بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس العاشر: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
فَأَمَّا الذَّاتُ: الَّتِي مِنْهَا الْإِعْدَادُ، وَمِنْهَا الْإِمْدَادُ، وَمِنْهَا الْفَيْضُ، وَمِنْهَا الْقَبُولُ، وَهِيَ الْفَاعِلَةُ لِلْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ وَالشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا اخْتُلِفَ فِعْلُهَا أَوْ فَيْضُهَا أَوْ إِيجَابُهَا، وَتَأَخَّرَ لِاخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ وَالشُّرُوطِ، أَوْ لِتَأَخُّرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ وَالشُّرُوطِ وَتَأَخُّرِهَا كَالْقَوْلِ فِي اخْتِلَافِ.الْمَقْبُولِ، وَالْمَشْرُوطِ وَتَأَخُّرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ وُجُودِيٌّ يَقْتَضِي ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ بَسِيطَةٌ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؟ .
وَإِنْ قَالُوا: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا هَذَا، وَأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ لَا تَقْبَلُ إِلَّا هَذَا.
قِيلَ: الْمُمْكِنَاتُ قَبْلَ وُجُودِهَا لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ مَوْجُودَةٌ تُجْعَلُ هِيَ السَّبَبَ فِي تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمَوْجُودِينَ بِالْوُجُودِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَكِنْ بَعْدَ وُجُودِهَا يُعْقَلُ كَوْنُ الْمُمْكِنِ شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَمَانِعًا لِغَيْرِهِ كَوُجُودِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْآخَرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَوُجُودُ اللَّازِمِ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي وُجُودِ الْمَلْزُومِ أَيْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ مَعَ وُجُودِهِ سَوَاءٌ وُجِدَا مَعًا، أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ وُجُودُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنَّ أَحَدَ الْمُمْكِنَيْنِ الْجَائِزَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ فِي الذَّاتِ الْبَسِيطَةِ أَنْ يُوجِدَ هَذَا دُونَ هَذَا وَيَجْعَلَ هَذَا قَدِيمًا دُونَ هَذَا مَعَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَسِيطَةٌ نِسْبَتُهَا إِلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِذَا قِيلَ: مَاهِيَّةُ الْمُمْكِنِ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ دُونَ وُجُودِهِ.
قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْوُجُودِ إِنَّمَا تُعْقَلُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ دُونَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الذَّاتِ الْفَاعِلَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَاهِيَّةٍ دُونَ مَاهِيَّةٍ بِالْوُجُودِ، بَلْ كَانَتْ بَسِيطَةً لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاهِيَّاتِ لَمْ يُعْقَلْ اخْتِصَاصُ إِحْدَى الْمَاهِيَّتَيْنِ بِالْوُجُودِ دُونَ الْأُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ إِذَا تَصَوَّرَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُرَادُ فِعْلُهُ سَبَبٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَالْعَبْدُ لِإِرَادَتِهِ أَسْبَابٌ خَارِجَةٌ عَنْهُ تُوجِبُ التَّخْصِيصَ، وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَّا مَا هُوَ مِنْهُ، وَهُوَ مَفْعُولُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ امْتَنَعَ التَّخْصِيصُ مِنْهُ، فَامْتَنَعَ الْفِعْلُ.
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمُمْكِنِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ لَكِنَّ الْقَوْلَ فِي تَخْصِيصِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ الْمُقَارِنَةِ لِوُجُودِهَا بِالْوُجُودِ دُونَ بَعْضٍ، كَالْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ وُجُودِهَا إِذْ كَانَ كُلُّ مَا يُقَدَّرُ وُجُودُهُ فَمَاهِيَّتُهُ مُقَارِنَةٌ لَهُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَاهِيَّاتِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ فِي الْخَارِجِ غَنِيٌّ عَنِ الْفَاعِلِ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِنَفْسِهَا مُشَارِكَةٌ لِلرَّبِّ فِي إِبْدَاعِ الْوُجُودِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ أَيْضًا.
ثُمَّ إِنَّهُ يُمْكِنُ تَحْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ بِطَرِيقِ التَّقْسِيمِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ.
مِثْلُ أَنْ يُقَالَ :إِنَّ الْحَوَادِثَ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ دَوَامُهَا، وَيَجِبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَمْتَنِعَ دَوَامُهَا، بَلْ يَجُوزُ حَوَادِثٌ لَا أَوَّلَ لَهَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: لَزِمَ وُجُودُ الْحَوَادِثِ عَنِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ سَوَاءٌ قَالُوا: إِنَّهَا تَصْدُرُ عَنِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ إِرَادَةً قَدِيمَةً، كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ، أَوْ قَالُوا: إِنَّهَا تَصْدُرُ عَنِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْمُرِيدِ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ، كَمَا تَقُولُهُ الْكُلَّابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ إِلَّا وَهُوَ مَقْرُونٌ بِالْحَوَادِثِ لَمْ يَسْبِقْهَا سَوَاءٌ جُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ جِسْمًا، أَوْ قِيلَ: إِنَّ هُنَاكَ عُقُولًا وَنُفُوسًا لَيْسَتْ أَجْسَامًا، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْحَوَادِثِ، فَإِنَّهَا فَاعِلَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ عِلَّةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُمْكِنَةً أَوْ وَاجِبَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ مَعَهَا لَكِنْ يَجِبُ وُجُودُ الْمُرَادِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الْإِرَادَةِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ دَوَامُ الْحَوَادِثِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ.
فَيُقَالُ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَا الْأَفْلَاكُ وَلَا الْعُقُولُ وَلَا النُّفُوسُ وَلَا الْمَوَادُّ الْعُنْصُرِيَّةُ وَلَا الْجَوَاهِرُ الْمُفْرَدَةُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قَدِيمًا مِنَ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُوجِبًا لَهُ بِالذَّاتِ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً تَامَّةً، أَوْ مُرَجِّحًا تَامًّا، أَوْ سُمِّيَ قَادِرًا مُخْتَارًا.
لَكِنَّ وُجُودَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ أَزَلِيًّا، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُعَيَّنَ لِلْفَاعِلِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَانِ أَزَلِيًّا مَعَهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا اعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ مُقَارَنَةَ مَقْدُورِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ أَزَلِيًّا مَعَهُ مُحَالٌ، بَلْ هَذَا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ فِيمَا يُقَدَّرُ قَائِمًا بِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُرَادًا أَزَلِيًّا، فَلَأَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا فِيمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبًا بِذَاتِهِ لَزِمَ أَنْ يُقَارِنَهُ مَعْلُولُهُ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا، وَهَذَا مُحَالٌ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْعَالَمِ أَزَلِيٌّ كَالْأَفْلَاكِ وَنَوْعِ الْحَرَكَاتِ، وَبَعْضَهُ لَيْسَ بِأَزَلِيٍّ كَآحَادِ الْأَشْخَاصِ، وَالْحَرَكَاتِ.
قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا جَازَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِلْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ حَادِثًا، فَالْقَوْلُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْعَالَمِ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَهُ مُحْدِثًا لِلْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِدُونِ قِيَامِ سَبَبٍ بِهِ يُوجِبُ الْإِحْدَاثَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ الذَّاتَ إِذَا كَانَ حَالُهَا قَبْلَ هَذَا، وَبَعْدَ هَذَا، وَمَعَ هَذَا وَاحِدَةً امْتَنَعَ أَنْ تَخُصَّ هَذَا بِالْإِحْدَاثِ دُونَ هَذَا، بَلِ امْتَنَعَ أَنْ تُحْدِثَ شَيْئًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ جُوِّزَ أَنْ تُحْدِثَ شَيْئًا بِدُونِ سَبَبٍ يَقُومُ بِهَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ ابْتِدَاءٌ، فَلَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوَّزْ ذَلِكَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّهَا تُحْدِثُ الْحَوَادِثَ بِدُونِ سَبَبٍ يَقُومُ بِهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ إِحْدَاثَ الْحَوَادِثِ إِنْ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ سَبَبٍ يَقُومُ بِهَا بَطَلَ قَوْلُهُمْ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى سَبَبٍ يَقُومُ بِهَا لَزِمَ أَنْ يَقُومَ بِهَا تِلْكَ الْأُمُورُ دَائِمًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا تَكُونُ فَاعِلَةً قَطُّ إِلَّا مَعَ قِيَامِ ذَلِكَ بِهَا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ أَزَلًا وَأَبَدًا ; لِأَنَّ صُدُورَ ذَلِكَ عَنْ ذَاتٍ تَفْعَلُ مَا يَقُومُ بِهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ مَا تَفْعَلُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ لَا يَكُونُ فِعْلُهَا إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِعْلٌ مُعَيَّنٌ لَازِمٌ لَهَا، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ لَازِمٌ لَهَا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ مَعْلُولَاتِهَا لَازِمٌ لَهَا أَزَلًا وَأَبَدًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا لِكَوْنِ الذَّاتِ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبَةً لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعَيَّنَ مَخْصُوصٌ بِقَدْرٍ وَصِفَةٍ وَحَالٍ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي فِيهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِصَاصُ فِي عِلَّتِهِ، وَإِلَّا فَالْعِلَّةُ الَّتِي لَا اخْتِصَاصَ لَهَا لَا تُوجِبُ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِقَدْرٍ وَحَالٍ وَصِفَةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهَا الْأَحْوَالُ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهَا تَقُومُ بِهَا لَكِنْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً لِشَيْءٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ ; لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْمُتَعَاقِبَةَ آحَادُهُا مَوْجُودَةٌ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَة لِشَيْءٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ الْقَدِيمَ الْمُعَيَّنَ الْأَزَلِيَّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مُعَيَّنًا، وَالْأَحْوَالُ الْمُتَعَاقِبَةُ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ قَدِيمٌ مُعَيَّنٌ أَزَلِيٌّ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجَبُ الْمَشْرُوطُ بِهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا.
فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَيْسَ فِيهَا اخْتِصَاصٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْفَلَكِ دُونَ غَيْرِهِ بِكَوْنِهِ مَعْلُولًا بِخِلَافِ مَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَسْبَابٍ أَوْجَبَتِ الْحُدُوثَ، وَالتَّخْصِيصَ، فَإِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَنْدَفِعُ، وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْدُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ لَازِمَةً لَهَا كَانَ بِتَقْدِيرِ فِعْلِهَا بِدُونِ الْأَحْوَالِ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا، وَحِينَئِذٍ فَالذَّاتُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ لَا تَفْعَلُ بِدُونِهَا، وَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا بِأَحْوَالٍ مُتَعَاقِبَةٍ امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ ; لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَقْتَضِي عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَحْوَالَ الْمُتَعَاقِبَةَ لَا يَكُونُ اقْتِضَاؤُهُ فِي الْأَزَلِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ تَامًّا أَزَلِيًّا، بَلْ إِنَّمَا يَتِمُّ اقْتِضَاؤُهُ لِكُلِّ مَفْعُولٍ عِنْدَ وُجُودِ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ فَاعِلًا.
السَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ جَازَ أَنْ يَقُومَ بِالْفَاعِلِ الْأَحْوَالُ الْمُتَعَاقِبَةُ جَازَ، بَلْ وَجَبَ حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَمْتَنِعُ حُدُوثُ شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ وُجُودُ الْحَوَادِثِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَحْدُثُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ فِي الْفَاعِلِ، وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ جَوَازُ حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ الْحَوَادِثَ دَائِمًا بِلَا
سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهَا، فَلَأَنْ تَحْدُثَ جَمِيعُهَا بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَهَا أَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا أَقَلُّ مَحْذُورًا، فَإِذَا جَازَ الْحُدُوثُ مَعَ الْمَحْذُورِ الْأَعْظَمِ، فَمَعَ الْأَخَفِّ أَوْلَى.
وَأَيْضًا، فَالْأَوَّلُ إِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ كَانَ الْجَمِيعُ قَدِيمًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ كَانَتْ حَادِثَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَوْعِهَا دُونَ الْآحَادِ، فَقَدْ عُرِفَ بُطْلَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، وَلَوْ جَازَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ لِجَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ،وَإِذَا جَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ امْتَنَعَ قِدَمُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إِلَّا لِقِدَمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ.
وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ ثَمَّ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِدَمُ، وَيَمْتَنِعُ الْحُدُوثُ، وَإِذَا جَازَ حُدُوثُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا جَازَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ حُدُوثُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قِدَمُهُ إِلَّا لِقِدَمِ مُوجِبِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ حُدُوثُهُ، فَكَمَا أَنَّ الْمُمْكِنَ الذِّهْنِيَّ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ إِذَا حَصَلَ الْمُقْتَضَى التَّامُّ. وَجَبَ وُجُودُهُ، وَإِلَّا وَجَبَ عَدَمُهُ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مَا وَجَبَ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، أَوْ مَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قِدَمِ الْمُمْكِنِ وَحُدُوثِهِ: لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مَا يَجِبُ قِدَمُهُ، أَوْ يَمْتَنِعُ قِدَمُهُ، فَإِذَا حَصَلَ مُوجِبُ قِدَمِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ قِدَمُهُ، وَلَزِمَ إِمَّا دَوَامُ عَدَمِهِ، وَإِمَّا حُدُوثُهُ، فَمَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ حُدُوثِهِ يَمْتَنِعُ قِدَمُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، فَيَمْتَنِعُ قِدَمُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ حُدُوثُهُ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا، بَلْ إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ حُدُوثِهِ ثَبَتَ امْتِنَاعُ قِدَمِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ جَوَّزَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ يَقُولُ بِحُدُوثِهِ، وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِجَوَازِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ تَقْدِيرُهُ بِأَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ ; لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَيُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ قِدَمُ الْعَالَمِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ رُجِّحَ قِدَمُهُ بِلَا مُرَجِّحٍ - فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بَاطِلَةٌ فِي نَظَرِ الْعُقُولِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنِ الْتَزَمَ بَعْضَهُمَا، فَلَا يُعْرَفُ مَنِ الْتَزَمَهُمَا مَعًا
إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ يُرَجِّحُ بِلَا سَبَبٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ هُوَ قَطْعِيٌّ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ.
وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ يَكُونُ فِعْلُهُ مُقَارِنًا لَهُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَقُولُ الْعُقَلَاءُ، - أَوْ جُمْهُورُهُمْ -: إِنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ قَطْعًا، بَلْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مَفْعُولَ الْفَاعِلِ لَا يَكُونُ مُقَارِنًا لَهُ أَبَدًا.
ثُمَّ مِنَ النُّظَّارِ مَنْ قَالَ بِإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَالْقَدَرِيَّةُ وَبَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ يَقُولُونَ بِالْأُولَى، وَبَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ يَقُولُونَ بِالْأُولَى فِي حَقِّ الرَّبِّ دُونَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَقُلْ بِهَا إِلَّا مَنْ جَعَلَ الْفَاعِلَ مُرِيدًا، أَوْ جَعَلَ بَعْضُ الْعَالَمِ قَدِيمًا كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَنَحْوِهِ.
فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ لَزِمَ دَوَامُ فِعْلِهِ، وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ جَوَازِ تَعْطِيلِهِ ثُمَّ فِعْلِهِ، فَمَتَى جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مُعَطَّلًا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ، وَلَا الْقَوْلُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ.
لَكِنَّ غَايَةَ مَنْ جَوَّزَ هَذَا أَنْ يَصِيرَ شَاكًّا يَقُولُ: هَذَا مُمْكِنٌ، وَهَذَا مُمْكِنٌ، وَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا الْوَاقِعُ، وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدَهُمَا بِالسَّمْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَخْبَرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَمَنْ قُدِّرَ أَنَّ عَقْلَهُ جَوَّزَ الْأَمْرَيْنِ، فَبَقِيَ شَاكًّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ، وُقُوعَ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ بِالسَّمْعِ.
وَالْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ لِمَنْ سَلَكَهَا، فَإِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الدَّقِيقَةَ الصَّحِيحَةَ الْعَقْلِيَّةَ قَدْ لَا تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَسَّعَ طَرِيقَ الْهُدَى لِعِبَادِهِ، فَيَعْلَمُ أَحَدُ الْمُسْتَدِلِّينَ الْمَطْلُوبَ بِدَلِيلٍ، وَيَعْلَمُهُ الْآخَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَمَنْ عَلِمَ صِحَّةَ الدَّلِيلَيْنِ مَعًا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَدِلَّةِ يُوجِبُ قُوَّةَ الْعِلْمِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ إِذَا عَزَبَ الْآخَرُ عَنِ الذِّهْنِ.
وَلَكِنَّ مَعَ كَوْنِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا، وَمَعَ كَوْنِ نَقِيضِهِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ دَلَالَةَ الْعَقْلِ عَلَى فَسَادِهِ أَيْضًا، فَنَقُولُ:
كَمَا أَنَّهُ مَا يَثْبُتُ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، فَمَا جَازَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَامْتَنَعَ عَدَمُهُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ جَائِزُ الْعَدَمِ، فَيَمْتَنِعُ قِدَمُهُ، وَمَا جَازَ حُدُوثُهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَدَمُهُ، بَلْ جَازَ عَدَمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا جَازَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَمْ يَجُزْ عَدَمُهُ، بَلِ امْتَنَعَ عَدَمُهُ.
وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ النُّظَّارِ مُتَكَلِّمِهِمْ، وَمُتَفَلْسِفِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَبَيَانُ صِحَّتِهَا: أَنَّ مَا يَثْبُتُ قِدَمُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، فَالْقَدِيمُ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَالْقَدِيمُ بِغَيْرِهِ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَالَمَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ قَدِيمٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ هُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ هُوَ بِوَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ بِنَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَكَانَ مُمْكِنًا مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا بِنَفْسِهِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّهُ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا هُوَ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْقَدِيمُ بِغَيْرِهِ، فَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ قَدِيمًا بِفَاعِلٍ، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: قَدِيمٌ بِقِدَمِ مُوجِبِهِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ،
فَفَاعِلُهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَهُ فَيَكُونَ عِلَّةً مُوجِبَةً أَزَلِيَّةً إِذْ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ، بَلْ جَازَ وُجُودُهُ، وَجَازَ عَدَمُهُ - وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْعَدَمُ - لَوَجَبَ عَدَمُهُ، وَمَعَ وُجُوبِ الْعَدَمِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ قِدَمِهِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، وَلَا قَدِيمًا بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَزَلِ مَا يُوجِبُ وُجُودَهُ لَزِمَ عَدَمُهُ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ إِذَا حَصَلَ لَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَزِمَ عَدَمُهُ.
وَإِذَا قِيلَ: التَّأْثِيرُ أَوْلَى بِهِ مَعَ إِمْكَانِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ قِيلَ: هَذِهِ مُقَدِّمَةٌ بَاطِلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ صِحَّتَهَا، وَالَّذِينَ ادَّعَوْا صِحَّتَهَا لَمْ يَقُولُوا بِبَاطِلِ قَوْلِكُمْ، فَلَمْ يَجْمَعْ أَحَدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ.
وَنَحْنُ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نَقُولُ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِمَنْ قَالَ هَذَا مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَرْجِيحَ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ تَامٍّ يُوجِبُ الْفِعْلَ، فَنَقُولُ لَهُمْ هَلَّا قُلْتُمْ بِأَنَّ الرَّبَّ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ مَعَ هَذَا فِعْلُهُ لَازِمٌ لَهُ.
قِيلَ لَكُمْ: هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفِعْلَ الْقَدِيمَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْفَاعِلَ غَيْرُ مُخْتَارٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ مُخْتَارًا.
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ فِعْلَ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ.
وَيَقُولُونَ: لَا يُعْقَلُ التَّرْجِيحُ إِلَّا مَعَ الْحُدُوثِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يُعْقَلُ تَرْجِيحُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ حَادِثًا، فَأَمَّا الْمُمْكِنُ الْمُجَرَّدُ بِدُونِ الْحُدُوثِ فَلَا يُعْقَلُ كَوْنُهُ مَفْعُولًا. بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُمْكِنِ مِمَّا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَدَلًا مِنْ عَدَمِهِ، وَعَدَمُهُ بَدَلًا مِنْ وُجُودِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، وَمَا وَجَبَ قِدَمُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا.
قَالُوا: وَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ حَتَّى أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ الْقُدَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا، وَكَذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ، وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ.
وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّ الْمُمْكِنَ يَكُونُ قَدِيمًا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا، وَأَمْثَالِهِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّازِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَلِهَذَا وَرُدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ، كَمَا أَوْرَدَ بَعْضَ ذَلِكَ الرَّازِيُّ فِي مُحَصِّلِهِ، وَمُحَقِّقُوهُمْ لَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُحْوِجَ إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُدُوثِ حَتَّى يَقُولُوا إِنَّ الْمُحْدِثَ فِي حَالِ بَقَائِهِ غَنِيٌّ عَنِ الْفَاعِلِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْفَاعِلِ فِي حَالِ حُدُوثِهِ وَحَالِ بَقَائِهِ، وَإِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَبْقَى إِلَّا بِالْمُؤَثِّرِ.
فَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ لَا يَقُولُونَ: إِنَّ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ غَنِيٌّ عَنِ اللَّهِ فِي حَالِ بَقَائِهِ، بَلْ يَقُولُونَ: مَتَى قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُحْتَاجًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَالْقِدَمُ عِنْدَهُمْ يُنَافِي الْحَاجَةَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَيُنَافِي كَوْنَهُ مَفْعُولًا فَالْحُدُوثُ عِنْدَهُمْ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَفْعُولًا فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولٌ قَدِيمًا، وَهَذَا لَيْسَ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْفَلَكِ مَفْعُولًا قَدِيمًا، فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ تَصَوَّرَ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ تَصَوَّرَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكُلُّ مَنْ تَصَوَّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مَصْنُوعٌ مَفْعُولٌ لِلَّهِ تَصَوَّرَ أَنَّهُ حَادِثٌ، فَأَمَّا تَصَوُّرُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ، فَهَذَا إِنَّمَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ تَقْدِيرًا لَهُ، كَمَا تَتَصَوَّرُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ تَقْدِيرًا لَهُ، وَالَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا فِي تَقْدِيرِ إِمْكَانِ ذَلِكَ، وَتَصْوِيرِهِ، كَمَا يَتْعَبُ سَائِرُ الْقَائِلِينَ بِأَقْوَالٍ مُمْتَنِعَةٍ، ثُمَّ مَعَ هَذَا فَالْفِطَرُ تَرُدُّ ذَلِكَ وَتَدْفَعُهُ، وَلَا تَقْبَلُهُ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ هَؤُلَاءِ الْعَالَمَ مُحْدَثًا، وَيَعْنُونَ بِكَوْنِهِ مُحْدَثًا.
أَنَّهُ مَعْلُولُ الْعِلَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ: هَلِ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ أَوْ قَدِيمٌ؟ يَقُولُ: هُوَ مُحْدَثٌ وَقَدِيمٌ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ لَمْ يَزَلْ، وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ يَعْنُونَ بِكَوْنِهِ مُحْدَثًا لَهُ أَنَّهُ مَعْلُولٌ عِلَّةً قَدِيمَةً.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يَقُولُهَا ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عِبَارَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُطْلِقُونَهَا عَلَى مَعَانِيهِمْ، كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْأُفُولِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ لَمَّا احْتَجُّوا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ عَلَى حُدُوثِ الْفَاعِلِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ، وَزَعَمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ احْتَجَّ بِهَذَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُفُولِ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ، وَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَحَرِّكِ وَالْمُنْتَقِلِ. نَقَلَ ابْنُ سِينَا هَذِهِ الْمَادَّةَ إِلَى أَصْلِهِ، وَذَكَرَ هَذَا فِي إِشَارَاتِهِ فَجَعَلَ هَذَا الْأُفُولَ عِبَارَةً عَنِ الْإِمْكَانِ، وَقَالَ: إِنَّ مَا هَوَى فِي حَظِيرَةِ الْإِمْكَانِ هَوَى فِي حَظِيرَةِ الْأُفُولِ، وَلَفْظُهُ: فَإِنَّ الْهَوَى فِي حَظِيرَةِ الْإِمْكَانِ أُفُولٌ مَا
يوم السبت 8 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون