتصورونه من الْعَامَّة مختلفي الْمَقَاصِد متبايني المطالب
فطائفة وَهِي أخف هَذِه الطوائف المتكلفة علم مَا لم يكلفها الله سُبْحَانَهُ
بعلمه إِثْمًا وأقلها عُقُوبَة وجرما وَهِي الَّتِي أَرَادَت الْوُصُول إِلَى
الْحق وَالْوُقُوف على الصَّوَاب لَكِن سلكت فِي طَريقَة متوعرة وصعدت فِي
الْكَشْف عَنهُ إِلَى عقبَة كؤود لَا يرجع من سلكها سالما فضلا أَن يظفر فِيهَا
بمطلوب صَحِيح وَمَعَ هَذَا أصلوا أصولا ظنوها حَقًا فدفعوا بهَا آيَات قرآنية
وَأَحَادِيث صَحِيحَة نبوية وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك الدّفع بشبه واهية وخيالات
مختلة وَهَؤُلَاء طَائِفَتَانِ الطَّائِفَة الأولى وَهِي الطَّائِفَة الَّتِي غلت
فِي التَّنْزِيه فوصلت إِلَى حد يقشعر عِنْده الْجلد ويضطرب لَهُ الْقلب من
تَعْطِيل الصِّفَات الثَّابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة ثبوتا أوضح من شمس النَّهَار
وَأظْهر من فلق الصَّباح وظنوا هَذَا من صنيعهم مُوَافقا للحق مطابقا لما يُريدهُ الله
سُبْحَانَهُ فضلوا الطَّرِيق الْمُسْتَقيم وأضلوا من رام سلوكها والطائفة
الْأُخْرَى هِيَ غلت فِي إِثْبَات الْقُدْرَة غلوا بلغ إِلَى حد أَنه لَا تَأْثِير
لغَيْرهَا وَلَا اعْتِبَار بِمَا سواهَا وأفضى ذَلِك إِلَى الْجَبْر الْمَحْض
والقسر الْخَالِص فَلم يبْق لبعث الرُّسُل وإنزال الْكتب كثير فَائِدَة وَلَا يعود
ذَلِك على عباده بعائدة وَجَاءُوا بتأويلات للآيات الْبَينَات ومحاولات لحجج الله
الواضحات فَكَانُوا كالطائفة الأولى فِي الضلال والإضلال مَعَ أَن كلا المقصدين
صَحِيح وَوجه كل مِنْهُمَا صبيح لَوْلَا مَا شانه من الغلو الْقَبِيح وَطَائِفَة
توسطت ورامت الْجمع بَين الضَّب وَالنُّون وظنت أَنَّهَا وقفت بمَكَان بَين
الإفراط والتفريط ثمَّ أخذت كل طَائِفَة من هَذِه الطوائف الثَّلَاث تجَادل وتناضل
وَتحقّق وتدقق فِي زعمها وتجول على الْأُخْرَى وتصول بِمَا ظَفرت مِمَّا يُوَافق
مَا ذهبت إِلَيْهِ وكل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ وَعند الله تلتقي الْخُصُوم
وَمَعَ هَذَا فهم متفقون فِيمَا بَينهم على أَن طَرِيق السّلف أسلم وَلَكِن
زَعَمُوا أَن طَرِيق الْخلف أعلم فَكَانَ غَايَة مَا ظفروا بِهِ من هَذِه الأعلمية
لطريق الْخلف أَن تمنى محققوهم وأذكياؤهم فِي آخر أَمرهم دين الْعَجَائِز
وَقَالُوا هَنِيئًا للعامة فَتدبر هَذِه الأعلمية الَّتِي حاصلها أَن يهنى من ظفر
بهَا للجاهل الْجَهْل الْبَسِيط ويتمنى أَنه فِي عدادهم وَمِمَّنْ يدين بدينهم
وَيَمْشي على طريقهم فَإِن هَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوت وَيدل بأوضح دلَالَة على
أَن هَذِه الأعلمية الَّتِي طلبوها الْجَهْل خير مِنْهَا بِكَثِير فَمَا ظَنك
بِعلم يقر صَاحبه على نَفسه أَن الْجَهْل خير مِنْهُ وَيَنْتَهِي عِنْد الْبلُوغ
إِلَى غَايَته والوصول إِلَى نهايته أَن يكون جَاهِلا بِهِ عاطلا عَنهُ فَفِي
هَذَا عِبْرَة للمعتبرين وَآيَة بَيِّنَة للناظرين فَهَلا عمِلُوا على جهل هَذِه
المعارف الَّتِي دخلُوا فِيهَا بادئ بَدْء وسلموا من تبعاتها وأراحوا أنفسهم من
تعبها وَقَالُوا كَمَا قَالَ الْقَائِل:
أرى الْأَمر يُفْضِي إِلَى
آخر … يصير آخِره أَولا
وربحوا الخلوص من هَذَا
التَّمَنِّي والسلامة من هَذِه التهنئة للعامة فَإِن الْعَاقِل لَا يتَمَنَّى
رُتْبَة مثل رتبته أَو دونهَا وَلَا يهنى لمن هُوَ دونه أَو مثله وَلَا يكون ذَلِك
إِلَّا لمن رتبته أرفع من رتبته ومكانه أَعلَى من مَكَانَهُ فيا لله الْعجب من علم
يكون الْجَهْل الْبَسِيط أَعلَى رُتْبَة مِنْهُ وَأفضل مقدارا بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ وَهل سمع السامعون مثل هَذِه الغريبة أَو نقل الناقلون مَا يماثلها أَو
يشابهها وَإِذا كَانَ حَال هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي قد عرفناك أخف هَذِه الطوائف
تكلفا وأقلها تبعة فَمَا ظَنك بِمَا عداها من الطوائف التي قد ظهر فَسَاد مقاصدها
وَتبين بطلَان مواردها ومصادرها كالطوائف الَّتِي أَرَادَت بالمظاهر الَّتِي
تظاهرت بهَا كيد الْإِسْلَام وَأَهله وَالسَّعْي فِي التشكيك فِيهِ بإيراد الشّبَه
وَتَقْرِير الْأُمُور المفضية إِلَى الْقدح فِي الدّين وتنفير أَهله عَنهُ وَعند
هَذَا تعلم أَن:
خير الْأُمُور السالفات على
الْهدى … وَشر الْأُمُور المحدثات الْبَدَائِع
وَأَن الْحق الَّذِي لَا شكّ
فِيهِ وَلَا شُبْهَة هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين
يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ وَقد كَانُوا رَحِمهم الله وأرشدنا إِلَى
الِاقْتِدَاء بهم والاهتداء بهديهم يَمرونَ أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا وَلَا
يتكلفون علم مَا لَا يعلمُونَ وَلَا يتأولون وَهَذَا الْمَعْلُوم من أَقْوَالهم
وأفعالهم والمتقرر من مذاهبهم لَا يشك فِيهِ شَاك وَلَا يُنكره مُنكر وَلَا
يُجَادِل فِيهِ مجادل وَإِن نَزغ بَينهم نازغ أَو نجم فِي عصرهم ناجم أوضحُوا
للنَّاس أمره وبينوا لَهُم أَنه على ضَلَالَة وصرحوا بذلك فِي المجامع والمحافل
وحذروا النَّاس من بدعته كَمَا كَانَ مِنْهُم لما ظهر معبد الْجُهَنِيّ
وَأَصْحَابه وَقَالُوا إِن الْأَمر أنف وبينوا ضلالته وَبطلَان مقَالَته للنَّاس
فحذروه إِلَّا من ختم الله على قلبه وَجعل على بَصَره غشاوة وَهَكَذَا كَانَ من
بعدهمْ يُوضح للنَّاس بطلَان أَقْوَال أهل الضلال ويحذرهم مِنْهَا كَمَا فعله
التابعون رَحِمهم الله بالجعد بن دِرْهَم وَمن قَالَ بقوله وَانْتَحَلَ نحلته
الْبَاطِلَة ثمَّ مَا زَالُوا هَكَذَا لَا يَسْتَطِيع المبتدع فِي الصِّفَات أَن
يتظاهر ببدعته بل يكتمونها كَمَا تتكتم الزَّنَادِقَة بكفرهم وَهَكَذَا سَائِر
المبتدعين فِي الدّين على اخْتِلَاف الْبدع وتفاوت المقالات الْبَاطِلَة ولكننا
نقتصر هَهُنَا على الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي ورد السُّؤَال
عَنْهَا وَهِي مَسْأَلَة الصِّفَات وَمَا كَانَ من الْمُتَكَلِّمين فِيهَا بِغَيْر
الْحق المتكلفين علم مَا لم يَأْذَن الله بِأَن يعلموه وَبَيَان أَن إمرار
أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَأَن كل من أَرَادَ من نزاع المتكلفين وشذاذ الْمُحدثين
والمتأولين أَن يظْهر مَا يُخَالف الْمُرُور على ذَلِك الظَّاهِر قَامُوا عَلَيْهِ
وحذروا النَّاس مِنْهُ وبينوا لَهُم أَنه على خلاف مَا عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام
وَسَائِر المبتدعين فِي الصِّفَات الْقَائِلُونَ بأقوال تخَالف مَا عَلَيْهِ
السوَاد الْأَعْظَم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم فِي خبايا وزوايا لَا
يتَّصل بهم إِلَّا مغرور وَلَا ينخدع بزخارف أَقْوَالهم إِلَّا مخدوع وهم مَعَ
ذَلِك على تخوف من أهل الْإِسْلَام وترقب لنزول مَكْرُوه بهم من حماة الدّين من
الْعلمَاء الهادين والرؤساء والسلاطين حَتَّى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشَّرّ
من جِهَة العباسية وَمن لَهُم فِي الْأَمر وَالنَّهْي والإصدار والإيراد أعظم صولة
وَذَلِكَ فِي الدولة العباسية بِسَبَب قاضيها أَحْمد بن أبي دؤاد فَعِنْدَ ذَلِك
اطلع المنكسون فِي تِلْكَ الزوايا رؤوسهم وَانْطَلق مَا كَانَ قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا
بمذاهبهم الزائفة وبدعهم المضلة ودعوا النَّاس إِلَيْهَا وجادلوا عَنْهَا وناضلوا
الْمُخَالفين لَهَا حَتَّى اخْتَلَط الْمَعْرُوف بالمنكر واشتبه على الْعَامَّة
الْحق بِالْبَاطِلِ وَالسّنة بالبدعة
يوم
الاثنين 30 ربيع الأول 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون