بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الثامن: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيَعِة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَهَؤُلَاءِ يُجِيبُونَ عَنِ
التَّسَلْسُلِ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هَذَا التَّسَلْسُلُ فِي
الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا فِي الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّهُ
إِذَا فَعَلَ فِعْلًا لِحِكْمَةٍ كَانَتِ الْحِكْمَةُ حَاصِلَةً بَعْدَ الْفِعْلِ،
فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ يُطْلَبُ مِنْهَا حِكْمَةٌ أُخْرَى بَعْدَهَا
كَانَ تَسَلْسُلًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ الْحَاصِلَةُ
مَحْبُوبَةٌ لَهُ وَسَبَبٌ لِحِكْمَةٍ ثَانِيَةٍ، فَهُوَ لَا يَزَالُ سُبْحَانَهُ
يُحْدِثُ مِنَ الْحِكَمِ مَا يُحِبُّهُ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ.
قَالُوا: وَالتَّسَلْسُلُ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ
وَعَذَابَ النَّارِ دَائِمَانِ مَعَ تَجَدُّدِ الْحَوَادِثِ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا
أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَزَعَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ
يَفْنَيَانِ، وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ زَعَمَ أَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَنْقَطِعُ، وَيَبْقَوْنَ فِي سُكُونٍ دَائِمٍ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا
اعْتَقَدُوا أَنَّ التَّسَلْسُلَ فِي الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَاضِي،
وَالْمُسْتَقْبَلِ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ضَلَّلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةُ
الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا تَسَلْسُلُ
الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي، فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ:
لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ.
فَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ
تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ، فَعَّالًا إِذَا
شَاءَ أَفْعَالًا تَقُومُ بِنَفْسِهِ - بِقُدْرَتِهِ ، وَمَشِيئَتِهِ - شَيْئًا
بَعْدَ شَيْءٍ - يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ،
وَيَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ كُلَّ مَا
سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنَّهُ لَيْسَ
فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ مُسَاوِقٌ لِلَّهِ، كَمَا تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ
الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّهَا مُسَاوِقَةٌ لِلَّهِ فِي
وُجُودِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ
قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ
بِأَنَّ الْمُبْدِعَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ هُوَ نَفْسُهُ
يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ تَسْتَلْزِمُ
مَعْلُولَهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا.
فَالْحَوَادِثُ مَشْهُودَةٌ
فِي الْعَالَمِ، فَلَوْ كَانَ الصَّانِعُ مُوجِبًا بِذَاتِهِ عِلَّةً تَامَّةً
مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي
الْوُجُودِ إِذِ الْحَادِثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ
تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ، فَلَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا لَكَانَ مُبْدِعُهُ
عِلَّةً تَامَّةً، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ
مَعْلُولِهَا، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ،
فَحُدُوثُ الْحَوَادِثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ تَامَّةٍ
فِي الْأَزَلِ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ فِي الْأَزَلِ بَطَلَ
الْقَوْلُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ حَيًّا فَعَّالًا
لِمَا يَشَاءُ.
وَعُمْدَةُ الْفَلَاسِفَةِ
عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ هُوَ قَوْلُهُمْ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا
سَبَبٍ حَادِثٍ، فَيَمْتَنِعُ تَقْدِيرُ ذَاتٍ مُعَطَّلَةٍ عَنِ الْفِعْلِ لَمْ
تَفْعَلْ، ثُمَّ فَعَلَتْ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا
يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْعَالَمِ لَا الْأَفْلَاكِ، وَلَا
غَيْرِهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَعَّالًا، وَإِذَا قُدِّرَ
أَنَّهُ فَعَّالٌ لِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَفْعُولَاتٍ حَادِثَةٍ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ وَفَاءً بِمُوجِبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ مَعَ الْقَوْلِ
بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ،
كَمَا أَخْبَرَتِ الرُّسُلُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ
النَّوْعُ لَمْ يَزَلْ مُتَجَدِّدًا، كَمَا فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ
كُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، وَهِيَ لَا تَزَالُ تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ
شَيْءٍ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَاللَّهُ
قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَكُونُ الْمَخْلُوقُ إِلَّا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ،
فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مَفْعُولٌ
مُحْدَثٌ.
فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ مُقَارِنًا لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَقُولُهُ دَهْرِيَّةُ
الْفَلَاسِفَةِ: إِنَّ الْعَالَمَ مَعْلُولٌ لَهُ، وَهُوَ مُوجِبٌ لَهُ مُفِيضٌ
لَهُ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ بِالشَّرَفِ، وَالْعَلِيَّةِ وَالطَّبْعِ،
وَلَيْسَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ بِالزَّمَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِلَّةً
تَامَّةً مُوجِبَةً يَقْتَرِنُ بِهَا مَعْلُولُهَا كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِي
الْعَالَمِ شَيْءٌ مُحْدَثٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُحْدَثَ لَا يَحْدُثُ عَنْ
عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا، فَإِنَّ الْمُحْدَثَ
الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا.
وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ
حَدَثَ بِوَسَطٍ أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ
كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَلَكَ تَوَلَّدَ عَنْهُ بِوَسَطِ عَقْلٍ، أَوْ
عَقْلَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَالُ فَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ يَقْتَضِي
أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمًا لَازِمًا لِذَاتِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْبَارِئِ مُوجِبًا بِالذَّاتِ
بِحَيْثُ يُقَارِنُهُ مُوجَبِهِ إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَارَنَهُ بِذَلِكَ
الشَّيْءِ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ
مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْعَالَمِ
شَيْءٌ مُحْدَثٌ.
وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ
مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِلْفَلَكِ، وَأَمَّا حَرَكَاتُ الْفَلَكِ، فَيُوجِبُهَا
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَتْ
حَرَكَةُ الْفَلَكِ لَازِمَةً لَهُ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمْ امْتَنَعَ إِبْدَاعُ
الْمَلْزُومِ دُونَ لَازِمِهِ، وَكَوْنُهُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ عِلَّةً تَامَّةً
لِلْحَرَكَةِ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الْحَرَكَةَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا،
وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ الْمُوجِبَةُ لِمَعْلُولِهَا فِي الْأَزَلِ لَا
يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا، فَلَا تَكُونُ الْحَرَكَةُ
مَعْلُولَةً لِلْمُوجَبِ بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ الَّذِي يَلْزَمُهُ مَعْلُولُهُ،
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَهُ فَهِيَ حَادِثَةٌ، فَتَقْتَضِي سَبَبًا
وَاجِبًا حَادِثًا، وَذَلِكَ بِالْحَادِثِ لَا يَحْدُثُ عَنِ الْعِلَّةِ
التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ إِذِ الْمُوجَبُ بِذَاتِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ
مُوجَبُهُ.
وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْحَوَادِثَ صَادِرَةً عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ
أَزَلِيَّةٍ لَا يَحْدُثُ فِيهَا، وَلَا مِنْهَا شَيْءٌ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ
قَوْلِ مَنْ يَقُولُ حَدَثَتْ عَنِ الْقَادِرِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ ; لِأَنَّ
هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا فَاعِلًا وَلَمْ يُثْبِتُوا سَبَبًا حَادِثًا، وَأُولَئِكَ
يَلْزَمُهُمْ نَفْيُ الْفَاعِلِ لِلْحَوَادِثِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ
الْمُوجِبَةَ بِذَاتِهَا فِي الْأَزَلِ لَا تَكُونُ مُحْدِثَةً لِشَيْءٍ أَصْلًا.
وَلِهَذَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِحَرَكَةِ
الْفَلَكِ، وَهُمْ لَا يَجْعَلُونَ فَوْقَ الْفَلَكِ شَيْئًا أَحْدَثَ حَرَكَتَهُ،
بَلْ قَوْلُهُمْ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَسَائِرِ الْحَوَادِثِ مِنْ جِنْسِ
قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّهَا
تَحْدُثُ بِلَا مُحْدِثٍ، لَكِنَّ الْقَدَرِيَّةَ خَصُّوا ذَلِكَ بِأَفْعَالِ
الْحَيَوَانِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ حَادِثٍ عُلْوِيٍّ
وَسُفْلِيٍّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّ الْفَاعِلَ سَوَاءٌ
كَانَ قَادِرًا، أَوْ مُوجِبًا بِذَاتِهِ، أَوْ قِيلَ: هُوَ قَادِرٌ يُوجِبُ
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُجُودِ
الْمَفْعُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ
إِذِ الْمَعْدُومُ لَا يَفْعَلُ مَوْجُودًا، وَنَفْسُ إِيجَابِهِ وَفِعْلِهِ،
وَاقْتِضَائِهِ، وَإِحْدَاثِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْفِعْلِ
عِنْدَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ الْمُوجَبِ الْمُحْدَثِ فَلَا يَكُونُ فَاعِلًا
حَقِيقَةً إِلَّا مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ.
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ
فَعَلَهُ وَاقْتَضَاهُ، فَوُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ،
وَإِيجَابُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَفْعُولِ الْمُوجَبِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ، فَلَا
إِيجَابَ، وَلَا فِعْلَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ،
فَالْمُوجِبُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ الثَّانِيَ
بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ حَالٌ يَكُونُ بِهَا فَاعِلًا
لِلثَّانِي كَانَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ مَعْدُومًا عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ،
وَهَذَا مُحَالٌ، فَإِنَّ حَالَهُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ،
وَقَبْلَهُ كَانَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ،
أَوْ يُقَالُ: قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ.
إِذْ لَوْ جُوِّزَ أَنْ
يَحْدُثَ الْحَادِثُ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ حَالٍ لِلْفَاعِلِ بِهَا صَارَ
فَاعِلًا لَزِمَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا بِلَا سَبَبٍ، وَتَرْجِيحُ
الْفَاعِلِ لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ
بَلْ لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ ; لِأَنَّ حَالَهُ قَبْلَ
وَمَعَ وَبَعْدَ سَوَاءٌ، فَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِذَلِكَ الْحَادِثِ
تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا جَازَ حُدُوثُ كُلِّ
الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
جَائِزًا بَطَلَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ، فَثَبَتَ بُطْلَانُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ
الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ، وَذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَالْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ
إِذَا قَطَعَ مَسَافَةً، وَكَانَ قَطْعُهُ لِلْجُزْءِ الثَّانِي. مَشْرُوطًا
بِالْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْأَوَّلَ حَصَلَ لَهُ أُمُورٌ تَقُومُ
بِهِ مِنْ قُدْرَةٍ أَوْ إِرَادَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا تَقُومُ بِذَاتِهِ بِهَا
صَارَ حَاصِلًا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي. لَا أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ
الْأَوَّلِ صَارَ قَاطِعًا لِلثَّانِي.
فَإِذَا شَبَّهُوا فِعْلَهُ
لِلْحَوَادِثِ بِهَذَا لَزِمَهُمْ أَنْ يَتَجَدَّدَ لِلَّهِ أَحْوَالٌ تَقُومُ
بِهِ عِنْدَ إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ هُوَ لَمْ
يَتَجَدَّدْ لَهُ حَالٌ، وَإِنَّمَا. وُجِدَ الْحَادِثُ الثَّانِي بِمُجَرَّدِ عَدَمِ
الْأَوَّلِ، فَحَالُهُ قَبْلَ وَبَعْدَ سَوَاءٌ، فَاخْتِصَاصُ أَحَدِ
الْوَقْتَيْنِ بِالْإِحْدَاثِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَنَفْسُ صُدُورِ
الْحَوَادِثِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَلَى حَالٍ
وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، فَيَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا التَّقْدِيرِ
اخْتِصَاصُ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِشَيْءٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا
لِلْحَوَادِثِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَلَا يَفْعَلُ هَذَا الْحَادِثَ، وَهُوَ
الْآنَ كَمَا كَانَ، فَهُوَ الْآنَ لَا يَفْعَلُ هَذَا الْحَادِثَ.
وَابْنُ سِينَا
وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ بِهَذَا احْتَجُّوا عَلَى
أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ،
فَقَالُوا: إِذَا كَانَ فِي الْأَزَلِ، وَلَا يَفْعَلُ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى
حَالِهِ، فَهُوَ الْآنَ لَا يَفْعَلُ، وَقَدْ فَرَضَ فَاعِلًا هَذَا خُلْفٌ،
وَإِنَّمَا لَزِمَ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرِ ذَاتٍ مُعَطَّلَةٍ عَنِ الْفِعْلِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا
بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فِي إِثْبَاتِ ذَاتٍ بَسِيطَةٍ لَا يَقُومُ بِهَا
فِعْلٌ وَلَا وَصْفٌ مَعَ صُدُورِ الْحَوَادِثِ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ بِوَسَائِطَ
لَازِمَةٍ لَهَا، فَالْوَسَطُ اللَّازِمُ لَهَا قَدِيمٌ بِقِدَمِهَا، وَقَدْ
قَالُوا: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْحَوَادِثِ عَنْ قَدِيمٍ هُوَ عَلَى حَالٍ
وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ
يُقَالَ: هُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فَيَّاضٌ دَائِمُ الْفَيْضِ،
وَإِنَّمَا يَتَخَصَّصُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِالْحُدُوثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ
حُدُوثِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقَبُولِ، وَحُدُوثُ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقَبُولِ
هُوَ سَبَبُ حُدُوثِ الْحَرَكَاتِ، وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ هَذَا
إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ الدَّائِمُ الْفَيْضِ لَيْسَ هُوَ
الْمُحْدِثَ لِاسْتِعْدَادِ الْقَبُولِ، كَمَا يَدَّعُونَهُ فِي الْعَقْلِ
الْفَعَّالِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ دَائِمُ الْفَيْضِ، وَلَكِنْ يُحْدِثُ
اسْتِعْدَادَ الْقَوَابِلِ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ
وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، وَتِلْكَ لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنِ الْعَقْلِ
الْفَعَّالِ، وَإِنَّمَا فِي الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْمُبْدِعُ لِكُلِّ مَا
سِوَاهُ، فَعَنْهُ يَصْدُرُ الِاسْتِعْدَادُ وَالْقَبُولُ وَالْقَابِلُ
وَالْمَقْبُولُ.
وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ:
إِذَا كَانَ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبًا بِذَاتِهِ، وَهُوَ دَائِمُ الْفَيْضِ لَا
يَتَوَقَّفُ فَيْضُهُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ أَصْلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ
مَا يَصْدُرُ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لَازِمًا لَهُ قَدِيمًا
بِقِدَمِهِ، فَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا بِوَسَطٍ وَلَا بِغَيْرِ وَسَطٍ ;
لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِبْدَاعَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ أَوْ قَبُولٍ
يَحْدُثُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ
وَالْقَابِلِ وَالْمَقْبُولُ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَمَا يَفِيضُ عَلَى
الْمُسْتَعِدِّ، وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ كُلِّهِ
امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً مُسْتَلْزِمَةً
لِمَعْلُولِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولُهُ كُلُّهُ
أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَعْلُولٌ لَهُ، فَيَلْزَمُ
أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ
لِلْحِسِّ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَفَهِمَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ فَسَادَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ.
وَإِنَّمَا عَظُمَتْ
حُجَّتُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ
الْمُبْتَدَعِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ
وَالشِّيعَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ الرَّبَّ فِي الْأَزَلِ
كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْفِعْلُ وَالْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ -
وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى
الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا
لِنَفْسِهِ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَقْدُورِ - صَارُوا
حِزْبَيْنِ: حِزْبًا قَالُوا: إِنَّهُ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ
وَالْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ
الْفِعْلُ وَالْكَلَامُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا، وَإِنَّهُ
انْقَلَبَ مِنْ الِامْتِنَاعِ الذَّاتِيِّ إِلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ،
وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَمَنْ. وَافَقَهُمْ مِنَ
الشِّيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَأَئِمَّةِ الشِّيعَةِ
كَالْهَاشِمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَحِزْبًا قَالُوا : صَارَ
الْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ،
فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالْقُدْرَةِ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ
لَازِمٌ لِذَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ، وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ
وَافَقَهُمَا.
أَوْ قَالُوا: إِنَّهُ
حُرُوفٌ، أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَا تَتَعَلَّقُ
بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ
وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى السَّالِمِيَّةِ، وَحَكَاهُ
الشَّهْرَسْتَانِيُّ عَنِ السَّلَفِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ
جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ
كَانَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ أَصْحَابِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ
الْعَلَّافِ وَنَحْوِهِمَا قَالُوا: لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ
دَوَامَ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ
مَبْدَأٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَالُوا: فَإِذَا كَانَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا تُقَارِنُهُ الْحَوَادِثُ
مُحْدَثًا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا
مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ
يَزَلْ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ
مُمْتَنِعَةٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى دَوَامِ الْفِعْلِ
وَالْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
قَالُوا: وَبِهَذَا يُعْلَمُ
حُدُوثُ الْجِسْمِ ; لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ، وَمَا لَا
يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ
بَيْنَ مَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ الْحَوَادِثِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَخْلُو عَنْ
عَيْنِ الْحَوَادِثِ، وَلَا فَرَّقُوا فِيمَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعْلُولًا. أَوْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا. وَاجِبًا
بِنَفْسِهِ.
فَقَالَ لِهَؤُلَاءِ
أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ، وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ: فَهَذَا
الدَّلِيلُ الَّذِي أَثْبَتُّمْ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ هُوَ يَدُلُّ عَلَى
امْتِنَاعِ حُدُوثِ الْعَالِمِ، وَكَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى
نَقِيضِ مَا قَصَدْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَادِثَ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ مُحْدَثًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَالْإِمْكَانُ
لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ، فَمَا مِنْ وَقْتٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَالْإِمْكَانُ
ثَابِتٌ قَبْلَهُ، فَلَيْسَ لِإِمْكَانِ الْفِعْلِ وَجَوَازِ ذَلِكَ وَصِحَّتِهِ
مَبْدَأٌ يُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْفِعْلُ مُمْكِنًا
جَائِزًا صَحِيحًا، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الرَّبُّ قَادِرًا عَلَيْهِ،
فَيَلْزَمُ جَوَازُ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لِأَوَّلِهَا .
قَالَ الْمُنَاظِرُ عَنْ
أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ
وَأَتْبَاعِهِمْ: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِمْكَانَ الْحَوَادِثِ لَا
بِدَايَةَ لَهُ لَكِنْ نَقُولُ إِمْكَانُ الْحَوَادِثِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً
بِالْعَدَمِ لَا بِدَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ عِنْدَنَا
يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ النَّوْعِ، بَلْ يَجِبُ حُدُوثُ نَوْعِهَا،
وَيُمْتَنَعُ قِدَمُ نَوْعِهَا لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحُدُوثُ فِي وَقْتٍ
بِعَيْنِهِ، فَإِمْكَانُ الْحَوَادِثِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةَ الْعَدَمِ
لَا أَوَّلَ لَهُ بِخِلَافِ جِنْسِ الْحَوَادِثِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَبْ
أَنَّكُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ لَكِنْ يُقَالُ: إِمْكَانُ جِنْسِ الْحَوَادِثِ
عِنْدَكُمْ لَهُ بِدَايَةٌ، فَإِنَّهُ صَارَ جِنْسُ الْحُدُوثِ عِنْدَكُمْ
مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، وَلَيْسَ لِهَذَا الْإِمْكَانِ
وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ مَا مِنْ وَقْتٍ يُفْرَضُ إِلَّا وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ
قَبْلَهُ، فَيَلْزَمُ دَوَامُ الْإِمْكَانِ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ الْجِنْسِ
مِنَ الْإِمْكَانِ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ وَلَا
تَجَدُّدِ شَيْءٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ
انْقِلَابَ حَقِيقَةِ جِنْسِ الْحُدُوثِ أَوْ جِنْسِ الْحَوَادِثِ، أَوْ جِنْسِ
الْفِعْلِ، أَوْ جِنْسِ الْإِحْدَاثِ، أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ
مِنْ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ هُوَ مَصِيرُ ذَلِكَ مُمْكِنًا جَائِزًا
بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَجَدَّدَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ
فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ، وَهُوَ أَيْضًا انْقِلَابُ الْجِنْسِ مِنْ الِامْتِنَاعِ
الذَّاتِيِّ إِلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، فَإِنَّ ذَاتَ جِنْسِ الْحَوَادِثِ
عِنْدَهُمْ تَصِيرُ مُمْكِنَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً.
وَهَذَا الِانْقِلَابُ لَا
يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَقْتِ يُقَدَّرُ إِلَّا
وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ،فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ هَذَا
الِانْقِلَابُ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْمُمْتَنِعُ مُمْكِنًا، وَهَذَا
أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قَوْلِنَا لَمْ يَزَلِ الْحَادِثُ مُمْكِنًا،
فَقَدْ لَزِمَهُمْ فِيمَا فَرُّوا إِلَيْهِ أَبْلَغُ مِمَّا لَزِمَهُمْ فِيمَا فَرُّوا
مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُعْقَلُ كَوْنُ الْحَادِثِ مُمْكِنًا، وَيُعْقَلُ أَنَّ هَذَا
الْإِمْكَانَ لَمْ يَزَلْ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُمْتَنِعِ مُمْكِنًا، فَهُوَ
مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا قِيلَ: لَمْ يَزَلْ إِمْكَانُ هَذَا
الْمُمْتَنِعِ! .
وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرُوهُ
مِنَ الشَّرْطِ: وَهُوَ أَنَّ جِنْسَ الْفِعْلِ، أَوْ جِنْسَ الْحَوَادِثِ -
بِشَرْطِ كَوْنُهَا مَسْبُوقَةً بِالْعَدَمِ - لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا، فَإِنَّهُ
يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ أَيْضًا، فَإِنَّ كَوْنَ هَذَا لَمْ يَزَلْ
يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بِدَايَةَ لِإِمْكَانِهِ، وَأَنَّ إِمْكَانَهُ قَدِيمٌ
أَزَلِيٌّ، وَكَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ بِدَايَةً،
وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ أَزَلِيٍّ، فَصَارَ قَوْلُهُمْ مُسْتَلْزِمًا أَنَّ
الْحَوَادِثَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
قَدَّرُوا تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا، وَالتَّقْدِيرُ الْمُمْتَنِعُ قَدْ يَلْزَمُهُ
حُكْمٌ مُمْتَنِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
لَفَسَدَتَا﴾ [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] .
فَإِنَّ قَوْلَهُمْ:
إِمْكَانُ جِنْسِ الْحَوَادِثِ - بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالْعَدَمِ -
لَا بِدَايَةَ لَهُ مَضْمُونَةً أَنَّ مَا لَهُ بِدَايَةٌ لَيْسَ لَهُ بِدَايَةٌ،
فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ بِسَبْقِ الْعَدَمِ لَهُ بِدَايَةٌ، وَإِنَّ قُدِّرَ أَنَّهُ
لَا بِدَايَةَ لَهُ كَانَ جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.
وَأَيْضًا فَيُقَالُ: هَذَا
تَقْدِيرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ
الْقَائِلِ: جِنْسُ الْحَوَادِثِ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَلْحُوقَةً بِالْعَدَمِ هَلْ
لِإِمْكَانِهَا نِهَايَةٌ؟ أَمْ لَيْسَ لِإِمْكَانِهَا نِهَايَةٌ؟ فَكَمَا أَنَّ
هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي النِّهَايَةِ، فَكَذَلِكَ
الْأَمَلُ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي الْبِدَايَةِ.
وَأَيْضًا فَالْمُمْكِنُ لَا
يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ تَامٍّ يَجِبُ
بِهِ الْمُمْكِنُ، وَقَدْ يَقُولُونَ: لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ
إِلَّا بِمُرَجِّحٍ تَامٍّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ.
وَهَذَا الثَّانِي أَصْوَبُ،
كَمَا عَلَيْهِ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ الْمُثْبِتِينَ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ
مَعْدُومًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى مُرَجِّحٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَفْتَقِرُ
إِلَى مُرَجِّحٍ قَالَ: عَدَمُ مُرَجِّحِهِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ، وَلَكِنْ
يُقَالُ: هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِهِ لَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ
الْمُوجِبُ لِعَدَمِهِ، وَلَا يَجِبُ عَدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ
عَدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا عِلَّةَ لَهُ، فَإِنَّ عَدَمَ الْمَعْلُولِ
يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لَهُ، وَالْمَلْزُومُ
أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عِلَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ التَّامَّ لَوْ لَمْ
يَسْتَلْزِمْ وُجُودَ الْمُمْكِنِ لَكَانَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ مَعَ الْمُرَجِّحِ
التَّامِّ جَائِزًا لَا وَاجِبًا وَلَا مُمْتَنِعًا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ
مُمْكِنًا، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَجِّحٍ ; لِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَحْصُلُ
إِلَّا بِمُرَجِّحٍ.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
الْمُمْكِنَ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَجِّحٌ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ امْتَنَعَ
وُجُودُهُ، وَمَا دَامَ وُجُودُهُ مُمْكِنًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ لَا يُوجَدُ،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ
لِلْقَدَرِ مَعَ مُوَافَقَةِ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا
احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَالْقَدَرِيَّةُ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ تُخَالِفُ فِي هَذَا، وَتَزْعُمُ أَنَّ الْقَادِرَ
يُمْكِنُهُ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ بِدُونِ مَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ،
وَادَّعَوْا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَادِرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ
مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَا قَادِرًا قَالُوا: وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ هُوَ
الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَمَتَى قِيلَ: إِنَّهُ لَا
يَفْعَلُ إِلَّا مَعَ لُزُومِ أَنْ يَفْعَلَ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا بَلْ
مَجْبُورًا.
فَقَالَ لَهُمُ الْجُمْهُورُ
مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَغَيْرِهِمْ : بَلْ هَذَا خَطَأٌ، فَإِنَّ الْقَادِرَ
هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي إِنْ
شَاءَ الْفِعْلَ مَشِيئَةً جَازِمَةً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ قُدْرَةً تَامَّةً
يَبْقَى الْفِعْلُ مُمْكِنًا جَائِزًا لَا لَازِمًا وَاجِبًا وَلَا مُمْتَنِعًا
مُحَالًا.
بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ
الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ إِذَا أَرَادَ الْفِعْلَ إِرَادَةً جَازِمَةً، وَهُوَ
قَادِرٌ عَلَيْهِ قُدْرَةً تَامَّةً لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ، وَصَارَ وَاجِبًا
بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ،
وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ قَادِرٌ
عَلَيْهِ، فَإِذَا شَاءَ شَيْئًا حَصَلَ مُرَادًا لَهُ، وَهُوَ مَقْدُورٌ
عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ وُجُودُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ مَا
لَمْ يُرِدْهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلِ الْمُقْتَضَى
التَّامُّ لِوُجُودِهِ، فَلَا يَجُوزُ وُجُودُهُ.
قَالُوا: وَمَعَ الْقُدْرَةِ
التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَمْتَنِعُ عَدَمُ الْفِعْلِ، وَلَا
يُتَصَوَّرُ عَدَمُ الْفِعْلِ إِلَّا لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ
كَمَالِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ،
وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ
لَا يَتَوَقَّفُ إِلَّا عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ
قَادِرًا، وَلَا يُرِيدُ الْفِعْلَ، فَلَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مُرِيدًا
لِلْفِعْلِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ، فَلَا يَفْعَلُهُ، أَمَّا مَعَ كَمَالِ
قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ الْفِعْلُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ
ذَلِكَ، وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الْمُرَجِّحُ
التَّامُّ لِلْفِعْلِ الْمُمْكِنِ، فَمَعَ وُجُودِهِمَا يَجِبُ وُجُودُ ذَلِكَ
الْفِعْلِ.
وَالرَّبُّ تَعَالَى قَادِرٌ
مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا مُكْرِهَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مُوجِبًا
بِذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عِلَّةٌ أَزَلِيَّةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ،
وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُوجِبُ بِذَاتٍ لَا مَشِيئَةَ لَهَا، وَلَا قُدْرَةَ،
بَلْ هُوَ يُوجِبُ بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ مَا شَاءَ وُجُودَهُ، وَهَذَا هُوَ
الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ، فَهُوَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يُوجِبُ بِمَشِيئَتِهِ مَا
شَاءَ وُجُودَهُ.
وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ
يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ
إِذَا كَانَ أَزَلِيًّا يُقَارِنُهُ مُوجِبُهُ، فَلَوْ كَانَ الرَّبُّ تَعَالَى
مُوجِبًا بِذَاتِهِ لِلْعَالَمِ فِي الْأَزَلِ لَكَانَ كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ
مُقَارِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ
وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَكُلُّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ مِنَ الْعَالَمِ
فَإِنَّهُ يَجِبُ وُجُودُهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَا لَمْ يَشَأْ
يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ إِذْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِقُدْرَتِهِ،
وَمَشِيئَتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ وُجُودِ مَا شَاءَ تَعَالَى وُجُودَهُ.
يوم
الأربعاء 5 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون