بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس التاسع: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَلَفْظُ
الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ مَا
يُحْدِثُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ فَاعِل
لًا بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُوجِبًا بِالذَّاتِ
بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ أَنَّهُ يُوجِبُ
شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ بِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ،
فَهَذَا بَاطِلٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ
تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا الْأَزَلِيَّ بِحَيْثُ يَكُونُ مِنَ الْعَالَمِ مَا
هُوَ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ لَازِمٌ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا الْفَلَكِ أَوْ
غَيْرِهِ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، فَالْمُوجِبُ بِالذَّاتِ إِذَا فُسِّرَ بِمَا
يَقْتَضِي قِدَمَ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ مَعَ اللَّهِ، أَوْ فُسِّرَ بِمَا يَقْتَضِي
سَلْبَ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ حَقٌّ،
فَإِنَّ مَا شَاءَ وُجُودَهُ فَقَدَ وَجَبَ وُجُودُهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ،
لَكِنْ لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ شَاءَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ
بِعَيْنِهِ فِي الْأَزَلِ، بَلْ مَشِيئَتُهُ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَزَلِ
مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ
الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَزَلِيَّ لَا يَكُونُ مُرَادًا مَقْدُورًا، وَلَا
أَعْلَمُ نِزَاعًا بَيْنَ النُّظَّارِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ
أَزَلِيًّا لَازِمًا لِذَاتِهِ لَا يَتَأَخَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُرَادًا مَقْدُورًا، وَأَنَّ مَا كَانَ مُرَادًا مَقْدُورًا لَا يَكُونُ إِلَّا
حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ نَوْعُهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا،
أَوْ كَانَ نَوْعُهُ كُلُّهُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ
اعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ مُتَّفِقِينَ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ
بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ خَلْقُ إِدْرَاكٍ فِي الْعَبْدِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى
الْقَدِيمِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: كَلَامُهُ قَدِيمٌ، وَأَرَادُوا أَنَّهُ قَدِيمُ
الْعَيْنِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ، سَوَاءٌ قَالُوا: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ، أَوْ
قَالُوا: هُوَ حُرُوفٌ، أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةُ
الْأَعْيَانِ.
بِخِلَافِ أَئِمَّةِ
السَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ،
وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَكَيْفَ شَاءَ، فَإِنَّ
هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ قَدِيمُ النَّوْعِ، وَإِنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ
لَا نِهَايَةَ لَهَا، بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ،
وَلَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ كَيْفَ شَاءَ إِذَا شَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ
الْعِبَارَاتِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ، وَكَلَامُهُ حَادِثٌ بِالْغَيْرِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، أَوْ مَخْلُوقٌ
مُنْفَصِلٌ عَنْهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا.
فَقَدِ اتَّفَقَتِ
الطَّوَائِفُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ الْمُعَيَّنَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ لَا
يَكُونُ مَقْدُورًا مُرَادًا بِخِلَافِ مَا كَانَ نَوْعُهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهَذَا مِمَّا يَقُولُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ
السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: إِنَّهُ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا
يَقُولُ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْفَلَاسِفَةِ الْأَسَاطِينُ الَّذِينَ يَقُولُونَ
بِحُدُوثِ الْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهَا وَأَرِسْطُو، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ بِقِدَمِهَا.
فَأَئِمَّةُ أَهْلِ
الْمِلَلِ وَأَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَفْلَاكَ مُحْدَثَةٌ
كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلِ
النَّوْعُ الْمَقْدُورُ الْمُرَادُ مَوْجُودًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: مَا كَانَ مَقْدُورًا مُرَادًا يَمْتَنِعُ أَنْ
يَكُونَ لَمْ يَزَلْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِمَنْعِ
ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا.
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ
نَاظَرَهُمُ الْفَلَاسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَلَمَّا
نَاظَرُوهُمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَصَمُوهُمْ وَغَلَبُوهُمُ اعْتَقَدُوا
أَنَّهُمْ قَدْ خَصَمُوا أَهْلَ الْمِلَلِ مُطْلَقًا لِاعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ
النَّاشِئِ عَنْ جَهْلِهِمْ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ بَلْ
وَبِأَقْوَالِ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ
لِأَئِمَّةِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلٌ إِلَّا قَوْلَ هَؤُلَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَوْلَهُمْ أَوْ قَوْلَ الْمَجُوسِ وَالْحَرَّانِيَّةِ، أَوْ
قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ مَادَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدْ يَظْهَرُ فَسَادُهَا لِلنُّظَّارِ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ
فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
عَامَّةَ الْعُقَلَاءِ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الشَّيْءِ
الْمُعَيَّنِ مُرَادًا مَقْدُورًا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ حَادِثًا كَائِنًا
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، بَلْ هَذَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَعْلُومِ
بِالضَّرُورَةِ، وَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ
الشَّيْءَ مَقْدُورٌ لِلْفَاعِلِ مُرَادٌ لَهُ فَعَلَهُ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَادِثٌ، بَلْ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِهِمْ
كَوْنَ الشَّيْءِ مَفْعُولًا. أَوْ مَخْلُوقًا أَوْ مَصْنُوعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
مِنَ الْعِبَارَاتِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَدْ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ
فَاعِلًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَا كَانَ مَقْدُورًا مُرَادًا،
فَهُوَ مُحْدَثٌ كَانَ هَذَا أَيْضًا دَلِيلًا ثَانِيًا عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ.
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ
تَصَوَّرَ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَوْ خَلَقَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ كَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا
لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ مُحْدَثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ:
هُوَ قَدِيمٌ مَخْلُوقٌ، أَوْ قَدِيمٌ مُحْدَثٌ، وَعَنَى بِالْمَخْلُوقِ
وَالْمُحْدَثِ مَا يَعْنِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ
الْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ الْمُحْدَثِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ،
وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُولًا مُمْكِنًا
يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، فَإِذَا تَصَوَّرَ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ هَذَا
الْمَذْهَبَ جَزَمَ بِتَنَاقُضِهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ جَمَعُوا بَيْنَ
النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ قَدَّرُوا مَخْلُوقًا مُحْدَثًا مَعْلُولًا مَفْعُولًا
مُمْكِنًا أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ يُعْدَمَ، وَقَدَّرُوهُ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمًا
أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ.
وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي
مَوَاضِعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا
ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ عَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ وُجُودَ
مَفْعُولٍ مَعْلُولٍ أَزَلِيٍّ لِلْمُوجِبِ بِذَاتِهِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ
مِنْهُمْ، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَفْعُولٍ، فَإِنَّهُ لَا
يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا.
وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ
وَأَمْثَالُهُ مُوَافَقَةً لِابْنِ سِينَا مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ وُجُودُهُ
وَعَدَمُهُ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا قَوْلٌ بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ،
حَتَّى عِنْدَ أَرِسْطُو
وَأَتْبَاعِهِ الْقُدَمَاءِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ مُوَافِقُونَ
لِسَائِرِ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ
لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَرِسْطُو
إِذَا قَالَ: إِنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ لَمْ يَجْعَلْهُ مَعَ ذَلِكَ مُمْكِنًا
يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ
الْعِلْمَ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مَقْدُورًا مُرَادًا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ
مُحْدَثًا، بَلِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَفْعُولًا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ
مُحْدَثًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْخَلْقَ وَالْإِبْدَاعَ وَالصُّنْعَ وَنَحْوَ
ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا مَعَ تَصَوُّرِ حُدُوثِ الْمَفْعُولِ.
وَأَيْضًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مَفْعُولًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ فِي الزَّمَانِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَا يُعْقَلُ قَطُّ فِي الْوُجُودِ فَاعِلٌ قَارَنَهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً فَاعِلَةً، أَوْ لَمْ يُسَمَّ ، وَلَكِنْ يُعْقَلُ كَوْنُ الشَّرْطِ مُقَارِنًا لِلْمَشْرُوطِ.
وَالْمَثَل الَّذِي
يَذْكُرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَّكْتُ يَدِيَ، فَتَحَرَّكَ خَاتَمِي، أَوْ
كُمِّي أَوِ الْمِفْتَاحُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ،
فَإِنَّ حَرَكَةَ الْيَدِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ، وَلَا الْفَاعِلُ
لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ، بَلِ الْخَاتَمُ مَعَ الْإِصْبَعِ كَالْإِصْبَعِ مَعَ الْكَفِّ،
فَالْخَاتَمُ مُتَّصِلٌ بِالْإِصْبَعِ، وَالْإِصْبَعُ مُتَّصِلَةٌ بِالْكَفِّ
لَكِنَّ الْخَاتَمَ يُمْكِنُ نَزْعُهَا بِلَا أَلَمٍ بِخِلَافِ الْإِصْبَعِ،
وَقَدْ يَعْرِضُ بَيْنَ الْإِصْبَعِ وَالْخَاتَمِ خُلُوٌّ يَسِيرٌ بِخِلَافِ
أَبْعَاضِ الْكَفِّ.
وَلَكِنَّ حَرَكَةَ
الْإِصْبَعِ شَرْطٌ فِي حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، كَمَا أَنَّ حَرَكَةَ الْكَفِّ
شَرْطٌ فِي حَرَكَةِ الْإِصْبَعِ أَعْنِي فِي الْحَرَكَةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي
مَبْدَؤُهَا مِنَ الْيَدِ بِخِلَافِ الْحَرَكَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْخَاتَمِ،
أَوْ لِلْإِصْبَعِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّ هَذِهِ مُتَّصِلَةٌ مِنْهَا إِلَى الْكَفِّ
كَمَنْ يَجُرُّ إِصْبَعَ غَيْرِهِ، فَيَجُرُّ مَعَهُ كَفَّهُ.
وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ
أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ بِالذَّاتِ وَالْعِلَّةِ كَحَرَكَةِ
الْإِصْبَعِ، وَيَكُونُ بِالطَّبْعِ كَتَقَدُّمِ الْوَاحِدِ عَلَى الِاثْنَيْنِ،
وَيَكُونُ بِالْمَكَانَةِ كَتَقَدُّمِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ، وَيَكُونُ
بِالْمَكَانِ كَتَقَدُّمِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي: وَتَقَدُّمِ
مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ عَلَى مُؤَخَّرِهِ، وَيَكُونُ بِالزَّمَانِ كَلَامٌ
مُسْتَدْرَكٌ.
فَإِنَّ التَّقَدُّمَ
وَالتَّأَخُّرَ الْمَعْرُوفَ هُوَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ بِالزَّمَانِ،
فَإِنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ وَمَعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَعَانِيهَا لَازِمَةٌ
لِلتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ الزَّمَانِيِّ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ
بِالْعِلِّيَّةِ، أَوِ الذَّاتِ مَعَ الْمُقَارَنَةِ فِي الزَّمَانِ، فَهَذَا لَا
يُعْقَلُ أَلْبَتَّةَ، وَلَا لَهُ مِثَالٌ مُطَابِقٌ فِي الْوُجُودِ، بَلْ هُوَ
مُجَرَّدُ تَخَيُّلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَأَمَّا تَقَدُّمُ
الْوَاحِدِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الْوَاحِدَ الْمُطْلَقَ،
فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَلَكِنْ فِي الذِّهْنِ، وَالذِّهْنُ
يَتَصَوَّرُ الْوَاحِدَ الْمُطْلَقَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ الْمُطْلَقِ، فَيَكُونُ
مُتَقَدِّمًا فِي التَّصَوُّرِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِهِ
هَذَا فَلَا تَقَدُّمَ، بَلِ الْوَاحِدُ شَرْطٌ فِي الِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِ
الشَّرْطِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْمَشْرُوطِ، بَلْ قَدْ يُقَارِنُهُ وَقَدْ
يَكُونُ مَعَهُ، فَلَيْسَ هُنَا تَقَدُّمٌ وَاجِبٌ غَيْرُ التَّقَدُّمِ
الزَّمَانِيِّ.
وَأَمَّا التَّقَدُّمُ
بِالْمَكَانِ، فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالزَّمَانِ،
فَإِنَّ مُقَدَّمَ الْمَسْجِدِ تَكُونُ فِيهِ الْأَفْعَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ
بِالزَّمَانِ عَلَى مُؤَخَّرِهِ، فَالْإِمَامُ يَتَقَدَّمُ فِعْلُهُ بِالزَّمَانِ
لِفِعْلِ الْمَأْمُومِ، فَسُمِّيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ مُتَقَدِّمًا،
وَأَصْلُهُ هَذَا.
وَكَذَلِكَ التَّقَدُّمُ
بِالرُّتْبَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْفَضَائِلِ مُقَدَّمُونَ فِي الْأَفْعَالِ
الشَّرِيفَةِ وَالْأَمَاكِنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، فَسُمِّيَ
ذَلِكَ تَقَدُّمًا، وَأَصْلُهُ هَذَا.
وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ الْأَوَّلَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا فَكُلُّ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ وَمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ.
وَإِذَا قِيلَ: الزَّمَانُ
مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ، فَلَيْسَ هُوَ مِقْدَارَ حَرَكَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَحَرَكَةِ
الشَّمْسِ، أَوِ الْفَلَكِ ، بَلِ الزَّمَانُ الْمُطْلَقُ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ الْمُطْلَقَةِ،
وَقَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حَرَكَاتٌ وَأَزْمِنَةٌ، وَبَعْدَ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ،
فَتَذْهَبُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ حَرَكَاتٌ
وَأَزْمِنَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا﴾ [سُورَةِ مَرْيَمَ: ٦٢] .
وَجَاءَ فِي الْآثَارِ
أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِأَنْوَارٍ تَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ
الْعَرْشِ، وَكَذَلِكَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمُ الْمَزِيدِ يَوْمُ
الْجُمْعَةِ يُعْرَفُ بِمَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنَ الْأَنْوَارِ الْجَدِيدَةِ
الْقَوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ كُلُّهَا نُورًا يَزْهَرُ، وَنَهَرًا
يَطَّرِدُ لَكِنْ يَظْهَرُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ نُورٌ آخَرُ يَتَمَيَّزُ بِهِ
النَّهَارُ عَنِ اللَّيْلِ .
فَالرَّبُّ تَعَالَى إِذَا
كَانَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ، فَعَّالًا بِمَشِيئَتِهِ كَانَ
مِقْدَارُ كَلَامِهِ وَفِعَالِهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي
يَحْدُثُ فِيهِ مَا يُحْدُثُ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُتَقَدِّمٌ
عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ التَّقَدُّمَ الْحَقِيقِيَّ الْمَعْقُولَ وَلَا نَحْتَاجُ
أَنْ نُجِيبَ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الشَّهْرَسْتَانِيُّ وَالرَّازِيُّ
وَغَيْرُهُمَا: مِنْ أَنَّ فِي أَنْوَاعِ التَّقَدُّمَاتِ تَقَدُّمَ أَجْزَاءِ
الزَّمَانِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ، وَأَنَّ تَقَدُّمَ الرَّبِّ
عَلَى الْعَالَمِ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.
فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُرَدُّ
لِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى
بَعْضٍ هُوَ بِالزَّمَانِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ
بِالزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ زَمَانٌ خَارِجٌ عَنِ التَّقَدُّمِ
وَالْمُتَقَدِّمِ وَصِفَاتِهِمَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ يَكُونُ
قَبْلَ الْمُتَأَخِّرِ الْقَبْلِيَّةَ الْمَعْقُولَةَ كَتَقَدُّمِ الْيَوْمِ عَلَى
غَدٍ، وَأَمْسٍ عَلَى الْيَوْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقَدُّمَ طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ عَلَى الزَّوَالِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَا
فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ نَفْسِ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ،
وَبَيْنَ تَقَدُّمِ مَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى مَا يَكُونُ
فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ
يُقَالَ: أَجْزَاءُ الزَّمَانِ مُتَّصِلَةٌ مُتَلَاحِقَةٌ لَيْسَ فِيهَا فَصْلٌ
عَنْ الزَّمَانِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَارِيَ لَمْ يَزَلْ غَيْرَ فَاعِلٍ،
وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ، ثُمَّ صَارَ فَاعِلًا وَمُتَكَلِّمًا
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَجْعَلُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنَ الْفَصْلِ مَا لَا
نِهَايَةَ لَهُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ أَجْزَاءِ
الزَّمَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؟
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعِلْمُ
بِأَنَّ الْفَاعِلَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، بَلِ الْفَاعِلُ مَعَ قَطْعِ
النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ
كَانَ هَذَا لَازِمًا لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ
فَالْعِلْمُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ
يُوجِبُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ أَبْدَعَهُ، وَأَحْدَثَهُ، وَصَنَعَهُ، وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّ الْمَفْعُولَ كَانَ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ كَانَ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قُدِّرَ دَوَامُ كَوْنِهِ فَاعِلًا بِقُدْرَتِهِ
وَإِرَادَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ إِرَادَتَهُ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَزَلِ
مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ إِرَادَةَ وُجُودِهِ تَقْتَضِي إِرَادَةَ وُجُودِ
لَوَازِمِهِ، لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُحَالٌ،
فَتِلْكَ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ لَوِ اقْتَضَتْ وُجُودَ مُرَادٍ مُعَيَّنٍ فِي
الْأَزَلِ لَاقْتَضَتْ وُجُودَ لَوَازِمِهِ، وَمَا مِنْ وُجُودٍ مُعَيَّنٍ مِنَ
الْمُرَادَاتِ إِلَّا. وَهُوَ مُقَارِنٌ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنَ الْحَوَادِثِ
كَالْفَلَكِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَوَادِثِ، وَكَذَلِكَ الْعُقُولُ
وَالنُّفُوسُ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ هِيَ لَا تَزَالُ
مُقَارِنَةً لِلْحَوَادِثِ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْحَوَادِثَ مَعْلُولَةٌ
لَهَا، فَإِنَّهَا مُلَازِمَةٌ مُقَارِنَةٌ لَهَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَوَادِثَ
مَشْهُودَةٌ فِي الْعَالَمِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَمْ تَزَلْ مُقَارِنَةً
لِلْعَالَمِ، أَوْ تَكُونُ حَادِثَةً فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، فَإِنْ لَمْ
تَزَلْ مُقَارِنَةً لَهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ مُقَارِنًا
لِلْحَوَادِثِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا حَادِثَةٌ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ
كَانَ الْعَالَمُ خَالِيًا عَنِ الْحَوَادِثِ، ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِ، وَذَلِكَ
يَقْتَضِي حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَلَّمُوهُ هُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ أَمْكَنَ وُجُودُ الْعَالَمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً أَعْنِي نَوْعَ الْحَوَادِثِ، وَإِلَّا فَكُلُّ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي
نَوْعِ الْحَوَادِثِ هَلْ يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي،
أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَطْ، أَوْ لَا يُمْكِنُ دَوَامُهَا لَا فِي الْمَاضِي
وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ أَهْلِ
النَّظَرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ أَضْعَفُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا
يُمْكِنُ دَوَامُهَا لَا فِي الْمَاضِي، وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ
جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ، وَثَانِيهَا قَوْلُ
مَنْ يَقُولُ: يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي كَقَوْلِ
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ
وَافَقَهُمْ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَمَنْ
وَافَقَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ
قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يُمْكِنُ دَوَامُهَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا
يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ
لَكِنِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ كَأَرِسْطُو، وَشِيعَتِهِ يَقُولُونَ.
بِدَوَامِ حَوَادِثِ الْفَلَكِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ دَوْرَةٍ إِلَّا وَهِيَ
مَسْبُوقَةٌ بِأُخْرَى لَا إِلَى أَوَّلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، بَلْ
حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، كَمَا بُيِّنَ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ: الْمُسْلِمِينَ،
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ
بِقِدَمِهَا يَقُولُونَ. بِأَزَلِيَّةِ الْحَوَادِثِ فِي الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا
الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ،
وَمَلِيكُهُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ،
فَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ الْوَاجِبِ، وَالْمَخْلُوقِ الْمُمْكِنِ
فِي دَوَامِ الْحَوَادِثِ وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةِ
الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ، فَهُمْ وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ
مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ حَيًّا فَعَّالًا فَإِنَّهُمْ
يَقُولُونَ: إِنَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
الْفَلَاسِفَةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إِنْ جَوَّزُوا حُدُوثَ
الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ بَطَلَتْ عُمْدَتُهُمْ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ،
وَإِنْ مَنَعُوا ذَلِكَ امْتَنَعَ خُلُوُّ الْعَالَمِ عَنِ الْحَوَادِثِ، وَهُمْ
لَا يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْحَوَادِثِ.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مُرَادَاتِ اللَّهِ الَّتِي يَخْلُقُهَا، فَإِنَّهُ مُقَارِنٌ لِلْحَوَادِثِ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا امْتَنَعَ إِرَادَتُهُ دُونَ إِرَادَةِ لَوَازِمِهِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، وَاللَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ، وَبَعْضُهُ بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ، بَلِ الْجَمِيعُ بِإِرَادَتِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَالْإِرَادَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِمُقَارَنَةِ مُرَادِهَا لَهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَوَازِمُهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَالْحَوَادِثُ لَازِمَةٌ لِكُلِّ مُرَادٍ مَصْنُوعٍ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً لَهُ، وَأَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً، إِذِ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُقَارِنٌ لِلْإِرَادَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ
أَرَادَ الْقَدِيمَ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ، وَأَرَادَ الْحَوَادِثَ
الْمُتَعَاقِبَةَ عَلَيْهِ بِإِرَادَاتٍ
مُتَعَاقِبَةٍ، كَمَا قَدْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَهُوَ
يُشْبِهُ قَوْلَ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ.
قِيلَ: أَوَّلًا: كَوْنُ
الشَّيْءِ مُرَادًا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ، بَلْ وَتَصَوُّرُ كَوْنِهِ مَفْعُولًا
يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ، فَإِنَّ مُقَارَنَةَ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ
لِفَاعِلِهِ مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةٍ الْعُقُولِ.
وَقِيلَ: ثَانِيًا: إِنْ
جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِرَادَاتٌ مُتَعَاقِبَةٌ دَائِمَةُ النَّوْعِ لَمْ
يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ حَادِثًا بِتِلْكَ الْإِرَادَاتِ،
فَالْقَوْلُ حِينَئِذٍ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ
أَصْلًا.
وَقِيلَ: ثَالِثًا: إِنَّ
الْفَاعِلَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ
بِإِرَادَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ
إِرَادَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ
مَفْعُولَاتِهِ، فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ.
وَقِيلَ: رَابِعًا: إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فِي الْأَزَلِ كَانَ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ كَالْفَلَكِ إِرَادَةً مُقَارِنَةً لِلْمُرَادِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلَوَازِمِهِ إِرَادَةً مُقَارِنَةً لِلْمُرَادِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ، وَاللَّازِمُ لَهُ نَوْعُ الْحَوَادِثِ، وَإِرَادَةُ النَّوْعِ إِرَادَةٌ مُقَارِنَةٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ النَّوْعِ كُلِّهِ فِي الْأَزَلِ.
وَإِذَا قِيلَ: اللَّازِمُ
لَهُ دَوَامُ الْحَوَادِثِ، فَيَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِدَوَامِ الْإِرَادَةِ
لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ.
قِيلَ: مَعْلُومٌ أَنَّ
إِرَادَةَ هَذَا الْحَادِثِ لَيْسَتْ إِرَادَةَ هَذَا الْحَادِثِ، وَإِنْ
جَوَّزُوا هَذَا لَزِمَهُمْ أَنْ يُجَوِّزُوا وُجُودَ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ
بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ
مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ
قَوْلُهُمْ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمَعْلُولُ الْمُعَيَّنُ الْقَدِيمُ إِذَا قُدِّرَ كَانَ مُرَادًا بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ بَاقِيَةٍ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا إِرَادَةُ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ لِأَنَّ الْحَادِثَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَنَوْعُ الْإِرَادَاتِ وَالْحَوَادِثِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ قَدِيمٌ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: يَقْتَرِنُ بِهَا النَّوْعُ الدَّائِمُ لَكِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ قَدْ ذُكِرَ بَعْضُهَا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ
الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ لَيْسَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِمُقَارَنَةِ
مُرَادِهَا لَهَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا ; لِأَنَّ حُدُوثَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَفْتَقِرُ
إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ الْحَوَادِثَ تَحْدُثُ بِالْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ
غَيْرِ تَجَدُّدِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ،
وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا مُبْطِلًا لِحُجَّةِ
هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ.
فَإِنَّ أَصْلَ حُجَّتِهِمْ أَنَّ
الْحَوَادِثَ لَا تَحْدُثُ إِلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، فَإِذَا جَوَّزُوا حُدُوثَهَا
عَنِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، أَوْ جَوَّزُوا حُدُوثَهَا
بِالْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ بَطَلَتْ عُمْدَتُهُمْ، وَهُمْ لَا
يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ هَذَا الدَّلِيلِ
أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ صَدَرَ
عَنْ مُؤَثِّرٍ تَامٍّ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً تَامَّةً، أَوْ مُوجِبًا
بِالذَّاتِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَاخْتِيَارُهُ أَزَلِيٌّ
مُقَارِنٌ لِمُرَادِهِ فِي الْأَزَلِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ،
وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يُقَارِنُهُ مُرَادُهُ
سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ عِلَّةً تَامَّةً، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، وَسَوَاءٌ سُمِّيَ
مُوجِبًا بِالذَّاتِ، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ
مِنَ الْمَفْعُولَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْعَقْلِيَّةِ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ
الْأَزَلِيِّ فِي الزَّمَانِ، وَامْتِنَاعُ هَذَا مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَيَمْتَنِعُ
أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ، أَوْ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ سَوَاءٌ
سُمِّيَ قَادِرًا مُخْتَارًا، أَوْ لَمْ يُسَمَّ.
وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَارِنَهُ أَثَرُهُ الْمُسَمَّى مَعْلُولًا. أَوْ مُرَادًا، أَوْ مُوجِبًا بِالذَّاتِ، أَوْ مُبْدِعًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ لَكِنَّ مُقَارَنَةَ ذَلِكَ لَهُ فِي الْأَزَلِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَوَادِثِ فَاعِلٌ، بَلْ كَانَتْ حَادِثَةً بِنَفْسِهَا، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِنَفْسِهِ، فَإِثْبَاتُ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ أَوْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يُقَارِنُهُ مُرَادُهُ فِي الْأَزَلِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ فَاعِلٌ، وَهَذَا مُحَالٌ.
لَا سِيَّمَا قَوْلُ مَنْ
يَقُولُ: إِنَّ الْعَالَمَ صَدَرَ عَنْ ذَاتٍ بَسِيطَةٍ لَا يَقُومُ بِهَا صِفَةٌ
وَلَا فِعْلٌ، كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا، وَأَمْثَالُهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ
يَقُولُونَ بِصُدُورِ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ ذَاتٍ بَسِيطَةٍ، وَإِنَّ
الْعِلَّةَ الْبَسِيطَةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تُوجِبُ مَعْلُولَاتٍ
مُخْتَلِفَةً، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ امْتِنَاعًا فِي صَرِيحِ
الْمَعْقُولِ.
وَمَهْمَا أَثْبَتُوهُ مِنَ
الْوَسَائِطِ كَالْعُقُولِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ هَذَا
الْقَوْلِ الْبَاطِلِ.
فَإِنَّ تِلْكَ الْوَسَائِطَ
كَالْعُقُولِ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِهَا، وَصَدَرَ عَنْهَا غَيْرُهَا.
فَإِنْ كَانَتْ بَسِيطَةً
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَقَدْ صَدَرَ الْمُخْتَلِفُ الْحَادِثُ عَنِ الْبَسِيطِ
الْأَزَلِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ، أَوْ قَامَ بِهَا حَادِثٌ، فَقَدْ
صَدَرَتْ أَيْضًا الْمُخْتَلِفَاتُ وَالْحَوَادِثُ عَنِ الْبَسِيطِ التَّامِّ
الْأَزَلِيِّ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، فَهُمْ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مُبْدِعَ
الْعَالَمِ عِلَّةٌ لَهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مُرَاعَاةِ مُوجَبِ التَّعْلِيلِ.
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ.
أَيْضًا : إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِبَعْضِ الْعَالَمِ
كَالْأَفْلَاكِ مَثَلًا وَلَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ لِشَيْءٍ مِنَ
الْحَوَادِثِ، بَلْ لَا يَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ
إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهِ، فَيَصِيرُ عِلَّةً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً مَعَ
أَنَّ حَالَهُ قَبْلَ وَمَعَ، وَبَعْدَ حَالٌ وَاحِدَةٌ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ
وَقْتٍ بِحَوَادِثِهِ، وَبِكَوْنِهِ صَارَ عِلَّةً تَامَّةً فِيهِ لِتِلْكَ
الْحَوَادِثِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَلَا مُخَصِّصَ إِلَّا الذَّاتُ
الْبَسِيطَةُ، وَحَالُهَا فِي نَفْسِهَا وَاحِدٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكَيْفَ
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِحَوَادِثٍ مَخْصُوصَةٍ دُونَ
بَعْضٍ مَعَ تَمَاثُلِ أَحْوَالِهَا فِي نَفْسِهَا؟
وَهَذَا بِعَيْنِهِ
تَخْصِيصٌ لِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْحَادِثَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ عَنْ
سَائِرِ أَمْثَالِهِ بِذَلِكَ الْإِحْدَاثِ، وَبِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مِنْ
غَيْرِ مُخَصِّصٍ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَثَلُ، فَقَدَ وَقَعَ هَؤُلَاءِ فِي أَضْعَافِ
مَا فَرُّوا مِنْهُ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى.
وَإِذَا قِيلَ: حُدُوثُ
الْحَادِثِ الْأَوَّلِ أَعَدَّ الذَّاتَ لِحُدُوثِ الثَّانِي. .
قِيلَ لَهُمْ: فَالذَّاتُ
نَفْسُهَا هِيَ عِلَّةُ الْجَمِيعِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْجَمِيعِ نِسْبَةٌ
وَاحِدَةٌ، فَمَا الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا جَعَلَتْ ذَلِكَ يَعُدُّهَا لِهَذَا
دُونَ الْعَكْسِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَا شَيْءٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ.؟ .
وَأَيْضًا: فَكَيْفَ تَصِيرُ
هِيَ فَاعِلَةٌ لِهَذَا الْحَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَاعِلَةً لَهُ مِنْ
غَيْرِ أَمْرٍ يَقُومُ بِهَا؟ .
وَأَيْضًا: فَكَيْفَ يَكُونُ
مَعْلُولُهَا يَجْعَلُهَا فَاعِلَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَاعِلَةً بِدُونِ
فِعْلٍ يَقُومُ بِهَا؟.
وَإِذَا قَالُوا:
أَفْعَالُهَا تَخْتَلِفُ، وَتَحْدُثُ لِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ وَالشَّرَائِطِ
وَحُدُوثِ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ، وَ سَبَبُ ذَلِكَ الْحُدُوثِ هُوَ الْحَرَكَاتُ
الْفَلَكِيَّةُ وَالِاتِّصَالَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ.
قِيلَ لَهُمْ: هَذَا إِنْ
كَانَ مُمْكِنًا، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ فَاعِلُ الْإِعْدَادِ
غَيْرَ فَاعِلِ الْإِمْدَادِ كَالشَّمْسِ الَّتِي يَفِيضُ نُورُهَا وَحَرَارَتُهَا
عَلَى الْعَالَمِ، وَيَخْتَلِفُ فِعْلُهَا، وَيَتَأَخَّرُ كَمَالُ تَأْثِيرِهَا
عَنْ شُرُوقِهَا لِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ وَحُدُوثِهَا، وَالْقَوَابِلُ لَيْسَتْ
مِنْ فِعْلِ الشَّمْسِ.
وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الَّذِي يَخْتَلِفُ فَيْضُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِاخْتِلَافِ قَوَابِلِهِ، فَإِنَّ الْقَوَابِلَ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَلَيْسَتْ حَرَكَاتُ كُلِّ الْأَفْلَاكِ عَنِ الْعَقْلِ الْفَيَّاضِ
يوم
الخميس 6 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون