بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الثالث عشر: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى
التَّقْدِيرِ الْآخَرِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ حُدُوثِهَا بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ،
وَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْإِرَادَةِ
عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِرَادَةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْمُرَادِ
مُسْتَلْزِمَةٍ لَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ إِرَادَةٌ يُقَارِنُهَا
مُرَادُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَامَّةً لِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، أَوْ كَانَتْ
خَاصَّةً بِبَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ، فَإِنَّ مُرَادَهَا هُوَ مَفْعُولُ الرَّبِّ،
وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ إِرَادَةُ أَنْ يَفْعَلَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ
الَّذِي يُرِيدُ الْفَاعِلُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا قَدِيمًا
أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَهَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ نُظَّارِ الْأُمَمِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَمَاهِيرِ الْفَلَاسِفَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ حَتَّى أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الشيء مَفْعُولًا مُمْكِنًا، وَهُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا.
وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ فَسَادَ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ حَتَّى الْمُنْتَصِرُونَ لِأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ كَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ، وَغَيْرِهِ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْمُمْكِنِ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا عَلَى إِخْوَانِهِمْ كَابْنِ سِينَا، وَبَيَّنُوا أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ،
وَكَلَامُ أَرِسْطُو بَيِّنٌ
فِي ذَلِكَ فِي مَقَالَةِ اللَّامِ الَّتِي هِيَ آخِرُ كَلَامِهِ فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ
الطَّبِيعَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَأَرِسْطُو وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ مَعَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمَفْعُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا، وَهُمْ إِذَا قَالُوا بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَلَا مَفْعُولَةٌ وَلَا مَخْلُوقَةٌ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا تَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى، فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى الَّتِي يُسَمِّيهَا ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حَرَكَتِهَا مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِ، فَهُوَ لَهَا مِنْ جِنْسِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ لَا أَنَّهُ عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ لَهَا عِنْدَ أَرِسْطُو وَذَوِيهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ كُفْرًا وَضَلَالًا وَمُخَالَفَةً لِمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَلِهَذَا عَدَلَ مُتَأَخِّرُو الْفَلَاسِفَةِ عَنْهُ، وَادَّعَوْا مُوجِبًا وَمُوجَبًا، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ سِينَا، وَأَمْثَالُهُ، وَأَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ قَبْلَ أَرِسْطُو لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحْدَثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ نِزَاعٍ مُنْتَشِرٍ لَهُمْ فِي الْمَادَّةِ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا فِيهِمْ مِنَ الضَّلَالِ لَمْ يَرْضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْمُمْكِنَ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْدَثًا، وَلَا رَضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَفْعُولَ الْمَصْنُوعَ الْمُبْدَعَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَلَا أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِي أَرَادَ الْبَارِيُّ فِعْلَهُ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَإِنَّ فَسَادَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ظَاهِرٌ فِي بَدَايِهِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا أَلْجَأَ إِلَيْهَا مَنْ قَالَهَا مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ مَا الْتَزَمُوهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ الَّتِي أَلْجَأَتْهُمْ إِلَيْهَا.
كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ أَلْجَأَتْهُمْ أُصُولٌ لَهُمْ فِيهَا إِلَى أَقْوَالٍ يُعْلَمُ
فَسَادُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِثْلُ إِرَادَةٍ أَوْ كَلَامٍ لَا فِي مَحَلٍّ،
وَمِثْلُ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِالْعَيْنِ يَكُونُ حَقَائِقَ مُتَنَوِّعَةً، وَمِثْلُ
أَمْرٍ سَبَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا يَكُونُ قَدِيمَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَزَلْ كُلُّ
شَيْءٍ مِنْهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَمَا يَذْكُرُهُ
الرَّازِيُّ، وَأَمْثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ إِجْمَاعِ
الْحُكَمَاءِ كَدَعْوَاهُ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى أن عِلَّةِ الِافْتِقَارِ هِيَ
الْإِمْكَانُ، وَأَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَعْلُولَ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا،
فَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ مَا وَجَدَهُ فِي كُتُبِ ابْنِ سِينَا، وَيُظَنُّ أَنَّ
هَذَا إِجْمَاعُ الْفَلَاسِفَةِ.
أكثر الفلاسفة يقولون إن
الفعل لا يكون إلا بعد عدم وَلَمَّا كَانَ كَوْنُ الْمَفْعُولِ لَا يُعْقَلُ
إِلَّا بَعْدَ الْعَدَمِ ظَاهِرًا كَانَ الْفَلَاسِفَةُ يَجْعَلُونَ مِنْ جُمْلَةِ
عِلَلِ الْفِعْلِ الْعَدَمَ، وَيَجْعَلُونَ الْعَدَمَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبَادِئِ،
وَعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ لِلْأَعْرَاضِ أَنْ
يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمَا بِالْفِعْلِ
وَالِانْفِعَالِ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ
الْبَارِئَ فَعَلَ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ لَزِمَ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَنْ
يَفْعَلَ، وَهُوَ الْفِعْلُ، فَيَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي سَمَّوْهَا
الْأَعْرَاضَ، وَلَزِمَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمٍ لَا
يَكُونُ مَعَ كَوْنِ الْمَفْعُولِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَقَالُوا: لِمَا كَانَ
مَا يُسَمُّونَهُ الْحَرَكَةَ أَوِ التَّغَيُّرَ، أَوِ الْفِعْلَ مُحْتَاجًا إِلَى
الْعَدَمِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ كَانَ الْعَدَمُ مَبْدَءًا
لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ
لَا يَكُونُ حَرَكَةٌ وَلَا فِعْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُسَمُّونَهُ
تَغَيُّرًا وَاسْتِكْمَالًا إِلَّا بِوُجُودٍ بَعْدَ عَدَمٍ، إِمَّا عَدَمُ مَا
كَانَ مَوْجُودًا وَإِمَّا عَدَمٌ مُسْتَمِرٌّ كَعَدَمِ الْمُسْتَكْمِلِ مَا كَانَ
مَعْدُومًا لَهُ ثُمَّ حَصَلَ، فَإِذَنْ هَذَا الْمُتَغَيِّرُ
وَالْمُسْتَكْمِلُ،مَا كَانَ مَعْدُومًا لَهُ، ثُمَّ حَصَلَ، فَإِذَنْ هَذَا
الْمُتَغَيِّرُ وَالْمُسْتَكْمِلُ، وَالْمُتَحَرِّكُ وَالْمَفْعُولُ مُحْتَاجٌ
إِلَى الْعَدَمِ، وَالْعَدَمُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَصَارَ الْعَدَمُ
مَبْدَءًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا كَانَ الْفِعْلُ،
وَالِانْفِعَالُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَالَمِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَحْدُثُ مِنْ
تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرِ الْفِعْلِ، لَا يُعْقَلُ فِعْلٌ وَلَا
انْفِعَالٌ بِدُونِ حُدُوثِ شَيْءٍ بَعْدَ عَدَمٍ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الشُّذُوذُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْعَدَمِ قَدْ ذَكَرُوا لَهُمْ حُجَجًا ذَكَرَهَا ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَاسْتَقْصَاهَا الرَّازِيُّ فِي مَبَاحِثِهِ الْمَشْرِقِيَّةِ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا سَمَّاهُ عَشَرَةَ بَرَاهِينَ، وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ .
قَالَ:الْأَوَّلُ: الْمُحْتَاجُ إِلَى الْعَدَمِ السَّابِقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ وُجُودَ الْفِعْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ تَأْثِيرَ الْفَاعِلِ فِيهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَمِ السَّابِقِ هُوَ وُجُودَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَوِ افْتَقَرَ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْعَدَمِ لَكَانَ ذَلِكَ الْعَدَمُ مُقَارِنًا لَهُ، وَالْعَدَمُ الْمُقَارِنُ مُنَافٍ لِذَلِكَ الْوُجُودِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتَقَرُ إِلَيْهِ تَأْثِيرَ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْفَاعِلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْأَثَرِ، وَوُجُودُ الْأَثَرِ يُنَافِي عَدَمَهُ، وَالْمُنَافِي لِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا، وَالْمُنَافِي لَا يَكُونُ شَرْطًا، فَإِذَنْ لَا الْفِعْلُ فِي كَوْنِهِ مَوْجُودًا وَلَا حَاصِلًا. وَلَا الْفَاعِلُ فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَمِ الْمُنَافِي»
فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ:
إِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْمَفْعُولِ أَوْ فِعْلِ الْفَاعِلِ
مُفْتَقِرًا إِلَى الْعَدَمِ أَنَّ الْعَدَمَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ حَتَّى يَجِبَ أَنْ
يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ
الْعَدَمِ، كَمَا قَالُوا هُمْ: إِنَّ الْعَدَمَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبَادِئِ
سَوَاءٌ جَعَلُوهُ مَبْدَءًا لِمُطْلَقِ الْفِعْلِ أَوِ الْحَرَكَةِ، أَوِ
الْحَرَكَةِ وَالتَّغَيُّرِ وَالِاسْتِكْمَالِ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا
ذَلِكَ مُفْتَقِرًا إِلَى الْعَدَمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ
عَدَمِ شَيْءٍ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَدَمَ مُقَارِنٌ لَهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا
قِيلَ: إِنَّ الْحَرَكَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَوِ
الصَّوْتَ كَانَ الْحَادِثُ مِنْ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ مَا قَبْلَهُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لَهُ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا
قِيلَ: إِنَّ الْحَرَكَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ - أَوِ
الصَّوْتَ - كَانَ الْحَادِثُ مِنْ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ مَا قَبْلَهُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لَهُ.
وَأَيْضًا، فَالشَّيْءُ
الْمَعْدُومُ إِذَا عُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ كَانَ هَذَا الْعَدَمُ الْحَادِثُ
مُفْتَقِرًا إِلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ السَّابِقِ، وَلَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لَهُ.
وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ فَإِنَّمَا
يَحْدُثُ بَعْدَ عَدَمِهِ، فَحُدُوثُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى عَدَمِهِ السَّابِقِ
لِوُجُودِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ لَيْسَ مُقَارِنًا لَهُ، فَإِنْ طَرَدُوا
حُجَّتَهُمْ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَحْدُثَ حَادِثٌ، وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ، وَهَذَا
شَأْنُهُمْ فِي عَامَّةِ حُجَجِهِمُ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي قِدَمِ
الْعَالَمِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَحُدُوثُ الْحَوَادِثِ
فِي الْعَالَمِ مَشْهُودٌ، فَكَانَتْ حُجَجُهُمْ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ
جِنْسِ شُبَهِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ،
وَهَذَا كَحُجَّتِهِمْ
الْعُظْمَى الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي
الْأَزَلِ، وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ، فَإِنَّ
مُقْتَضَاهَا أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ، وَهُمْ ضَلُّوا حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ مُطْلَقِ الْمُؤَثِّرِ، وَبَيْنَ الْمُؤَثِّرِ فِي كُلِّ مُمْكِنٍ.
فَإِذَا قَالُوا: كَوْنُهُ مُؤَثِّرًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوْ لِأَمْرٍ لَازِمٍ لَهَا، أَوْ لِأَمْرٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا، وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُنْفَصِلَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ آثَارِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِيهِ لِامْتِنَاعِ الدَّوْرِ فِي الْعِلَلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي يَلْزَمُ دَوَامُ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا.
قِيلَ لَهُمْ: كَوْنُهُ
مُؤَثِّرًا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُودِ كُلِّ مَا صَدَرَ عَنْهُ،
وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْعَالَمِ،
وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْجُمْلَةِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
مُؤَثِّرًا فِي شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ.
وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي
مُمْتَنِعَانِ فِي الْأَزَلِ لَا سِيَّمَا الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُهُ
عَاقِلٌ، وَالْحُجَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي
الْأَزَلِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَزَلِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ
فَيُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ لَا يُوَافِقُهُ، بَلْ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ مَا
سِوَاهُ، فَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَالْحَوَادِثُ
مَشْهُودَةٌ، بَلِ التَّأْثِيرُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا مَعَ الْإِحْدَاثِ كَانَ
الْإِحْدَاثُ الثَّانِي مَشْرُوطًا بِسَبْقِ الْأَوَّلِ وَبِانْقِضَائِهِ أَيْضًا،
وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
فَلَا يَكُونُ فِي
الْحُجَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَلَا عَلَى مَا يُنَاقِضُ مَا
أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ،
وَالْقَدَرِيَّةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ.
وَكَذَلِكَ مَا يَحْتَجُّونَ
بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِحْدَاثِ وَالتَّأْثِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ
الشُّبَهِ الْمُقْتَضِيَةِ نَفْيَ التَّأْثِيرِ وَنَفْيَ تَرْجِيحِ وُجُودِ
الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ، وَنَفْيَ كَوْنِهِ فَاعِلًا لِحِكْمَةٍ، أَوْ لَا لِحِكْمَةٍ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا
تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ، وَهَذَا خِلَافُ
الْمُشَاهَدَةِ، وَكُلُّ حُجَّةٍ تَقْتَضِي خِلَافَ الْمَشْهُودِ فَهِيَ مِنْ
جِنْسِ حُجَجِ السَّفْسَطَةِ وَهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَدَمَ
مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ أَرِسْطُو قَالَ أَرِسْطُو فِي
مَقَالَةِ اللَّامِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ، وَهِيَ عِلْمُ مَا
بَعْدَ الطَّبِيعَةِ: وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاسَبَةِ، فَأَخْلَقُ بِنَا
إِنْ نَحْنُ اتَّبَعْنَا مَا وَصَفْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مَبَادِئَ جَمِيعِ
الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ ثَلَاثَةٌ: الْعُنْصُرُ، وَالصُّورَةُ، وَالْعَدَمُ،
مِثَالُ ذَلِكَ فِي الْجَوْهَرِ الْمَحْسُوسِ أَنَّ الْحَرَّ نَظِيرُ الصُّورَةِ وَالْبَرْدَ
نَظِيرُ الْعَدَمِ وَالْعُنْصُرَ هُوَ الَّذِي لَهُ هَذَانِ بِالْقُوَّةِ، وَفِي
بَابِ الْكَيْفِ يَكُونُ الْبَيَاضُ نَظِيرَ الصُّورَةِ وَالسَّوَادُ نَظِيرَ
الْعَدَمِ، وَالشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ لَهُمَا هُوَ السَّطْحَ فِي قِيَاسِ
الْعُنْصُرِ، وَيَكُونُ الضَّوْءُ نَظِيرَ الصُّورَةِ، وَالظُّلْمَةُ نَظِيرَ
الْعَدَمِ، وَالْجِسْمُ الْقَابِلُ لِلضَّوْءِ هُوَ الْمَوْضُوعَ لَهُمَا،
فَلَيْسَ يُمْكِنُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْ تَجِدَ عَنَاصِرَ هِيَ بِأَعْيَانِهَا
عَنَاصِرَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاسَبَةِ
وَالْمُقَايَسَةِ فَأَخْلَقُ بِهَا أَنْ تُوجَدَ قَالَ: وَلَيْسَ طَلَبُنَا الْآنَ
طَلَبَ عُنْصُرِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ لَكِنَّ قَصْدَنَا إِنَّمَا هُوَ
طَلَبُ مَبْدَئِهَا، وَكِلَاهُمَا سَبَبٌ لَهَا إِلَّا أَنَّ الْمَبْدَأَ قَدْ يَجُوزُ
أَنْ يُوجَدَ خَارِجًا عَنِ الشَّيْءِ مِثْلَ السَّبَبِ الْمُحَرِّكِ، وَأَمَّا
الْعَنَاصِرُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ
مِنْهَا، وَمَا كَانَ عُنْصُرًا، فَلَيْسَ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُقَالَ
لَهُ مَبْدَأٌ، وَمَا كَانَ مَبْدَءًا، فَلَيْسَ لَهُ عُنْصُرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَبْدَأَ الْمُحَرِّكَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنِ الْمُحَرِّكِ، وَلَكِنَّ الْمُحَرِّكَ الْقَرِيبَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الطَّبِيعِيَّةِ هُوَ مِثْلُ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَلِدُهُ إِنْسَانٌ، وَأَمَّا فِي الْأَشْيَاءِ الْوَهْمِيَّةِ، فَالصُّورَةُ أَوِ الْعَدَمُ، مِثَالُ ذَلِكَ الطِّبُّ وَالْجَهْلُ بِهِ، وَالْبِنَاءُ وَالْجَهْلُ بِهِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَكُونُ السَّبَبُ الْمُحَرِّكُ هُوَ الصُّورَةَ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطِّبَّ مِنْ وَجْهٍ مَا هُوَ الصِّحَّةُ لِأَنَّهَا الْمُحَرِّكَةُ، وَصُورَةَ الْبَيْتِ مِنْ وَجْهٍ مَا هِيَ الْبِنَاءُ، وَالْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَلِدُهُ إِنْسَانٌ .
وَلَيْسَ قَصْدُنَا لِطَلَبِ الْمُحَرِّكِ الْقَرِيبِ لَكِنَّ قَصْدَنَا لِلْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ الَّذِي مِنْهُ يَتَحَرَّكُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ بَيِّنٌ أَنَّهُ جَوْهَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَبْدَأُ الْجَوَاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأُ الْجَوَاهِرِ إِلَّا جَوْهَرًا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْجَوَاهِرِ، وَمَبْدَأُ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّهَيُّبُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ صَوَابًا، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ أَحْدَاثٌ وَحَالَاتٌ لِلْجَوْهَرِ، وَحَرَكَاتٌ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَبْحَثَ عَنْ هَذَا الْجَوْهَرِ الَّذِي يُحَرِّكُ الْجِسْمَ كُلَّهُ مَا هُوَ هَلْ يَجِبُ أَنْ نَضَعَ أَنَّهُ نَفْسٌ، أَوْ أَنَّهُ عَقْلٌ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُهُمَا بَعْدَ أَنْ نُحَذِّرَ وَنَتَوَقَّى أَنْ نَحْكُمَ عَلَى الْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَلْزَمُ الْأَوَاخِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي أَوَاخِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ مَا هُوَ بِالْقُوَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ دَائِمًا عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي تَقْبَلُ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ بِهَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ الشَّيْءَ فِيهَا بِعَيْنِهِ مَرَّةً بِالْقُوَّةِ، وَمَرَّةً بِالْفِعْلِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ
الْخَمْرَ تُوجَدُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ تُغْلَى وَتُسْكِرُ، وَقَدْ تَكُونُ
مَوْجُودَةً بِالْقُوَّةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ إِذْ كَانَتِ الرُّطُوبَةُ الَّتِي
فِيهَا تَتَوَلَّدُ إِنَّمَا هِيَ فِي نَفْسِ الْكَرْمِ وَاللَّحْمِ، وَرُبَّمَا
كَانَ بِالْفِعْلِ، وَرُبَّمَا كَانَ بِالْقُوَّةِ فِي الْعَنَاصِرِ الَّتِي
عَنْهَا تَتَوَلَّدُ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْقُوَّةِ، أَوْ بِالْفِعْلِ، فَلَيْسَ
نَعْنِي شَيْئًا غَيْرَ الصُّورَةِ وَالْعُنْصُرِ، وَنَعْنِي بِالصُّورَةِ الَّتِي
يُمْكِنُ أَنْ تَنْفَرِدَ مِنَ الْمُرَكَّبِ مِنَ الصُّورَةِ وَالْعُنْصُرِ،
فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَمِثْلُ الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةِ إِذْ كَانَ يُمْكِنُ
فِيهَا أَنْ تَنْفَرِدَ عَنِ الْهَوَاءِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا فَمِثْلُ
الْبَدَنِ الصَّحِيحِ، وَالْبَدَنِ السَّقِيمِ، وَأَعْنِي بِالْعُنْصُرِ الشَّيْءَ
الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يَحْتَمِلَ الْحَالَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا مِثْلَ
الْبَدَنِ، فَرُبَّمَا كَانَ صَحِيحًا، وَرُبَّمَا كَانَ سَقِيمًا، فَهَذَا
الشَّيْءُ الَّذِي بِالْفِعْلِ، وَالَّذِي بِالْقُوَّةِ قَدْ يَخْتَلِفُ لَا فِي
الْعَنَاصِرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا أَعْنِي
مِنَ الصُّورَةِ وَالْعُنْصُرِ لَكِنْ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ
الْأَشْيَاءِ الْمُرَكَّبَةِ أَيْضًا الَّتِي لَمْ يَكُنْ عُنْصُرُهَا عُنْصُرَ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ عَنْهَا وَلَا صُورَتُهَا صُورَتَهَا لَكِنْ
غَيْرَهَا.
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا فِي وَهْمِكَ إِذَا قَصَدْتَ الْبَحْثَ عَنِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ الْعِلَلِ الْمُحَرِّكَةِ مُوَافِقَةٌ فِي الصُّورَةِ لِلشَّيْءِ الْمُتَحَرِّكِ قَرِيبَةٌ مِنْهُ، وَبَعْضَهَا أَبْعَدُ مِنْهُ، وأَمَّا الْعِلَّةُ الْقَرِيبَةُ فَمِثْلُ الْأَبِ، وَأَمَّا الشَّمْسُ، فَهِيَ عِلَّةٌ أَبْعَدُ، وَأَبْعَدُ مِنَ الشَّمْسِ الْفَلَكُ الْمَائِلُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ عِلَلًا عَلَى طَرِيقِ عُنْصُرِ الشَّيْءِ الْحَادِثِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ صُورَةٍ، وَلَا عَلَى طَرِيقِ عَدَمٍ لَكِنَّهَا إِنَّمَا هِيَ مُحَرَّكَةٌ، وَهِيَ مُحَرَّكَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ فِي الصُّورَةِ قَرِيبَةٌ مِثْلَ الْأَبِ لَكِنَّهَا أَبْعَدُ، وَأَقْوَى فِعْلًا إِذْ كَانَتْ هِيَ ابْتِدَاءَ الْعِلَلِ الْقَرِيبَةِ أَيْضًا».
وَذَكَرَ كَلَامًا آخَرَ
لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيَّ: الْبُرْهَانُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي الْأَزَلِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ مُمْتَنِعًا، ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا، وَلَكَانَ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ قَدِ انْقَلَبَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، وَهَذَا يَرْفَعُ الْأَمَانَ عَنِ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيمَا لَا يَزَالُ، فَإِنْ كَانَ إِمْكَانُهُ لِذَاتِهِ، أَوْ لِعِلَّةٍ دَائِمَةٍ لَزِمَ دَوَامُ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِمْكَانِ حُدُوثِ تِلْكَ الْعِلَّةِ كَالْكَلَامِ فِي إِمْكَانِ حُدُوثِ غَيْرِهَا، فَيَلْزَمُ دَوَامُ إِمْكَانِ الْفِعْلِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ امْتِنَاعَ الْفِعْلِ إِنْ كَانَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِسَبَبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ لَزِمَ دَوَامُ الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ لِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ غَيْرِ وَاجِبٍ امْتَنَعَ كَوْنُهُ قَدِيمًا، فَإِنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَكَوْنُهُ مُمْتَنِعًا فِي الْأَزَلِ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى امْتِنَاعِ حُصُولِ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْأَزَلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤَثِّرُ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ، ثُمَّ صَارَ يُمْكِنُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي امْتِنَاعِ التَّأْثِيرِ وَإِمْكَانِهِ كَالْقَوْلِ فِي امْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَثَرِ وَإِمْكَانِهِ
قَالَ: فَثَبَتَ أَنَّ
اسْتِنَادَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْعَدَمَ
عَلَيْهَا.
قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَادِثُ إِذَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، فَهُوَ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ إِمْكَانَهُ يَتَخَصَّصُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَإِذَنْ إِمْكَانُهُ ثَابِتٌ دَائِمًا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِ إِمْكَانِهِ خُرُوجُهُ عَنِ الْحُدُوثِ، لِأَنَّا لَمَّا أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَانَتْ مَسْبُوقِيَّتِهِ بِالْعَدَمِ جُزْءًا ذَاتِيًّا لَهُ، وَالْجُزْءُ الذَّاتِيُّ لَا يُرْفَعُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِمْكَانِ حُدُوثِ الْحَادِثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَادِثٌ خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حَادِثًا، فَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ.
قَالَ: فَهَذَا شَكٌّ لَا بُدَّ مِنْ حَلِّهِ .
قُلْتُ: فَيُقَالُ: هَذَا الشَّكُّ هُوَ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ كَالْأَرْبَعِينَ، وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهَا اعْتَمَدَ الْآمِدِيُّ فِي دَقَائِقِ الْحَقَائِقِ، وَغَيْرِهِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَوَابٌ عَنْ حُجَّتِهِمْ، بَلْ هِيَ مُعَارَضَةٌ مَحْضَةٌ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ الْحَادِثُ إِذَا اعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَادِثٌ أَتَعْنِي بِهِ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَهَا أَوَّلٌ، فَإِذَا اعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ إِمْكَانُهَا، فَلَا أَوَّلَ لَهُ، أَمْ تَعْنِي بِهِ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ تَعْتَبِرُهُ إِذَا اعْتُبِرَ إِمْكَانُهُ؟
فَإِنْ عَنَيْتَ الْأَوَّلَ
قِيلَ لَكَ : لَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّكَ قَدَّمْتَ
أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ حَادِثٍ مِنْ أَوَّلٍ وَجُمْلَةَ الْحَوَادِثِ
مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْفَاعِلُ أَحْدَثَ شَيْئًا ثُمَّ
أُحْدِثَ، وَقَدَّرْتَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَهُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا،
وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَأَنْتَ إِنَّمَا
مَنَعْتَ دَوَامَ كَوْنِهِ مُحْدَثًا فِي الْأَزَلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا
أَوَّلَ لَهَا، وَمَعَ امْتِنَاعِ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْدَاثُ
لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا، فَقَدْ قَدَّرْتَ إِمْكَانَ دَوَامِ الْحُدُوثِ مَعَ امْتِنَاعِ
دَوَامِهِ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ لِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ.
وَأَمَّا إِنْ عَنَيْتَ بِمَا تُقَدِّرُهُ حُدُوثَ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِمْكَانَهُ أَزَلِيٌّ، بَلْ حُدُوثُ كُلِّ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ تُنَافِي أَزَلِيَّتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، فَإِنَّ حُدُوثَ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَادَّةٍ يَمْتَنِعُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَادَّةِ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي إِمْكَانَ قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمْكَانُ قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَالَ الرَّازِيُّ: الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ: الْحَوَادِثُ إِذَا وُجِدَتْ وَاسْتَمَرَّتْ، فَهِيَ فِي حَالِ اسْتِمْرَارِهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ فِي حَالِ بَقَائِهَا، كَمَا كَانَتْ مُمْكِنَةً فِي حَالِ حُدُوثِهَا، وَالْمُمْكِنُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ .
فَيُقَالُ: هَذِهِ
الْحُجَّةُ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ الْمُحْدَثَةِ تَحْتَاجُ
حَالَ بَقَائِهَا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا كَمَا سَلَّمَهُ
جُمْهُورُ النُّظَّارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي
ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِيِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ لَكِنَّ هَذَا
لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ يَعْدَمَ يُمْكِنُ
مُقَارَنَتُهُ لِلْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا إِلَّا إِذَا بُيِّنَ إِمْكَانُ
كَوْنِهِ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مَعَ إِمْكَانِ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَهَذَا
مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَيْفَ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يُعْقَلُ
مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ إِلَّا مَا يَكُونُ حَادِثًا،
وَأَمَّا الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا
يُعْقَلُ فِيهِ أَنْ يُمْكِنَ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ، فَإِنَّ عَدَمَهُ
مُمْتَنِعٌ.
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ، قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ
مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً فِي الْخَارِجِ غَيْرَ وُجُودِهِ الثَّابِتِ
فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا بَاطِلٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَمَعَ وُجُوبِ مُوجِبِهِ الْأَزَلِيِّ يَكُونُ وَاجِبًا أَزَلًا وَأَبَدًا، فَيَمْتَنِعُ الْعَدَمُ، كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ، وَلَا أَنْ لَهُ فَاعِلًا يَفْعَلُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْقَدِيمِ تَعَالَى.
قَالَ الرَّازِيُّ: الْبُرْهَانُ الرَّابِعُ: أَنَّ افْتِقَارَ الْأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ إِمَّا لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَقَهُ عَدَمٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ السَّابِقُ هُوَ الْمُقْتَضِي، فَإِنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْوُجُودِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلْوُجُودِ بَعْدَ حُصُولِهِ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى نَعْتِ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْعَدَمِ كَيْفِيَّةٌ لَازِمَةٌ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ إِلَّا كَذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ غَنِيٌّ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، فَإِذَنِ الْمُفْتَقَرُ هُوَ الْوُجُودُ، وَالْوُجُودُ عَارِضٌ لِلْمَاهِيَّةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي افْتِقَارِهِ إِلَى الْفَاعِلِ تَقَدُّمُ الْعَدَمِ.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
قَوْلُهُ: افْتِقَارُهُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذَا أَوْ
لِكَذَا، إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِثْبَاتَ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَ
مُفْتَقِرًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ إِثْبَاتَ دَلِيلٍ
يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُفْتَقِرًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّ مَا يُقْرَنُ
بِحَرْفِ اللَّامِ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيلِ قَدْ يَكُونُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ
فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ
وَثُبُوتِهِ فِي الذِّهْنِ، وَهَذَا يُسَمَّى دَلِيلًا وَبُرْهَانًا وَقِيَاسَ
الدَّلَالَةِ وَبُرْهَانَ الدَّلَالَةِ، وَالْأَوَّلُ إِذَا اسْتُدِلَّ بِهِ
سُمِّيَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ، وَبُرْهَانَ الْعِلَّةِ، وَبُرْهَانَ لِمَ لِأَنَّهُ
يُفِيدُ عِلَّةَ الْأَثَرِ فِي الْخَارِجِ، وَفِي الذِّهْنِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ:
الِافْتِقَارُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْحُدُوثِ أَوِ
الْإِمْكَانِ، أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا، وَمَا يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي ذَلِكَ، فَحَقِيقَتُهُ أَنْ
يُقَالَ: أَتُرِيدُونَ الْبَحْثَ عَنْ نَفْسِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ لِهَذَا الِافْتِقَارِ أَمِ الْبَحْثِ عَنِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى
هَذَا الِافْتِقَارِ؟
فَإِنْ أَرَدْتُمُ
الْأَوَّلَ قِيلَ لَكُمْ: هَذَا فَرْعُ ثُبُوتِ كَوْنِ افْتِقَارِ الْمَفْعُولِ
إِلَى الْفَاعِلِ إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَلَمْ تُثْبِتُوا ذَلِكَ،
بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ
لِذَاتِهِ، وَحَقِيقَتُهُ لَا لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ كَوْنَ ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ
مُفْتَقِرَةً إِلَى اللَّهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ
حُكْمٍ وَصِفَةٍ تُوصَفُ بِهَا الذَّوَاتُ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً لِعِلَّةٍ، فَإِنَّ
هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ الْمُمْتَنِعَ،فَإِنَّ افْتِقَارَ كُلِّ مَا
سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ هُوَ حُكْمٌ وَصِفَةٌ ثَبَتَ لِمَا سِوَاهُ، فَكُلُّ
مَا سِوَاهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ مُحْدَثًا أَوْ مُمْكِنًا أَوْ مَخْلُوقًا أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ هُوَ مُفْتَقِرٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِغْنَاؤُهُ
عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، بَلْ كَمَا
أَنَّ غِنَى الرَّبِّ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَفَقْرُ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ
لَوَازِمِ ذَاتِهَا، وَهِيَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ
مَوْجُودَةً، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَكُلُّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ
سِوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ دَائِمًا حَالَ حُدُوثِهِ وَحَالَ
بَقَائِهِ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِعِلَّةِ الِافْتِقَارِ إِلَى الْفَاعِلِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ: كَوْنُ الشَّيْءِ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى مُحْدِثٍ يُحْدِثُهُ، وَكَوْنُهُ مُمْكِنًا لَا يَتَرَجَّح وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ تَامٍّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى وَاجِبٍ يُبْدِعُهُ، وَكَوْنُهُ مُمْكِنًا مُحْدَثًا دَلِيلَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ: مِثْلُ كَوْنِهِ مُحْدَثًا، وَكَوْنِهِ فَقِيرًا، وَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا وَنَحْوِ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى خَالِقِهِ، فَأَدِلَّةُ احْتِيَاجِهِ إِلَى خَالِقِهِ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ لَا لِسَبَبٍ آخَرَ.
وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وُجُودُهُ دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى خَالِقِهِ، وَعَدَمُهُ السَّابِقُ دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى الْخَالِقِ، وَكَوْنُهُ مَوْجُودًا بِعَدَمِ الْعَدَمِ دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى الْخَالِقِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: الْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَصْلًا وَذَلِكَ أَنَا إِذَا جَعَلْنَا عَدَمَهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْعَدَمِ إِلَّا بِفَاعِلٍ لَمْ يَجْعَلْ عَدَمَهُ هُوَ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، بَلْ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ إِلَّا فِي وُجُودِهِ، وَأَمَّا عَدَمُهُ الْمُسْتَمِرُّ فَلَا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ كَابْنِ سِينَا، وَمَنْ تَبِعَهُ كَالرَّازِيِّ، فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، فَيَقُولُونَ: لَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، كَمَا يَقُولُونَ: لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ قَالُوا: مُرَجِّحُ الْعَدَمِ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ، فَعِلَّةُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا عَدَمُ عِلَّةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَأَمَّا نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ، فَيُنْكِرُونَ هَذَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُ أُولَئِكَ: عِلَّةُ عَدَمِهِ عَدَمُ عِلَّتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنَّ عَدَمَ عِلَّتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ أَمْ تُرِيدُونَ أَنَّ عَدَمَ عِلَّتِهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ؟ .
أَمَّا الْأَوَّلُ
فَصَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ قَوْلَكُمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ عَدَمَهُ الْمُسْتَمِرَّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَّةٍ إِلَّا كَمَا يَحْتَاجُ عَدَمُ الْعِلَّةِ إِلَى عِلَّةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: عَدِمَ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ قِيلَ: وَذَلِكَ الْعَدَمُ أَيْضًا لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّسَلْسُلَ فِي الْعِلَلِ، وَالْمَعْلُولَاتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ بَعْضِ تَنَاقُضِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ
يوم
الثلاثاء 11 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون