بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الثالث: من
التعليق على رسالة التحف فِي مَذَاهِب السّلف للإمام الشوكاني رحمه
الله
وَلما كَانَ الله سُبْحَانَهُ قد تكفل بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله وبحفظه عَن التحريف والتغيير والتبديل أوجد من عُلَمَاء الْكتاب وَالسّنة فِي كل عصر من العصور من يبين للنَّاس دينهم وينكر على أهل الْبدع بدعهم فَكَانَ لَهُم وَللَّه الْحَمد المقامات المحمودة والمواقف المشهودة فِي نصر الدّين وهتك المبتدعين وَبِهَذَا الْكَلَام الْقَلِيل الَّذِي ذكرنَا تعرف أَن مَذْهَب السّلف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم هُوَ إِيرَاد أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا من دون تَحْرِيف لَهَا وَلَا تَأْوِيل متعسف لشَيْء مِنْهَا وَلَا جبر وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَعْطِيل يُفْضِي إِلَيْهِ كثير من التَّأْوِيل وَكَانُوا إِذا سَأَلَ سَائل عَن شَيْء من الصِّفَات تلوا عَلَيْهِ الدَّلِيل وأمسكوا عَن القال والقيل وَقَالُوا قَالَ الله هَكَذَا وَلَا نَدْرِي بِمَا سوى ذَلِك وَلَا نتكلف وَلَا نتكلم بِمَا لم نعلمهُ وَلَا أذن الله لنا بمجاوزته فَإِن أَرَادَ السَّائِل أَن يظفر مِنْهُم بِزِيَادَة على الظَّاهِر زجروه عَن الْخَوْض فِيمَا لَا يعنيه ونهوه عَن طلب مَا لَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بالوقوع فِي بِدعَة من الْبدع الَّتِي هِيَ غير مَا هم عَلَيْهِ وَمَا حفظوه عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحفظه التابعون عَن الصَّحَابَة وَحفظه من بعد التَّابِعين عَن التَّابِعين وَكَانَ فِي هَذِه الْقُرُون الفاضلة الْكَلِمَة فِي الصِّفَات متحدة والطريقة لَهُم جَمِيعًا متفقة وَكَانَ اشتغالهم بِمَا أَمرهم الله بالاشتغال بِهِ وكلفهم الْقيام بِفَرَائِضِهِ من الْإِيمَان بِاللَّه وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالْجهَاد وإنفاق الْأَمْوَال فِي أَنْوَاع الْبر وَطلب الْعلم النافع وإرشاد النَّاس إِلَى الْخَيْر على اخْتِلَاف أَنْوَاعه والمحافظة على مُوجبَات الْفَوْز بِالْجنَّةِ والنجاة من النَّار وَالْقِيَام بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم بِحَسب الِاسْتِطَاعَة وَبِمَا تبلغ إِلَيْهِ الْقُدْرَة وَلم يشتغلوا بِغَيْر ذَلِك مِمَّا لم يكلفهم الله بِعِلْمِهِ وَلَا تعبدهم بِالْوُقُوفِ على حَقِيقَته فَكَانَ الدّين إِذْ ذَاك صافيا عَن كدر الْبدع خَالِصا عَن شوب قذر التمذهب فعلى هَذَا النمط كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم والتابعون وتابعوهم وبهدي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتدوا وبأفعاله وأقواله اقتدوا فَمن قَالَ أَنهم تلبسوا بِشَيْء من هَذِه الْمذَاهب الناشئة فِي الصِّفَات أَو فِي غَيرهَا فقد أعظم عَلَيْهِم الْفِرْيَة وَلَيْسَ بمقبول فِي ذَلِك فَإِن أَقْوَال الْأَئِمَّة المطلعين على أَحْوَالهم العارفين بهَا الآخذين لَهَا عَن الثِّقَات الْأَثْبَات يرد عَلَيْهِ وَيدْفَع فِي وَجهه يعلم ذَلِك كل من له علم ويعرفه كل عارف. فاشدد يدك على هذا.
واعلم أَنه مَذْهَب خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ودع عَنْك مَا حدث من تِلْكَ التمذهبات فِي الصِّفَات وأرح نَفسك من تِلْكَ الْعبارَات الَّتِي جَاءَ بهَا المتكلمون واصطلحوا عَلَيْهَا وجعلوها أصلا يرد إِلَيْهِ كتاب الله وَسنة رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِن وافقاها فقد وافقا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم وَإِن خالفاها فقد خالفا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم ويجعلون الْمُوَافق لَهَا من قسم المقبول والمحكم والمخالف لَهَا من قسم الْمَرْدُود والمتشابه وَلَو جِئْت بِأَلف آيَة وَاضِحَة الدّلَالَة ظَاهِرَة الْمَعْنى أَو ألف حَدِيث مِمَّا ثبت فِي الصَّحِيح لم يبالوا بِهِ وَلَا رفعوا إِلَيْهِ رؤوسهم وَلَا عدوه شَيْئا وَمن كَانَ مُنْكرا لهَذَا فَعَلَيهِ بكتب هَذِه الطوائف المصنفة فِي علم الْكَلَام فَإِنَّهُ سيقف على الْحَقِيقَة وَيسلم هَذِه الْجُمْلَة وَلَا يتَرَدَّد فِيهَا وَمن الْعجب العجيب والنبأ الْغَرِيب أَن تِلْكَ الْعبارَات الصادرة عَن جمَاعَة من أهل الْكَلَام الَّتِي جعلهَا من بعدهمْ أصولا لَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا مُجَرّد الدَّعْوَى على الْعقل والفرية على الْفطْرَة وكل فَرد من أفرادها قد تنازعت فِيهِ عُقُولهمْ وتخالفت عِنْده إدراكاتهم فَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا الْكَلَام كَذَا وَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا كَذَا ثمَّ يَأْتِي بعدهمْ من يَجْعَل ذَلِك الَّذِي يعقله من يقلده ويقتدي بِهِ أصلا يرجع إِلَيْهِ ومعيارا لكَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل مِنْهُمَا مَا وَافقه وَيرد مَا خَالفه فيا لله للْمُسلمين وَيَا لعلماء الدّين من هَذِه الفواقر الموحشة الَّتِي لم يصب الْإِسْلَام وَأَهله بِمِثْلِهَا وَأغْرب من هَذَا وأعجب وأشنع وأفظع أَنهم بعد أَن جعلُوا هَذِه التعقلات الَّتِي تعقلوها على اخْتلَافهمْ فِيهَا وتناقضهم فِي معقولاتها أصولا ترد إِلَيْهَا أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة جعلوها معيارا لصفات الرب تَعَالَى فَمَا تعقله هَذَا من صِفَات الله قَالَ بِهِ جزما وَمَا تعقله خَصمه مِنْهَا قطع بِهِ فأثبتوا لله تَعَالَى الشَّيْء ونقيضه اسْتِدْلَالا بِمَا حكمت بِهِ عُقُولهمْ الْفَاسِدَة وتناقضت فِي شَأْنه وَلم يلتفتوا إِلَى مَا وصف الله بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل إِن وجدوا ذَلِك مُوَافقا لما تعقلوه جَعَلُوهُ مؤيدا لَهُ ومقويا وَقَالُوا قد ورد دَلِيل السّمع مطابقا لدَلِيل الْعقل وَإِن وجدوه مُخَالفا لما تعقلوه جَعَلُوهُ واردا على خلاف الأَصْل ومتشابها وَغير مَعْقُول الْمَعْنى وَلَا ظَاهر الدّلَالَة ثمَّ قابلهم الْمُخَالف لَهُم بنقيض قَوْلهم فافترى على عقله بِأَنَّهُ قد تعقل خلاف مَا تعقله خَصمه وَجعل ذَلِك أصلا يرد إِلَيْهِ أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَجعل الْمُتَشَابه عِنْد أُولَئِكَ محكما عِنْده والمخالف لدَلِيل الْعقل عِنْدهم مُوَافقا لَهُ عِنْده فَكَانَ حَاصِل كَلَام هَؤُلَاءِ أَنهم يعلمُونَ من صِفَات الله مَا لَا يُعلمهُ وَكَفاك هَذَا وَلَيْسَ بعده شَيْء وعنده يتعثر الْقَلَم حَيَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرُبمَا استبعد هَذَا مستبعد واستنكره مستنكر وَقَالَ إِن فِي كَلَامي هَذَا مُبَالغَة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا وَأَن الْأَمر أيسر من أَن يكون حَاصله هَذَا الْحَاصِل وثمرته مثل هَذِه الثَّمَرَة الَّتِي أَشرت إِلَيْهَا فَأَقُول خُذ جملَة الْبلوى ودع تفصيلها واسمع مَا يصك سَمعك وَلَوْلَا هَذَا الإلحاح مِنْك مَا سمعته وَلَا جرى الْقَلَم بِمثلِهِ هَذَا أَبُو عَليّ وَهُوَ رَأس من رؤوسهم وركن من أركانهم واسطوانة من اسطواناتهم قد حكى عَنهُ الْكِبَار وَآخر من حكى عَنهُ ذَلِك صَاحب شرح القلائد " وَالله لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يعلم هُوَ"، فَخذ هَذَا التَّصْرِيح حَيْثُ لم تكتف بذلك التَّلْوِيح وَانْظُر هَذِه الجرأة على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي لَيْسَ بعْدهَا جرْأَة فيا لأم أبي عَليّ الويل أنهيق مثل هَذَا النهيق وَيدخل نَفسه فِي هَذَا الْمضيق وَهل سمع السامعون بِيَمِين أفجر من هَذِه الْيَمين الملعونة أَو نقل الناقلون كلمة تقَارب معنى هَذِه الْكَلِمَة المفتونة أَو بلغ مفتخر إِلَى مَا بلغ هَذَا المختال الفخور أَو وصل من يفجر فِي إيمَانه إِلَى مَا يُقَارب هَذَا الْفُجُور وكل عَاقل يعلم أَن أَحَدنَا لَو حلف أَن ابْنه أَو أَبَاهُ لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ لَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينه فَاجِرًا فِيهَا لِأَن كل فَرد من النَّاس ينطوي على صِفَات وغرائز لَا يحب أَن يطلع عَلَيْهَا غَيره وَيكرهُ أَن يقف على شَيْء مِنْهَا سواهُ وَمن ذَا الَّذِي يدْرِي مَا يجول فِي خاطر غَيره ويستكن فِي ضَمِيره وَمن ادّعى علم ذَلِك وَأَنه يعلم من غَيره من بني آدم مَا يُعلمهُ ذَلِك الْغَيْر من نَفسه وَلَا يعلم ذَلِك الْغَيْر من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هَذَا الْمُدَّعِي فَهُوَ إِمَّا مصاب الْعقل يهذي بِمَا لَا يدْرِي وَيتَكَلَّم بِمَا لَا يفهم أَو كَاذِب شَدِيد الْكَذِب عَظِيم الافتراء فَإِن هَذَا أَمر لَا يُعلمهُ غير الله سُبْحَانَهُ فَهُوَ الَّذِي يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَيعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه وَمَا يسر عباده وَمَا يعلنون وَمَا يظهرون وَمَا يكتمون كَمَا أخبرنَا بذلك فِي كِتَابه الْعَزِيز فِي غير مَوضِع فقد خَابَ وخسر من أثبت لنَفسِهِ من الْعلم مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله من عباده فَمَا ظَنك بِمن تجَاوز هَذَا وتعداه وَأقسم بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَن الله لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ وَلَا يَصح لنا أَن نحمله على اختلال الْعقل فَلَو كَانَ مَجْنُونا لم يكن رَأْسا يَقْتَدِي بقوله جماعات من أهل عصره وَمن جَاءَ بعده وينقلون كَلَامه فِي الدفاتر ويحكون عَنهُ فِي مقامات الِاخْتِلَاف وَلَعَلَّ أَتبَاع هَذَا وَمن يَقْتَدِي بمذهبه لَو قَالَ لَهُم قَائِل وَأورد عَلَيْهِم مورد قَول الله عز وَجل ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، وَقَوله و ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾، وَقَالَ لَهُم هَذَا يرد مَا قَالَ صَاحبكُم وَيدل على أَن يَمِينه هَذِه فاجرة مفتراة لقالوا هَذَا وَنَحْوه مِمَّا يدل دلَالَته ويفيد مفاده من الْمُتَشَابه الْوَارِد على خلاف دَلِيل الْعقل الْمَدْفُوع بالأصول المقررة.
وَبِالْجُمْلَةِ فإطالة ذيول
الْكَلَام فِي مثل هَذَا الْمقَام إِضَاعَة للأوقات واشتغال بحكاية الخرافات
المبكيات لَا المضحكات وَلَيْسَ مقصودنا هَهُنَا إِلَّا إرشاد السَّائِل إِلَى أَن
الْمَذْهَب الْحق فِي الصِّفَات هُوَ إمرارها على ظَاهرهَا من غير تَأْوِيل وَلَا
تَحْرِيف وَلَا تكلّف وَلَا تعسف وَلَا جبر وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَعْطِيل وَإِن
ذَلِك هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم
(فَإِن قلت) وماذا تُرِيدُ بالتعطيل فِي مثل هَذِه الْعبارَات الَّتِي تكررها
فَإِن أهل الْمذَاهب الإسلامية يتنزهون عَن ذَلِك ويتحاشون عَنهُ وَلَا نصدق
مَعْنَاهُ وَلَا يُوجد مَدْلُوله إِلَّا فِي طَائِفَة من طوائف الْكفَّار وهم
المنكرون للصانع (قلت) يَا هَذَا إِن كنت مِمَّن لَهُ إِلْمَام بِعلم الْكَلَام
الَّذِي اصْطلحَ عَلَيْهِ طوائف من أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا محَالة قد
رَأَيْت مَا يَقُوله كثير مِنْهُم ويذكرونه فِي مؤلفاتهم ويحكونه عَن أكابرهم إِن
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتنزه وتقدس لَا هُوَ جسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض
وَلَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه فأنشدك الله أَي عبارَة تبلغ مبلغ هَذِه
الْعبارَة فِي النَّفْي وَأي مُبَالغَة فِي الدّلَالَة على هَذَا النَّفْي تقوم
مقَام هَذِه الْمُبَالغَة فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي فرارهم من شُبْهَة التَّشْبِيه
إِلَى هَذَا التعطيل كَمَا قَالَ الْقَائِل:
فَكنت كالساعي إِلَى مثعب … موائلا من سبل الراعد
أَو كالمستجير من الرمضاء
بالنَّار والهارب من لسعة الزنبور إِلَى لدغة الْحَيَّة وَمن قرصة النملة إِلَى
قضمة الْأسد وَقد يُغني هَؤُلَاءِ وأمثالهم من الْمُتَكَلِّمين المتكلفين كلمتان
من كتاب الله تَعَالَى وصف بهما نَفسه وأنزلهما على رَسُوله وهما ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فَإِن هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ قد اشتملتا على
فصل الْخطاب وتضمنتا مَا يعين أولى الْأَلْبَاب السالكين فِي تِلْكَ الشعاب
فالكلمة مِنْهَا دلّت دلَالَة بَيِّنَة على أَن كل مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات
الله وَصِفَاته على وَجه التدقيق ودعاوى التَّحْقِيق فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب
الْجَهْل مخلوط بخلوط هِيَ مُنَافِيَة للْعلم ومباينة لَهُ فَإِن الله سُبْحَانَهُ
قد أخبرنَا أَنهم لَا يحيطون بِهِ علما فَمن زعم أَن ذَاته كَذَا أَو صفته كَذَا
فَلَا شكّ أَن صِحَة ذَلِك متوقفة على الْإِحَاطَة وَقد نفيت عَن كل فَرد من
الْأَفْرَاد علما فَكل قَول من أَقْوَال الْمُتَكَلِّمين صادر عَن جهل إِمَّا من
كل وَجه أَو من بعض الْوُجُوه وَمَا صدر عَن جهل فَهُوَ مُضَاف إِلَى جهل وَلَا
سِيمَا إِذا كَانَ فِي ذَات الله وَصِفَاته فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين
مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل وَهَذَا يُعلمهُ كل ذِي علم ويعرفه كل عَارِف
وَلم يحط بفائدة هَذِه الْآيَة وَيقف عِنْدهَا ويقتطف من ثمراتها إِلَّا الممرون
الصِّفَات على ظَاهرهَا المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات والتأويلات
والتحريفات وهم السّلف الصَّالح كَمَا عرفت فهم الَّذين اعْتَرَفُوا بعدم الإحاطة،
وأوقفوا أنفسهم حَيْثُ أوقفها الله وَقَالُوا الله أعلم بكيفية ذَاته وَمَاهية
صِفَاته بل الْعلم كُله وَقَالُوا كَمَا قَالَ من قَالَ مِمَّن اشْتغل بِطَلَب
هَذَا الْمحَال فَلم يظفر بِغَيْر القيل والقال
الْعلم للرحمن جلّ جَلَاله … وسواه فِي جهلاته يتغمغم
مَا للتراب وللعلوم
وَإِنَّمَا … يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم
بل اعْترف كثير من هَؤُلَاءِ
المتكلفين بِأَنَّهُ لم يستفد من تكلفه وَعدم قنوعه بِمَا قنع بِهِ السّلف
الصَّالح إِلَّا مُجَرّد الْحيرَة الَّتِي وجد عَلَيْهَا غَيره من المتكلفين
فَقَالَ:
وسرحت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم ... فلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر … على ذقن أَو قارعا سنّ نادم
وَهَا أَنا أخْبرك عَن نَفسِي
وأوضح لَك مَا وَقعت فِيهِ فِي أمسي فَإِنِّي فِي أَيَّام الطّلب وعنفوان
الشَّبَاب شغلت بِهَذَا الْعلم الَّذِي سموهُ تَارَة علم الْكَلَام وَتارَة علم
التَّوْحِيد وَتارَة علم أصُول الدّين وأكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة
مِنْهُم ورمت الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة
والحيرة وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي حببت إِلَيّ مَذْهَب السّلف على
أَنِّي كنت قبل ذَلِك عَلَيْهِ وَلَكِن أردْت أَن أزداد مِنْهُ بَصِيرَة وَبِه
شغفا وَقلت عِنْد ذَلِك فِي تِلْكَ الْمذَاهب:
وَغَايَة مَا حصلته من
مباحثي … وَمن نَظَرِي من بعد طول التدبر
هُوَ الْوَقْف مَا بَين
الطَّرِيقَيْنِ حيرة … فَمَا علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت مِنْهُ
غماره … وَمَا قنعت نَفسِي بِغَيْر التبحر
يوم
الثلاثاء 1 ربيع الآخر 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون