بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الرابع عشر: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلْوُجُودِ بَعْدَ
حُصُولِهِ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا عِلَّةَ لَهُ
فَيُقَالُ: هَذَا لَيْسَ
بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لَهُ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ مَعْنَاهَا أَنَّهُ
كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ
لَهُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَأَيْضًا
فَأَنْتَ قَدَّرْتَ هَذَا عِلَّةَ افْتِقَارِهِ لَمْ تُقَدِّرْهُ مَعْلُولَ
افْتِقَارِهِ، فَكَوْنُهُ غَنِيًّا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِلَّةً، وَإِنَّمَا
يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَعْلُولًا.
وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ افْتِقَارِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ عِلَّةً
لِلْمُتَقَدِّمِ.
قِيلَ: هَذَا ذَكَرْتُهُ فِي
مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا هَاهُنَا، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الِافْتِقَارِ
لَا مُوجِبٌ لَهُ. وَالدَّلِيلُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ
بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ
الْحُدُوثُ دَلِيلًا عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ
يَكُونَ كُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْمُؤَثِّرِ حَادِثًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ
طَرْدُهُ، وَلَا يَجِبُ عَكْسُهُ.
قِيلَ: نَعَمْ، انْتِفَاءُ
الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي الدَّلَالَةَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ
مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُ افْتِقَارِهِ إِلَى الْفَاعِلِ كَوْنُهُ مُحْدَثًا،
وَالشَّرْطُ يُقَارِنُ الْمَشْرُوطَ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيَّنُ بِهِ
الِاقْتِرَانُ فَيُقَالُ: عِلَّةُ الِافْتِقَارِ بِمَعْنَى شَرْطِ افْتِقَارِهِ
كَوْنُهُ مُحْدَثًا أَوْ مُمْكِنًا أَوْ مَجْمُوعَهُمَا، وَالْجَمِيعُ حَقٌّ،
وَمِثْلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِي لِافْتِقَارِهِ
إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ حُدُوثُهُ أَيْ كَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، فَإِنَّ كُلَّ
مَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ هُوَ ثَابِتٌ حَالَ افْتِقَارِهِ إِلَى
الْفَاعِلِ، فَإِنَّ افْتِقَارَهُ إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ حَالُ حُدُوثِهِ،
وَتِلْكَ الْحَالُ هُوَ فِيهَا مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ
مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَانَ كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا
الْمَعْنَى يُوجِبُ افْتِقَارَهُ إِلَى الْفَاعِلِ.
الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ
والرد عليه قَالَ الرَّازِيُّ : الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ
يَتَوَقَّفَ جِهَةُ افْتِقَارِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، أَوْ جِهَةُ
تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرَاتِ فِيهَا عَلَى الْحُدُوثِ، أَوْ لَا تَتَوَقَّفَ،
وَالْأَوَّلُ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي بَابِ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ فَثَبَتَ أَنَّ
الْحُدُوثَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي جِهَةِ الِافْتِقَارِ
فَيُقَالُ: مَا ذَكَرْتَهُ
فِي ذَلِكَ قَدْ بُيِّنَ إِبْطَالُهُ أَيْضًا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى
الْفَاعِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا، وَأَمَّا الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ،
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا. وَالَّذِي ذَكَرْتَهُ فِي كِتَابِ
الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فِي الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ هُوَ الَّذِي جَرَتْ
عَادَتُكَ بِذِكْرِهِ فِي الْمُحَصِّلِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُدُوثَ
عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْوُجُودِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، وَبِالْغَيْرِ، فَهُوَ
صِفَةٌ لِلْوُجُودِ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ
تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ، الْمُتَأَخِّرُ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ
الْمُتَأَخِّرُ عَنْ عِلَّةِ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ الْحُدُوثُ عِلَّةَ
الْحَاجَةِ إِلَى الْحُدُوثِ، أَوْ شَرْطَهَا لَزِمَ تَأَخُّرُ الشَّيْءِ عَنْ
نَفْسِهِ بِأَرْبَعِ مَرَاتِبَ.
جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا
لَيْسَ صِفَةً وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِهِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِهِ،
بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ
إِلَى الْمُؤَثِّرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ،
وَالتَّأَخُّرَاتُ الْمَذْكُورَاتُ هُنَا اعْتِبَارَاتٌ عَقْلِيَّةٌ لَيْسَتْ
تَأَخُّرَاتٍ زَمَانِيَّةً، وَالْعِلَّةُ هُنَا الْمُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى
الْمَلْزُومُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا فَاعِلٌ مُتَقَدِّمٌ
عَلَى مَفْعُولِهِ بِالزَّمَانِ.
وَاللَّازِمُ وَالْمَلْزُومُ
قَدْ يَكُونُ زَمَانُهُمَا جَمِيعًا، كَمَا يَقُولُونَ: الصِّفَةُ تَفْتَقِرُ
إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْعَرَضُ إِلَى الْجَوْهَرِ، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ
مَعًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا افْتَقَرَ الْعَرَضُ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِكَوْنِهِ
مَعْنًى قَائِمًا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُقَارِنٌ لِافْتِقَارِهِ إِلَى
الْمَوْصُوفِ.
الْبُرْهَانُ السَّادِسُ
والرد عليه
قَالَ الرَّازِيُّ:
الْبُرْهَانُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُمْكِنَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَعَدَمُهُ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ أَوْ لَا لِأَمْرٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لَا لِأَمْرٍ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ، وَكُلُّ مَا هُوُيَّتُهُ
كَافِيَةٌ فِي عَدَمِهِ، فَهُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، فَإِذَنِ الْمُمْكِنُ
الْعَدَمِ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، هَذَا خُلْفٌ، فَتَبَيَّنَ أَنْ يَكُونَ
لِأَمْرٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي
تَأْثِيرِهِ فِيهِ تَجَدُّدُهُ أَوْ لَا يُشْتَرَطَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُشْتَرَطَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مَفْرُوضٌ فِي الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى وُجُودِهِ،
وَالْعَدَمُ الْمُتَجَدِّدُ هُوَ الْعَدَمُ بَعْدَ الْوُجُودِ، فَإِذَنْ لَا
يُشْتَرَطُ فِي اسْتِنَادِ عَدَمِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى مَا يَقْتَضِي عَدَمُهَا
تَجَدُّدُهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ الْمُمْكِنُ مُسْتَنِدًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ
مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّجَدُّدِ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ وَالِافْتِقَارَ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَيُقَالُ: مِنَ
الْعَجَائِبِ، بَلْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُ هَذَا
الْهَذَيَانِ بُرْهَانًا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ
لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، بَلِ الْحَوَادِثُ تَحْدُثُ بِلَا خَالِقٍ، وَفِي
إِبْطَالِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ لَكِنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ الْبَاطِلَةَ وَأَمْثَالَهَا لَمَّا
صَارَتْ تَصُدُّ كَثِيرًا مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَعُقَلَائِهِمْ
وَعُلَمَائِهِمْ عَنِ الْحَقِّ الْمَحْضِ الْمُوَافِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ
وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، بَلْ تُخْرِجُ أَصْحَابَهَا عَنِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ
كَخُرُوجِ الشَّعَرَةِ مِنَ الْعَجِينِ إِمَّا بِالْجَحْدِ وَالتَّكْذِيبِ
وَإِمَّا بِالشَّكِّ وَالرَّيْبِ احْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ بُطْلَانِهَا
لِلْحَاجَةِ إِلَى مُجَاهَدَةِ أَهْلِهَا، وَبَيَانِ فَسَادِهَا مِنْ
أَصْلِهَاإِذْ كَانَ فِيهَا مِنَ الضَّرَرِ بِالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ مَا لَا يُحِيطُ
بِهِ إِلَّا الرَّحْمَنُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ:
قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُكُمْ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ إِنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ
مَحْضٌ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَصْلًا. وَجَعَلْتُمْ هَذَا
مُقَدِّمَةً فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَكَيْفَ تَقُولُونَ بَعْدَ
هَذَا بِأَسْطُرٍ الْمَعْدُومُ الْمُمْكِنُ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إِلَّا
لِمُوجِبٍ؟
وَقَدَّمْنَا أَنَّ
جَمَاهِيرَ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَدَمَ لَا
يَفْتَقِرُ إِلَى عِلَّةٍ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ النُّظَّارِ جَعَلَ عَدَمَ
الْمُمْكِنِ مُفْتَقِرًا إِلَى عِلَّةٍ إِلَّا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الْقَلِيلَةَ
مِنْ مُتَأَخِّرِيِ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَإِلَّا
فَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ لَا أَرِسْطُو وَلَا أَصْحَابِهِ
كَبَرْقِلِسَ، وَالْإِسْكَنْدَرِ الْأَفْرُودِيسِيِّ شَارِحِ كُتُبِهِ،
وَثَامَسْيُطُوسَ، وَلَا غَيْرِهِمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا هُوَ قَوْلُ
أَحَدٍ مِنَ النُّظَّارِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ لَا
الْمُتَكَلِّمَةِ، وَلَا الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَلَا غَيْرِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ
يُقَالَ: قَوْلُهُ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا لِأَمْرٍ، فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ، وَكُلُّ مَا هُوُيَّتُهُ كَافِيَةٌ
فِي عَدَمِهِ، فَهُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ
فَيُقَالُ: هَذَا تَلَازُمٌ
بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا لَا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا
لَا لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَوْلُكَ: فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ
مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْدُومٌ
لِأَجْلِ ذَاتِهِ، وَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي كَوْنِهِ مَعْدُومًا
كَالْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَنَا مَعْدُومٌ لَا لِأَمْرٍ،
فَكَيْفَ يَكُونُ نَفْيُ الشَّيْءِ لَازِمًا لِثُبُوتِهِ؟ .
فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ، أَوْ لَا لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ قِيلَ: فَتَكُونُ
الْقِسْمَةُ غَيْرَ حَاصِرَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا لِعِلَّةٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ
يُقَالَ: الْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: ذَاتُهُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَهُ
وَلَا عَدَمَهُ، أَوْ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ، وَلَا عَدَمَهُ، أَوْ لَا
تُوجِبُ وُجُودَهُ وَلَا عَدَمَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا تَقْتَضِي وُجُودَهُ أَوْ
عَدَمَهُ، أَوْ تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَوْ تُوجِبُهُ، فَإِنَّ مَا اسْتَلْزَمَتْ
ذَاتُهُ وُجُودَهُ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ، وَمَا اسْتَلْزَمَتْ عَدَمَهُ كَانَ
مُمْتَنِعًا، وَمَا لَمْ تَسْتَلْزِمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا
وَلَا مُمْتَنِعًا، بَلْ كَانَ هُوَ الْمُمْكِنُ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ
مَعْدُومٌ لَا لِأَمْرٍ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَسْتَلْزِمُ
عَدَمَهُ، بَلْ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ.
وَلِهَذَا يَقُولُ
الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ،
فَمَشِيئَتُهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوُجُودِ مُرَادِهِ، وَمَا لَا يَشَاؤُهُ لَا
يَكُونُ، فَعَدَمُ مَشِيئَتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِهِ لَا أَنَّ الْعَدَمَ
فَعَلَ شَيْئًا، بَلْ هُوَ مَلْزُومٌ لَهُ، وَإِذَا فَسَّرْتَ الْعِلَّةَ هُنَا
بِالْمَلْزُومِ، وَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ.
وَقَوْلُنَا: ذَاتُهُ
اسْتَلْزَمَتْ وُجُودَهُ، أَوِ اسْتَلْزَمَتْ عَدَمَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ فِي الْخَارِجِ شَيْئًا كَانَ مَلْزُومًا لِغَيْرِهِ،
فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا فِي الْخَارِجِ بِاتِّفَاقِ
الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ اللَّازِمُ،
وَالْمَلْزُومُ إِمَّا الْوُجُودُ وَإِمَّا الْعَدَمُ ، فَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ
مَلْزُومٌ عَدَمُهُ، وَوُجُودُ الْوَاجِبِ مَلْزُومٌ وُجُودُهُ، وَأَمَّا
الْمُمْكِنُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ مَلْزُومٌ
لِوُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ، بَلْ إِنْ حَصَلَ مَا يُوجِدُهُ، وَإِلَّا بَقِيَ
مَعْدُومًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ
يُقَالَ: إِذَا كَانَ كُلُّ مُمْكِنٍ لَا يَعْدَمُ إِلَّا بِعِلَّةٍ مَعْدُومَةٍ
مُؤَثِّرَةٍ فِي عَدَمِهِ، فَتِلْكَ الْعِلَّةُ الْمَعْدُومَةُ إِنْ كَانَ
عَدَمُهَا وَاجِبًا كَانَ وُجُودُهَا مُمْتَنِعًا، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ يَجِبُ بِوُجُوبِ
عِلَّتِهِ، وَيَمْتَنِعُ بِامْتِنَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ عَدَمُ
الْمُمْكِنِ عِلَّتُهُ وَاجِبَةٌ، وَوُجُودُهُ مُمْتَنِعًا، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ
يَجِبُ بِوُجُوبِ عِلَّتِهِ، وَيَمْتَنِعُ بِامْتِنَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ كُلُّ
مُمْكِنٍ يُقَدَّرُ إِمْكَانُهُ، فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا فِيهِ مِنَ
الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مَا هُوَ فِي غَايَةِ الِاسْتِحَالَةِ:
كَيْفِيَّةٍ وَكَمِّيَّةٍ.
وَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ
عِلَّتِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَمٍ يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهَا وَعَدَمِ ذَاكَ
الْمُؤَثِّرِ لِعَدَمِ مُؤَثِّرٍ فِيهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلِذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ أَبْطَلُ مِنْ تَسَلْسُلِ
الْمُؤَثِّرَاتِ الْوُجُودِيَّةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ
يُقَالَ: إِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْعَدَمَ الْمُسْتَمِرَّ لَهُ عِلَّةٌ
قَدِيمَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْلُولَ إِذَا كَانَ عَدَمًا مُسْتَمِرًّا كَانَتْ
عِلَّتُهُ الَّتِي هِيَ عَدَمٌ مُسْتَمِرٌّ عِلَّةً أَزَلِيَّةً لَمْ يَلْزَمْ
مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ
يُوجَدَ وَأَنْ يَعْدَمَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَيَكُونَ الْفَاعِلُ لَهُ لَمْ
يَزَلْ فَاعِلًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ فَاعِلُ الْمَوْجُودَاتِ لَمْ يُحْدِثْ
شَيْئًا قَطُّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ
الْخَالِقِ فَاعِلِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ عَلَى الْعَدَمِ
الْمُسْتَمِرِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمٍ مُسْتَمِرٍّ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ،
وَهُوَ قِيَاسٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ
بِمِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْفَاسِدِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ،
وَيُجْعَلُ خَلْقُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِثْلَ كَوْنِ الْعَدَمِ
عِلَّةً لِلْعَدَمِ .
وَهَلْ هَذَا إِلَّا
أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذْ قَالَ:
﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ -
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ٩٤ -
٩٨] فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ
الْمَوْجُودَاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ.
الْبُرْهَانُ السَّابِعُ
والرد عليه
قَالَ الرَّازِيُّ:
الْبُرْهَانُ السَّابِعُ: وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِذَنْ صِفَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَهِيَ تِلْكَ
الْأُمُورُ الْإِضَافِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ عَلَى رَأْيِ الْحُكَمَاءِ
وَالصِّفَاتُ وَالْأَحْوَالُ وَالْأَحْكَامُ عَلَى اخْتِلَافِ آرَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الثُّبُوتِ
بِأَعْيَانِهَا، بَلْ هِيَ بِمَا هِيَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِهَا
وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ نَظَرًا إِلَى ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَثَبَتَ أَنَّ
التَّأْثِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْعَدَمِ وَتَقَدُّمِهِ.
فَلَئِنْ قَالُوا: تِلْكَ
الصِّفَاتُ وَالْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا
نُوجِبُ سَبْقَ الْعَدَمِ فِي الْأَفْعَالِ، فَنَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لَا يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ،
فَهَبْ أَنَّ مَا لَا يَتَقَدَّمُهُ الْعَدَمُ لَا يُسَمَّى فِعْلًا لَكِنْ ثَبَتَ
أَنَّ مَا هُوَ مُمْكِنُ الثُّبُوتِ لِمَا هُوَ هُوَ يَجُوزُ اسْتِنَادُهُ إِلَى
مُؤَثِّرٍ يَكُونُ دَائِمَ الثُّبُوتِ مَعَ الْأَثَرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
مَعْقُولًا لَا يُمْكِنُ دَعْوَى الِامْتِنَاعِ فِيهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُهُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْفِعْلِ،
وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَعُودُ إِلَى فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُقَالُ: الْجَوَابُ
عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ إِنْ
أُرِيدَ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ أَوْ رَبٍّ
وَاحِدٍ أَوْ خَالِقٍ وَاحِدٍ أَوْ مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَيٍّ وَاحِدٍ أَوْ
قَيُّومٍ وَاحِدٍ أَوْ صَمَدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَاحِدٍ، وَنَحْوُ
ذَلِكَ، فَهَذَا صَحِيحٌ.
لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ
ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صِفَاتٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ يَمْتَنِعُ
تَحَقُّقُ ذَاتِهِ بِدُونِهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ هُوَ تِلْكَ
الذَّاتَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ وَاجِبَ
الْوُجُودِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَلَا مَا يُسَمَّى عِلَّةً فَاعِلَةً
أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ لَيْسَتْ
مُمْكِنَةَ الثُّبُوتِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُمْكِنَةً يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ
وَيُمْكِنُ أَنْ تَعْدَمَ وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى فَاعِلٍ يَفْعَلُهَا وَلَا
عِلَّةٍ فَاعِلَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ بِصِفَاتِهَا
اللَّازِمَةِ لَهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ، فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ الصِّفَاتِ
اللَّازِمَةَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كَدَعْوَاهُ
أَنَّ الذَّاتَ الْمَلْزُومَةَ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَإِنْ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ: وَاجِبُ الْوُجُودِ وَاحِدٌ، أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ ذَاتٌ
مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتٍ كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ
دَلِيلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ
يُقَالَ: دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ الذَّاتُ دُونَ
صِفَاتِهَا، وَأَنَّ صِفَاتِهَا هِيَ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ إِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ فَعَلَهُ،
فَكِلَاهُمَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ فَعَلَهُ، وَإِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى
مَحَلٍّ كَانَ حَقِيقَةَ هَذَا أَنَّ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ
تَقُومُ بِهِ بِخِلَافِ الذَّاتِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا مُمْكِنَةُ
الثُّبُوتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ مَا
لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ، وَبِمُمْكِنِ الْوُجُودِ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ
وَعَدَمُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ عَدَمُهَا، كَمَا لَا
يُمْكِنُ عَدَمُ الذَّاتِ، فَوُجُوبُ الْوُجُودِ يَتَنَاوَلُهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ مَا لَا مُلَازِمَ لَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ
وَاجِبُ الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ مُلَازِمٌ
لِمَفْعُولَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ.
وَمِنْ تَنَاقُضِ هَؤُلَاءِ
وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ كَصَاحِبِ الْكُتُبِ
الْمَضْنُونِ بِهَا صَاحِبِ الْمَضْنُونِ الْكَبِيرِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ
وَاجِبَ الْوُجُودِ بِأَنَّهُ مَا لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ لِيَنْفُوا بِذَلِكَ
صِفَاتِهِ اللَّازِمَةَ لَهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ صِفَاتٍ
لَازِمَةً لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْأَفْلَاكَ
وَغَيْرَهَا لَازِمَةً لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا
يُنَافِي كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ، فَأَيُّ تَنَاقُضٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ
يُقَالَ: الْوَاحِدُ الْمُجَرَّدُ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ،
كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِع، وَبُيِّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
ثُبُوتِ مَعَانٍ ثُبُوتِيَّةٍ مِثْلِ كَوْنِهِ حَيًّا وَعَالِمًا وَقَادِرًا، وَأَنَّهُ
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى هُوَ الْآخَرَ، أَوْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ
الْمَعَانِي هِيَ الذَّاتَ، وَمَا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ امْتَنَعَ أَنْ
يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، فَإِذَا مَا زُعِمَ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ،
فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ لِصِفَاتِهِ،
كَمَا هُوَ فَاعِلٌ لِمَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ إِنَّهُ مُؤَثِّرٌ،وَمُقْتَضٍ
وَمُسْتَلْزِمٌ لِمَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا هُوَ مُؤَثِّرٌ وَمُقْتَضٍ وَمُسْتَلْزِمٌ
لِصِفَاتِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ
يُقَالَ: قَوْلُهُ: وَهِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الْإِضَافِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ
عَلَى رَأْيِ الْحُكَمَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى رَأْيِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ
مِنْهُمْ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، وَأَمَّا أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ فَهُمْ
مُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ، كَمَا قَدْ نَقَلْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي
الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالِهِ.
وَأَيْضًا فَنُفَاةُ
الصِّفَاتِ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مُتَنَاقِضُونَ يَجْمَعُونَ
بَيْنَ نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ. فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانُوا مُثْبِتِيهَا فَهُمْ كَسَائِرِ
الْمُثْبِتِينَ، وَإِنْ كَانُوا نُفَاةً قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا السَّلْبُ فَعَدَمٌ
مَحْضٌ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ مِثْلُ كَوْنِهِ فَاعِلًا أَوْ مَبْدَءًا، فَإِمَّا
أَنْ تَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا، فَإِنْ كَانَتْ وُجُودًا لِأَنَّهَا مِنْ
مَقُولَةِ: أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَهَذِهِ الْمَقُولَةُ مِنْ جُمْلَةِ
الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ الْمَوْجُودَاتِ
كَانَتِ الْإِضَافَةُ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا وُجُودًا، فَكَانَتْ صِفَاتُهُ
الْإِضَافِيَّةُ وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِضَافَةُ
عَدَمًا مَحْضًا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي السَّلْبِ، فَجَعْلُ الْإِضَافَةِ قِسْمًا
ثَالِثًا لَيْسَ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا خَطَأٌ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا لَمْ
يُثْبِتُوا صِفَةً ثُبُوتِيَّةً لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ مُسْتَلْزِمَةً لِشَيْءٍ مِنْ
الصِّفَاتِ إِلَّا أَمْرًا عَدَمِيًّا، وَأَمَّا الْمَخْلُوقَاتُ فَإِنَّهَا
مَوْجُودَاتٌ: جَوَاهِرٌ، وَأَعْرَاضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْوَاجِبِ
وَغَيْرِ الْوَاجِبِ لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ لَيْسَ كَاقْتِضَائِهِ لِلْوُجُودِ،
وَسَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِلْزَامًا أَوْ إِيجَابًا، أَوْ فِعْلًا أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ضِدِّهِ، وَلَا يَقُولُ
عَاقِلٌ إِنَّهُ فَاعِلٌ لِعَدَمِ ضِدِّهِ، وَوُجُودُ الشَّيْءِ يُنَاقِضُ عَدَمَ
نَفْسِهِ، وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِعَدَمِ
عَدَمِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ عَدَمِهِ هُوَ وُجُودُهُ، وَوُجُودُهُ وَاجِبٌ لَا
يَكُونُ مَفْعُولًا وَلَا مَعْلُولًا.
وَأَيْضًا فَالْعَدَمُ
الْمَحْضُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِلَّةٌ، كَمَا هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عِلَّتُهُ عَدَمُ عِلَّةِ وُجُودِهِ،
فَيَجْعَلُ عِلَّةَ الْعَدَمِ عَدَمًا، وَلَا يَجْعَلُ لِلْعَدَمِ الْمُمْكِنِ عِلَّةً
وُجُودِيَّةً، فَالْعَدَمُ الْوَاجِبُ أَوْلَى أَلَّا يَفْتَقِرَ إِلَى عِلَّةٍ
وُجُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْوَاجِبَ اللَّازِمَ لِذَاتِهِ عَدَمٌ وَاجِبٌ،
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَّةٍ وُجُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْوَاجِبَ
يَتَّصِفُ بِهِ الْمُمْتَنِعُ، وَالْمُمْتَنِعُ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ لَا
يَفْتَقِرُ إِلَى عِلَّةٍ وُجُودِيَّةٍ، وَعَدَمُ وُجُودِ الرَّبِّ مُمْتَنِعٌ
لِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ
عِلَّةٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
قَوْلُهُ: وَالصِّفَاتُ وَالْأَحْوَالُ، وَالْأَحْكَامُ عَلَى اخْتِلَافِ آرَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ، فَيُقَالُ. لَهُ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ
هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
الْمُتَّبَعِينَ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَسَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ
الْكَلَامِ مِثْلِ الْهِشَامِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ وَالْكُلَّابِيَّةِ
وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ،
وَهُمْ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَجَمَاعَتِهَا مِنْ أَبْعَدِ
النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَوَافَقَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ
وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ مَشْهُورُونَ بِالِابْتِدَاعِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ
فَهِيَ الْحُكْمُ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ، وَهَذَا هُوَ
الْخَبَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا تُثْبِتُهُ الْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهُمْ مَعَ سَائِرِ الْمُثْبِتَةِ لَكِنْ غُلَاةُ
الْجَهْمِيَّةِ يَنْفُونَ أَسْمَاءَهُ، وَيَجْعَلُونَهَا مَجَازًا، فَيَجْعَلُونَ
الْخَبَرَ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مِنَ النُّفَاةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ
فَالذَّاتُ لَمْ تَقْتَضِ شَيْئًا ; لِأَنَّ كَلَامَ الْمُخْبِرِينَ وَحُكْمُهُمْ
أَمْرٌ قَائِمٌ بِهِمْ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ
يُثْبِتِ الْأَحْكَامَ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ:
هِيَ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ، فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ
كَالْمَوْجُودَاتِ.
بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى
مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: صِفَاتُهُ مَوْجُودَةٌ قَائِمَةٌ
بِهِ، وَمَخْلُوقَاتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ
صِفَاتُهُ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ لَا يُقَالُ
إِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ
مَعْدُومَةً، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي
أَبْدَعَهَا، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّفَاتِ لَهَا ذَوَاتٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ
وُجُودِهَا، وَتِلْكَ الذَّوَاتُ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، كَمَا يَقُولُ
ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمَفْعُولَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ
تَمْثِيلَ صِفَاتِهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ
طَائِفَةٍ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ:
قَوْلُهُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الثُّبُوتِ بِأَعْيَانِهَا، بَلْ هِيَ
بِمَا هِيَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِهَا وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ نَظَرًا
إِلَى ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَلَامٌ مَمْنُوعٌ بَلْ بَاطِلٌ، بَلِ الصِّفَاتُ
مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ بِدُونِ صِفَاتِهَا
اللَّازِمَةِ وَلَا وُجُودُ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ بِدُونِ الذَّاتِ، وَكُلٌّ
مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلْآخَرِ مَلْزُومٌ لَهُ، وَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ
الذَّاتَ هِيَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ دُونَ الصِّفَاتِ مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ، وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الصِّفَاتُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ دُونَ
الذَّاتِ لَكِنَّ الذَّاتَ وَاجِبَةٌ نَظَرًا إِلَى وُجُوبِ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ
فَسَّرُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِالْمَوْجُودِ نَفْسِهِ أَوْ بِمَا لَا يَقْبَلُ
الْعَدَمَ، أَوْ بِمَا لَا فَاعِلَ لَهُ وَلَا عِلَّةً فَاعِلَةً أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ إِذَا فُسِّرَ الْوَاجِبُ بِالْقَائِمِ
بِنَفْسِهِ، وَالْمُمْكِنُ بِالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ وَوَضْعٌ مَحْضٌ، وَغَايَتُهُ مُنَازَعَةٌ
لَفْظِيَّةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا.
الْوَجْهُ السَّابِعُ:
قَوْلُهُ: فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْثِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْعَدَمِ،
فَيُقَالُ. لَهُ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ الذَّاتُ
الْمُسْتَلْزِمَةُ لِصِفَاتِهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصِّفَاتِ.
وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ
التَّأْثِيرِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِلْزَامُ فَكِلَاهُمَا مُؤَثِّرٌ فِي
الْآخَرِ إِذْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا
وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَا مُمْكِنًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِلَفْظِ
التَّأْثِيرِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَبْدَعَ الْآخَرَ، أَوْ فَعَلَهُ أَوْ جَعَلَهُ
مَوْجُودًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْقَلُ فِي إِبْدَاعِ الْمَصْنُوعَاتِ،
فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إِنَّ الْمَوْصُوفَ أَبْدَعَ
صِفَاتِهِ اللَّازِمَةَ ، وَلَا خَلَقَهَا، وَلَا صَنَعَهَا، وَلَا فَعَلَهَا،
وَلَا جَعَلَهَا مَوْجُودَةً، وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا
الْمَعْنَى.
بَلْ مَا يَحْدُثُ فِي
الْحَيِّ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ الصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّهُ فَعَلَ
ذَلِكَ أَوْ أَبْدَعَهُ أَوْ صَنَعَهُ، فَكَيْفَ بِمَا يَكُونُ مِنَ الصِّفَاتِ
لَازِمًا لَهُ كَحَيَاتِهِ وَلَوَازِمِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ هَذَا
فِي غَيْرِ الْحَيِّ مِثْلَ الْجَمَادِ، وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْأَجْسَامِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَ قَدْرَهُ اللَّازِمَ،
وَفَعَلَ تَخَيُّرَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ، بَلِ
الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمُ الْمُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ
وَالْإِرَادِيَّةِ، وَالَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الْإِرَادِيَّةَ لَيْسَ
فِيهِمْ مَنْ يَجْعَلُ مَا يَلْزَمُ الذَّاتَ مِنْ صِفَاتِهَا مَفْعُولًا لَهَا
لَا بِالْإِرَادَةِ وَلَا بِالطَّبْعِ، بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ آثَارِهَا
الصَّادِرَةِ عَنْهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ لَهَا وَمَفْعُولَاتٌ، وَبَيْنَ
صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا، بَلْ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِلذَّاتِ
تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ بَعْضِ صِفَاتِهَا الْعَارِضَةِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إِلَى
فِعْلِهَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بِهِ كَحُصُولِ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ، وَحُصُولِ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ،
بِخِلَافِ اللَّازِمَةِ، وَمَا يَحْصُلُ بِدُونِ قُدْرَتِهَا وَفِعْلِهَا
وَاخْتِيَارِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِيهِ،
وَإِنَّهُ مِنْ أَثَرِهَا، بَلْ يَقُولُ إِنَّهُ لَازِمٌ لَهَا وَصِفَةٌ لَهَا،
وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ وَمَوْصُوفَةٌ بِهِ، وَقَدْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ
مُقَوِّمٌ لَهَا وَمُتَمِّمٌ لَهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ
فَاعِلَ الشَّيْءِ هُوَ فَاعِلُ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِامْتِنَاعِ فِعْلِ
الشَّيْءِ بِدُونِ صِفَاتِه اللَّازِمَةِ.
وَأَيْضًا، فَالذَّاتُ مَعَ
تَجَرُّدِهَا عَنِ الصِّفَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي شَيْءٍ،
فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي صِفَاتِ نَفْسِهَا، فَإِنَّ شَرْطَ
كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً أَنْ تَكُونَ حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً، فَلَوْ كَانَتْ
هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي كَوْنِهَا حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً لَكَانَتْ
مُؤَثِّرَةً بِدُونِ اتِّصَافِهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ
امْتِنَاعُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، بَلْ صِفَاتُهَا اللَّازِمَةُ لَهَا أَكْمَلُ
مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ بِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ
فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الذَّاتِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ
هَاهُنَا تَأْثِيرٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فِي صِفَاتِهَا إِلَّا أَنْ
يُسَمِّيَ الْمُسَمَّى الِاسْتِلْزَامَ تَأْثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَحِينَئِذٍ
فَيُقَالُ لَهُ: مِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لَا يُمْكِنُ
التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَكَ
لِاسْتِلْزَامِ الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا
تَأْثِيرًا لَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا كَإِبْدَاعِهَا لِمَخْلُوقَاتِهَا،
فَهَبْ أَنَّكَ سَمَّيْتَ كُلَّ اسْتِلْزَامٍ تَأْثِيرًا، لَكِنَّ دَعْوَاكَ
بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَفْعُولَ مَلَازِمٌ لِخَالِقِهِ وَفَاعِلِهِ،
مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ
جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ
هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، لَا يُعْرَفُ قَطُّ شَيْءٌ أَبْدَعَ
شَيْئًا، وَهُوَ مُقَارِنٌ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونَانِ مُتَقَارِنَيْنِ فِي
الزَّمَانِ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، بَلْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ
الْعَقْلِ أَنَّ التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَخَلْقُهُ،
وَجَعْلُهُ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَّا
فَالْمَوْجُودُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا لَا يَفْتَقِرُ قَطُّ
إِلَى مُبْدِعٍ خَالِقٍ يَجْعَلُهُ مَوْجُودًا، وَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا يَقْبَلُ
الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، بَلْ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، فَلَا
يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ الْعَدَمَ.
يوم
الأربعاء 12 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد
إبراهيم _شحوح _ سيئون -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلْوُجُودِ بَعْدَ
حُصُولِهِ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا عِلَّةَ لَهُ
فَيُقَالُ: هَذَا لَيْسَ
بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لَهُ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ مَعْنَاهَا أَنَّهُ
كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ
لَهُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَأَيْضًا
فَأَنْتَ قَدَّرْتَ هَذَا عِلَّةَ افْتِقَارِهِ لَمْ تُقَدِّرْهُ مَعْلُولَ
افْتِقَارِهِ، فَكَوْنُهُ غَنِيًّا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِلَّةً، وَإِنَّمَا
يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَعْلُولًا.
وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ افْتِقَارِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ عِلَّةً
لِلْمُتَقَدِّمِ.
قِيلَ: هَذَا ذَكَرْتُهُ فِي
مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا هَاهُنَا، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الِافْتِقَارِ
لَا مُوجِبٌ لَهُ. وَالدَّلِيلُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ
بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ
الْحُدُوثُ دَلِيلًا عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ
يَكُونَ كُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْمُؤَثِّرِ حَادِثًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ
طَرْدُهُ، وَلَا يَجِبُ عَكْسُهُ.
قِيلَ: نَعَمْ، انْتِفَاءُ
الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي الدَّلَالَةَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ
مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُ افْتِقَارِهِ إِلَى الْفَاعِلِ كَوْنُهُ مُحْدَثًا،
وَالشَّرْطُ يُقَارِنُ الْمَشْرُوطَ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيَّنُ بِهِ
الِاقْتِرَانُ فَيُقَالُ: عِلَّةُ الِافْتِقَارِ بِمَعْنَى شَرْطِ افْتِقَارِهِ
كَوْنُهُ مُحْدَثًا أَوْ مُمْكِنًا أَوْ مَجْمُوعَهُمَا، وَالْجَمِيعُ حَقٌّ،
وَمِثْلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِي لِافْتِقَارِهِ
إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ حُدُوثُهُ أَيْ كَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، فَإِنَّ كُلَّ
مَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ هُوَ ثَابِتٌ حَالَ افْتِقَارِهِ إِلَى
الْفَاعِلِ، فَإِنَّ افْتِقَارَهُ إِلَى الْفَاعِلِ هُوَ حَالُ حُدُوثِهِ،
وَتِلْكَ الْحَالُ هُوَ فِيهَا مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ
مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَانَ كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا
الْمَعْنَى يُوجِبُ افْتِقَارَهُ إِلَى الْفَاعِلِ.
الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ
والرد عليه قَالَ الرَّازِيُّ : الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ
يَتَوَقَّفَ جِهَةُ افْتِقَارِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، أَوْ جِهَةُ
تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرَاتِ فِيهَا عَلَى الْحُدُوثِ، أَوْ لَا تَتَوَقَّفَ،
وَالْأَوَّلُ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي بَابِ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ فَثَبَتَ أَنَّ
الْحُدُوثَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي جِهَةِ الِافْتِقَارِ
فَيُقَالُ: مَا ذَكَرْتَهُ
فِي ذَلِكَ قَدْ بُيِّنَ إِبْطَالُهُ أَيْضًا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى
الْفَاعِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا، وَأَمَّا الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ،
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا. وَالَّذِي ذَكَرْتَهُ فِي كِتَابِ
الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فِي الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ هُوَ الَّذِي جَرَتْ
عَادَتُكَ بِذِكْرِهِ فِي الْمُحَصِّلِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُدُوثَ
عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْوُجُودِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، وَبِالْغَيْرِ، فَهُوَ
صِفَةٌ لِلْوُجُودِ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ
تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ، الْمُتَأَخِّرُ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ
الْمُتَأَخِّرُ عَنْ عِلَّةِ الْحَاجَةِ، فَلَوْ كَانَ الْحُدُوثُ عِلَّةَ
الْحَاجَةِ إِلَى الْحُدُوثِ، أَوْ شَرْطَهَا لَزِمَ تَأَخُّرُ الشَّيْءِ عَنْ
نَفْسِهِ بِأَرْبَعِ مَرَاتِبَ.
جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا
لَيْسَ صِفَةً وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِهِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ عَنْ وُجُودِهِ،
بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ
إِلَى الْمُؤَثِّرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ،
وَالتَّأَخُّرَاتُ الْمَذْكُورَاتُ هُنَا اعْتِبَارَاتٌ عَقْلِيَّةٌ لَيْسَتْ
تَأَخُّرَاتٍ زَمَانِيَّةً، وَالْعِلَّةُ هُنَا الْمُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى
الْمَلْزُومُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا فَاعِلٌ مُتَقَدِّمٌ
عَلَى مَفْعُولِهِ بِالزَّمَانِ.
وَاللَّازِمُ وَالْمَلْزُومُ
قَدْ يَكُونُ زَمَانُهُمَا جَمِيعًا، كَمَا يَقُولُونَ: الصِّفَةُ تَفْتَقِرُ
إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْعَرَضُ إِلَى الْجَوْهَرِ، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ
مَعًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا افْتَقَرَ الْعَرَضُ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِكَوْنِهِ
مَعْنًى قَائِمًا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُقَارِنٌ لِافْتِقَارِهِ إِلَى
الْمَوْصُوفِ.
الْبُرْهَانُ السَّادِسُ
والرد عليه
قَالَ الرَّازِيُّ:
الْبُرْهَانُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُمْكِنَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَعَدَمُهُ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ أَوْ لَا لِأَمْرٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لَا لِأَمْرٍ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ، وَكُلُّ مَا هُوُيَّتُهُ
كَافِيَةٌ فِي عَدَمِهِ، فَهُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، فَإِذَنِ الْمُمْكِنُ
الْعَدَمِ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، هَذَا خُلْفٌ، فَتَبَيَّنَ أَنْ يَكُونَ
لِأَمْرٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي
تَأْثِيرِهِ فِيهِ تَجَدُّدُهُ أَوْ لَا يُشْتَرَطَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُشْتَرَطَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ مَفْرُوضٌ فِي الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى وُجُودِهِ،
وَالْعَدَمُ الْمُتَجَدِّدُ هُوَ الْعَدَمُ بَعْدَ الْوُجُودِ، فَإِذَنْ لَا
يُشْتَرَطُ فِي اسْتِنَادِ عَدَمِ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى مَا يَقْتَضِي عَدَمُهَا
تَجَدُّدُهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ الْمُمْكِنُ مُسْتَنِدًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ
مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّجَدُّدِ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ وَالِافْتِقَارَ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّجَدُّدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَيُقَالُ: مِنَ
الْعَجَائِبِ، بَلْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُ هَذَا
الْهَذَيَانِ بُرْهَانًا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ
لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، بَلِ الْحَوَادِثُ تَحْدُثُ بِلَا خَالِقٍ، وَفِي
إِبْطَالِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ لَكِنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ الْبَاطِلَةَ وَأَمْثَالَهَا لَمَّا
صَارَتْ تَصُدُّ كَثِيرًا مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَعُقَلَائِهِمْ
وَعُلَمَائِهِمْ عَنِ الْحَقِّ الْمَحْضِ الْمُوَافِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ
وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، بَلْ تُخْرِجُ أَصْحَابَهَا عَنِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ
كَخُرُوجِ الشَّعَرَةِ مِنَ الْعَجِينِ إِمَّا بِالْجَحْدِ وَالتَّكْذِيبِ
وَإِمَّا بِالشَّكِّ وَالرَّيْبِ احْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ بُطْلَانِهَا
لِلْحَاجَةِ إِلَى مُجَاهَدَةِ أَهْلِهَا، وَبَيَانِ فَسَادِهَا مِنْ
أَصْلِهَاإِذْ كَانَ فِيهَا مِنَ الضَّرَرِ بِالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ مَا لَا يُحِيطُ
بِهِ إِلَّا الرَّحْمَنُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ:
قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُكُمْ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ إِنَّ الْعَدَمَ نَفْيٌ
مَحْضٌ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَصْلًا. وَجَعَلْتُمْ هَذَا
مُقَدِّمَةً فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَكَيْفَ تَقُولُونَ بَعْدَ
هَذَا بِأَسْطُرٍ الْمَعْدُومُ الْمُمْكِنُ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إِلَّا
لِمُوجِبٍ؟
وَقَدَّمْنَا أَنَّ
جَمَاهِيرَ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَدَمَ لَا
يَفْتَقِرُ إِلَى عِلَّةٍ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ النُّظَّارِ جَعَلَ عَدَمَ
الْمُمْكِنِ مُفْتَقِرًا إِلَى عِلَّةٍ إِلَّا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الْقَلِيلَةَ
مِنْ مُتَأَخِّرِيِ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَإِلَّا
فَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ لَا أَرِسْطُو وَلَا أَصْحَابِهِ
كَبَرْقِلِسَ، وَالْإِسْكَنْدَرِ الْأَفْرُودِيسِيِّ شَارِحِ كُتُبِهِ،
وَثَامَسْيُطُوسَ، وَلَا غَيْرِهِمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا هُوَ قَوْلُ
أَحَدٍ مِنَ النُّظَّارِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ لَا
الْمُتَكَلِّمَةِ، وَلَا الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَلَا غَيْرِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ
يُقَالَ: قَوْلُهُ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا لِأَمْرٍ، فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ، وَكُلُّ مَا هُوُيَّتُهُ كَافِيَةٌ
فِي عَدَمِهِ، فَهُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ
فَيُقَالُ: هَذَا تَلَازُمٌ
بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا لَا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا
لَا لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَوْلُكَ: فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ
مَعْدُومًا لِمَا هُوَ هُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْدُومٌ
لِأَجْلِ ذَاتِهِ، وَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي كَوْنِهِ مَعْدُومًا
كَالْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَنَا مَعْدُومٌ لَا لِأَمْرٍ،
فَكَيْفَ يَكُونُ نَفْيُ الشَّيْءِ لَازِمًا لِثُبُوتِهِ؟ .
فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ، أَوْ لَا لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ قِيلَ: فَتَكُونُ
الْقِسْمَةُ غَيْرَ حَاصِرَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا لِعِلَّةٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ
يُقَالَ: الْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: ذَاتُهُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَهُ
وَلَا عَدَمَهُ، أَوْ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ، وَلَا عَدَمَهُ، أَوْ لَا
تُوجِبُ وُجُودَهُ وَلَا عَدَمَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا تَقْتَضِي وُجُودَهُ أَوْ
عَدَمَهُ، أَوْ تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَوْ تُوجِبُهُ، فَإِنَّ مَا اسْتَلْزَمَتْ
ذَاتُهُ وُجُودَهُ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ، وَمَا اسْتَلْزَمَتْ عَدَمَهُ كَانَ
مُمْتَنِعًا، وَمَا لَمْ تَسْتَلْزِمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا
وَلَا مُمْتَنِعًا، بَلْ كَانَ هُوَ الْمُمْكِنُ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ
مَعْدُومٌ لَا لِأَمْرٍ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَسْتَلْزِمُ
عَدَمَهُ، بَلْ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ.
وَلِهَذَا يَقُولُ
الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ،
فَمَشِيئَتُهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوُجُودِ مُرَادِهِ، وَمَا لَا يَشَاؤُهُ لَا
يَكُونُ، فَعَدَمُ مَشِيئَتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِهِ لَا أَنَّ الْعَدَمَ
فَعَلَ شَيْئًا، بَلْ هُوَ مَلْزُومٌ لَهُ، وَإِذَا فَسَّرْتَ الْعِلَّةَ هُنَا
بِالْمَلْزُومِ، وَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ.
وَقَوْلُنَا: ذَاتُهُ
اسْتَلْزَمَتْ وُجُودَهُ، أَوِ اسْتَلْزَمَتْ عَدَمَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ فِي الْخَارِجِ شَيْئًا كَانَ مَلْزُومًا لِغَيْرِهِ،
فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا فِي الْخَارِجِ بِاتِّفَاقِ
الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ اللَّازِمُ،
وَالْمَلْزُومُ إِمَّا الْوُجُودُ وَإِمَّا الْعَدَمُ ، فَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ
مَلْزُومٌ عَدَمُهُ، وَوُجُودُ الْوَاجِبِ مَلْزُومٌ وُجُودُهُ، وَأَمَّا
الْمُمْكِنُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ مَلْزُومٌ
لِوُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ، بَلْ إِنْ حَصَلَ مَا يُوجِدُهُ، وَإِلَّا بَقِيَ
مَعْدُومًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ
يُقَالَ: إِذَا كَانَ كُلُّ مُمْكِنٍ لَا يَعْدَمُ إِلَّا بِعِلَّةٍ مَعْدُومَةٍ
مُؤَثِّرَةٍ فِي عَدَمِهِ، فَتِلْكَ الْعِلَّةُ الْمَعْدُومَةُ إِنْ كَانَ
عَدَمُهَا وَاجِبًا كَانَ وُجُودُهَا مُمْتَنِعًا، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ يَجِبُ بِوُجُوبِ
عِلَّتِهِ، وَيَمْتَنِعُ بِامْتِنَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ عَدَمُ
الْمُمْكِنِ عِلَّتُهُ وَاجِبَةٌ، وَوُجُودُهُ مُمْتَنِعًا، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ
يَجِبُ بِوُجُوبِ عِلَّتِهِ، وَيَمْتَنِعُ بِامْتِنَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ كُلُّ
مُمْكِنٍ يُقَدَّرُ إِمْكَانُهُ، فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا فِيهِ مِنَ
الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مَا هُوَ فِي غَايَةِ الِاسْتِحَالَةِ:
كَيْفِيَّةٍ وَكَمِّيَّةٍ.
وَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ
عِلَّتِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَمٍ يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهَا وَعَدَمِ ذَاكَ
الْمُؤَثِّرِ لِعَدَمِ مُؤَثِّرٍ فِيهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلِذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ أَبْطَلُ مِنْ تَسَلْسُلِ
الْمُؤَثِّرَاتِ الْوُجُودِيَّةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ
يُقَالَ: إِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْعَدَمَ الْمُسْتَمِرَّ لَهُ عِلَّةٌ
قَدِيمَةٌ، وَأَنَّ الْمَعْلُولَ إِذَا كَانَ عَدَمًا مُسْتَمِرًّا كَانَتْ
عِلَّتُهُ الَّتِي هِيَ عَدَمٌ مُسْتَمِرٌّ عِلَّةً أَزَلِيَّةً لَمْ يَلْزَمْ
مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ
يُوجَدَ وَأَنْ يَعْدَمَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَيَكُونَ الْفَاعِلُ لَهُ لَمْ
يَزَلْ فَاعِلًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ فَاعِلُ الْمَوْجُودَاتِ لَمْ يُحْدِثْ
شَيْئًا قَطُّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ
الْخَالِقِ فَاعِلِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ عَلَى الْعَدَمِ
الْمُسْتَمِرِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمٍ مُسْتَمِرٍّ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ،
وَهُوَ قِيَاسٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ
بِمِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْفَاسِدِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ،
وَيُجْعَلُ خَلْقُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِثْلَ كَوْنِ الْعَدَمِ
عِلَّةً لِلْعَدَمِ .
وَهَلْ هَذَا إِلَّا أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذْ قَالَ: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ - قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ٩٤ - ٩٨] فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ.
قَالَ الرَّازِيُّ:
الْبُرْهَانُ السَّابِعُ: وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ
أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِذَنْ صِفَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَهِيَ تِلْكَ
الْأُمُورُ الْإِضَافِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ عَلَى رَأْيِ الْحُكَمَاءِ
وَالصِّفَاتُ وَالْأَحْوَالُ وَالْأَحْكَامُ عَلَى اخْتِلَافِ آرَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الثُّبُوتِ
بِأَعْيَانِهَا، بَلْ هِيَ بِمَا هِيَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِهَا
وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ نَظَرًا إِلَى ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَثَبَتَ أَنَّ
التَّأْثِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْعَدَمِ وَتَقَدُّمِهِ.
فَلَئِنْ قَالُوا: تِلْكَ
الصِّفَاتُ وَالْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا
نُوجِبُ سَبْقَ الْعَدَمِ فِي الْأَفْعَالِ، فَنَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لَا يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ،
فَهَبْ أَنَّ مَا لَا يَتَقَدَّمُهُ الْعَدَمُ لَا يُسَمَّى فِعْلًا لَكِنْ ثَبَتَ
أَنَّ مَا هُوَ مُمْكِنُ الثُّبُوتِ لِمَا هُوَ هُوَ يَجُوزُ اسْتِنَادُهُ إِلَى
مُؤَثِّرٍ يَكُونُ دَائِمَ الثُّبُوتِ مَعَ الْأَثَرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
مَعْقُولًا لَا يُمْكِنُ دَعْوَى الِامْتِنَاعِ فِيهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُهُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْفِعْلِ،
وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَعُودُ إِلَى فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُقَالُ: الْجَوَابُ
عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ إِنْ
أُرِيدَ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ أَوْ رَبٍّ
وَاحِدٍ أَوْ خَالِقٍ وَاحِدٍ أَوْ مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَيٍّ وَاحِدٍ أَوْ
قَيُّومٍ وَاحِدٍ أَوْ صَمَدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَاحِدٍ، وَنَحْوُ
ذَلِكَ، فَهَذَا صَحِيحٌ.
لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ
ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ صِفَاتٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ يَمْتَنِعُ
تَحَقُّقُ ذَاتِهِ بِدُونِهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ هُوَ تِلْكَ
الذَّاتَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ وَاجِبَ
الْوُجُودِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَلَا مَا يُسَمَّى عِلَّةً فَاعِلَةً
أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ لَيْسَتْ
مُمْكِنَةَ الثُّبُوتِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُمْكِنَةً يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ
وَيُمْكِنُ أَنْ تَعْدَمَ وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى فَاعِلٍ يَفْعَلُهَا وَلَا
عِلَّةٍ فَاعِلَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ بِصِفَاتِهَا
اللَّازِمَةِ لَهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ، فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ الصِّفَاتِ
اللَّازِمَةَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كَدَعْوَاهُ
أَنَّ الذَّاتَ الْمَلْزُومَةَ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَإِنْ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ: وَاجِبُ الْوُجُودِ وَاحِدٌ، أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ ذَاتٌ
مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتٍ كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ
دَلِيلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ
يُقَالَ: دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ الذَّاتُ دُونَ
صِفَاتِهَا، وَأَنَّ صِفَاتِهَا هِيَ مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ إِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ فَعَلَهُ،
فَكِلَاهُمَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ فَعَلَهُ، وَإِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى
مَحَلٍّ كَانَ حَقِيقَةَ هَذَا أَنَّ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ
تَقُومُ بِهِ بِخِلَافِ الذَّاتِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا مُمْكِنَةُ
الثُّبُوتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ مَا
لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ، وَبِمُمْكِنِ الْوُجُودِ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ
وَعَدَمُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ عَدَمُهَا، كَمَا لَا
يُمْكِنُ عَدَمُ الذَّاتِ، فَوُجُوبُ الْوُجُودِ يَتَنَاوَلُهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ
بِوَاجِبِ الْوُجُودِ مَا لَا مُلَازِمَ لَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ
وَاجِبُ الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ مُلَازِمٌ
لِمَفْعُولَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ.
وَمِنْ تَنَاقُضِ هَؤُلَاءِ
وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ كَصَاحِبِ الْكُتُبِ
الْمَضْنُونِ بِهَا صَاحِبِ الْمَضْنُونِ الْكَبِيرِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ
وَاجِبَ الْوُجُودِ بِأَنَّهُ مَا لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ لِيَنْفُوا بِذَلِكَ
صِفَاتِهِ اللَّازِمَةَ لَهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ صِفَاتٍ
لَازِمَةً لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْأَفْلَاكَ
وَغَيْرَهَا لَازِمَةً لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا
يُنَافِي كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ، فَأَيُّ تَنَاقُضٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ
يُقَالَ: الْوَاحِدُ الْمُجَرَّدُ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ،
كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِع، وَبُيِّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
ثُبُوتِ مَعَانٍ ثُبُوتِيَّةٍ مِثْلِ كَوْنِهِ حَيًّا وَعَالِمًا وَقَادِرًا، وَأَنَّهُ
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى هُوَ الْآخَرَ، أَوْ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ
الْمَعَانِي هِيَ الذَّاتَ، وَمَا كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ امْتَنَعَ أَنْ
يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، فَإِذَا مَا زُعِمَ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ،
فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ لِصِفَاتِهِ،
كَمَا هُوَ فَاعِلٌ لِمَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ إِنَّهُ مُؤَثِّرٌ،وَمُقْتَضٍ
وَمُسْتَلْزِمٌ لِمَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا هُوَ مُؤَثِّرٌ وَمُقْتَضٍ وَمُسْتَلْزِمٌ
لِصِفَاتِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ
يُقَالَ: قَوْلُهُ: وَهِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الْإِضَافِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ
عَلَى رَأْيِ الْحُكَمَاءِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى رَأْيِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ
مِنْهُمْ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، وَأَمَّا أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ فَهُمْ
مُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ، كَمَا قَدْ نَقَلْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي
الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالِهِ.
وَأَيْضًا فَنُفَاةُ
الصِّفَاتِ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مُتَنَاقِضُونَ يَجْمَعُونَ
بَيْنَ نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ. فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ كَانُوا مُثْبِتِيهَا فَهُمْ كَسَائِرِ
الْمُثْبِتِينَ، وَإِنْ كَانُوا نُفَاةً قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا السَّلْبُ فَعَدَمٌ
مَحْضٌ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ مِثْلُ كَوْنِهِ فَاعِلًا أَوْ مَبْدَءًا، فَإِمَّا
أَنْ تَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا، فَإِنْ كَانَتْ وُجُودًا لِأَنَّهَا مِنْ
مَقُولَةِ: أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَهَذِهِ الْمَقُولَةُ مِنْ جُمْلَةِ
الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ الْمَوْجُودَاتِ
كَانَتِ الْإِضَافَةُ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا وُجُودًا، فَكَانَتْ صِفَاتُهُ
الْإِضَافِيَّةُ وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِضَافَةُ
عَدَمًا مَحْضًا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي السَّلْبِ، فَجَعْلُ الْإِضَافَةِ قِسْمًا
ثَالِثًا لَيْسَ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا خَطَأٌ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا لَمْ
يُثْبِتُوا صِفَةً ثُبُوتِيَّةً لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ مُسْتَلْزِمَةً لِشَيْءٍ مِنْ
الصِّفَاتِ إِلَّا أَمْرًا عَدَمِيًّا، وَأَمَّا الْمَخْلُوقَاتُ فَإِنَّهَا
مَوْجُودَاتٌ: جَوَاهِرٌ، وَأَعْرَاضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْوَاجِبِ
وَغَيْرِ الْوَاجِبِ لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ لَيْسَ كَاقْتِضَائِهِ لِلْوُجُودِ،
وَسَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِلْزَامًا أَوْ إِيجَابًا، أَوْ فِعْلًا أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ضِدِّهِ، وَلَا يَقُولُ
عَاقِلٌ إِنَّهُ فَاعِلٌ لِعَدَمِ ضِدِّهِ، وَوُجُودُ الشَّيْءِ يُنَاقِضُ عَدَمَ
نَفْسِهِ، وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِعَدَمِ
عَدَمِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ عَدَمِهِ هُوَ وُجُودُهُ، وَوُجُودُهُ وَاجِبٌ لَا
يَكُونُ مَفْعُولًا وَلَا مَعْلُولًا.
وَأَيْضًا فَالْعَدَمُ
الْمَحْضُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِلَّةٌ، كَمَا هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عِلَّتُهُ عَدَمُ عِلَّةِ وُجُودِهِ،
فَيَجْعَلُ عِلَّةَ الْعَدَمِ عَدَمًا، وَلَا يَجْعَلُ لِلْعَدَمِ الْمُمْكِنِ عِلَّةً
وُجُودِيَّةً، فَالْعَدَمُ الْوَاجِبُ أَوْلَى أَلَّا يَفْتَقِرَ إِلَى عِلَّةٍ
وُجُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْوَاجِبَ اللَّازِمَ لِذَاتِهِ عَدَمٌ وَاجِبٌ،
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَّةٍ وُجُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْوَاجِبَ
يَتَّصِفُ بِهِ الْمُمْتَنِعُ، وَالْمُمْتَنِعُ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ لَا
يَفْتَقِرُ إِلَى عِلَّةٍ وُجُودِيَّةٍ، وَعَدَمُ وُجُودِ الرَّبِّ مُمْتَنِعٌ
لِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ
عِلَّةٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
قَوْلُهُ: وَالصِّفَاتُ وَالْأَحْوَالُ، وَالْأَحْكَامُ عَلَى اخْتِلَافِ آرَاءِ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ، فَيُقَالُ. لَهُ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ
هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
الْمُتَّبَعِينَ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَسَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ
الْكَلَامِ مِثْلِ الْهِشَامِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ وَالْكُلَّابِيَّةِ
وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ،
وَهُمْ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَجَمَاعَتِهَا مِنْ أَبْعَدِ
النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَوَافَقَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ
وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ مَشْهُورُونَ بِالِابْتِدَاعِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ
فَهِيَ الْحُكْمُ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ، وَهَذَا هُوَ
الْخَبَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا تُثْبِتُهُ الْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهُمْ مَعَ سَائِرِ الْمُثْبِتَةِ لَكِنْ غُلَاةُ
الْجَهْمِيَّةِ يَنْفُونَ أَسْمَاءَهُ، وَيَجْعَلُونَهَا مَجَازًا، فَيَجْعَلُونَ
الْخَبَرَ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مِنَ النُّفَاةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ
فَالذَّاتُ لَمْ تَقْتَضِ شَيْئًا ; لِأَنَّ كَلَامَ الْمُخْبِرِينَ وَحُكْمُهُمْ
أَمْرٌ قَائِمٌ بِهِمْ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ
يُثْبِتِ الْأَحْكَامَ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ:
هِيَ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ، فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ
كَالْمَوْجُودَاتِ.
بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى
مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: صِفَاتُهُ مَوْجُودَةٌ قَائِمَةٌ
بِهِ، وَمَخْلُوقَاتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ
صِفَاتُهُ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ لَا يُقَالُ
إِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ
مَعْدُومَةً، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي
أَبْدَعَهَا، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّفَاتِ لَهَا ذَوَاتٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ
وُجُودِهَا، وَتِلْكَ الذَّوَاتُ تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، كَمَا يَقُولُ
ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمَفْعُولَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ
تَمْثِيلَ صِفَاتِهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ
طَائِفَةٍ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ:
قَوْلُهُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا وَاجِبَ الثُّبُوتِ بِأَعْيَانِهَا، بَلْ هِيَ
بِمَا هِيَ مُمْكِنَةُ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِهَا وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ نَظَرًا
إِلَى ذَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَلَامٌ مَمْنُوعٌ بَلْ بَاطِلٌ، بَلِ الصِّفَاتُ
مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ بِدُونِ صِفَاتِهَا
اللَّازِمَةِ وَلَا وُجُودُ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ بِدُونِ الذَّاتِ، وَكُلٌّ
مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلْآخَرِ مَلْزُومٌ لَهُ، وَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ
الذَّاتَ هِيَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ دُونَ الصِّفَاتِ مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ، وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الصِّفَاتُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ دُونَ
الذَّاتِ لَكِنَّ الذَّاتَ وَاجِبَةٌ نَظَرًا إِلَى وُجُوبِ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ
فَسَّرُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِالْمَوْجُودِ نَفْسِهِ أَوْ بِمَا لَا يَقْبَلُ
الْعَدَمَ، أَوْ بِمَا لَا فَاعِلَ لَهُ وَلَا عِلَّةً فَاعِلَةً أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ إِذَا فُسِّرَ الْوَاجِبُ بِالْقَائِمِ
بِنَفْسِهِ، وَالْمُمْكِنُ بِالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ وَوَضْعٌ مَحْضٌ، وَغَايَتُهُ مُنَازَعَةٌ
لَفْظِيَّةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا.
الْوَجْهُ السَّابِعُ:
قَوْلُهُ: فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْثِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ الْعَدَمِ،
فَيُقَالُ. لَهُ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ الذَّاتُ
الْمُسْتَلْزِمَةُ لِصِفَاتِهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصِّفَاتِ.
وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ
التَّأْثِيرِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِلْزَامُ فَكِلَاهُمَا مُؤَثِّرٌ فِي
الْآخَرِ إِذْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا
وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَا مُمْكِنًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِلَفْظِ
التَّأْثِيرِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَبْدَعَ الْآخَرَ، أَوْ فَعَلَهُ أَوْ جَعَلَهُ
مَوْجُودًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْقَلُ فِي إِبْدَاعِ الْمَصْنُوعَاتِ،
فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إِنَّ الْمَوْصُوفَ أَبْدَعَ
صِفَاتِهِ اللَّازِمَةَ ، وَلَا خَلَقَهَا، وَلَا صَنَعَهَا، وَلَا فَعَلَهَا،
وَلَا جَعَلَهَا مَوْجُودَةً، وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا
الْمَعْنَى.
بَلْ مَا يَحْدُثُ فِي
الْحَيِّ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ الصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّهُ فَعَلَ
ذَلِكَ أَوْ أَبْدَعَهُ أَوْ صَنَعَهُ، فَكَيْفَ بِمَا يَكُونُ مِنَ الصِّفَاتِ
لَازِمًا لَهُ كَحَيَاتِهِ وَلَوَازِمِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ هَذَا
فِي غَيْرِ الْحَيِّ مِثْلَ الْجَمَادِ، وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْأَجْسَامِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَ قَدْرَهُ اللَّازِمَ،
وَفَعَلَ تَخَيُّرَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ، بَلِ
الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمُ الْمُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ
وَالْإِرَادِيَّةِ، وَالَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ إِلَّا الْإِرَادِيَّةَ لَيْسَ
فِيهِمْ مَنْ يَجْعَلُ مَا يَلْزَمُ الذَّاتَ مِنْ صِفَاتِهَا مَفْعُولًا لَهَا
لَا بِالْإِرَادَةِ وَلَا بِالطَّبْعِ، بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ آثَارِهَا
الصَّادِرَةِ عَنْهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ لَهَا وَمَفْعُولَاتٌ، وَبَيْنَ
صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا، بَلْ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِلذَّاتِ
تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ بَعْضِ صِفَاتِهَا الْعَارِضَةِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إِلَى
فِعْلِهَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بِهِ كَحُصُولِ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ، وَحُصُولِ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ،
بِخِلَافِ اللَّازِمَةِ، وَمَا يَحْصُلُ بِدُونِ قُدْرَتِهَا وَفِعْلِهَا
وَاخْتِيَارِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِيهِ،
وَإِنَّهُ مِنْ أَثَرِهَا، بَلْ يَقُولُ إِنَّهُ لَازِمٌ لَهَا وَصِفَةٌ لَهَا،
وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ وَمَوْصُوفَةٌ بِهِ، وَقَدْ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ
مُقَوِّمٌ لَهَا وَمُتَمِّمٌ لَهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ
فَاعِلَ الشَّيْءِ هُوَ فَاعِلُ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِامْتِنَاعِ فِعْلِ
الشَّيْءِ بِدُونِ صِفَاتِه اللَّازِمَةِ.
وَأَيْضًا، فَالذَّاتُ مَعَ
تَجَرُّدِهَا عَنِ الصِّفَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي شَيْءٍ،
فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي صِفَاتِ نَفْسِهَا، فَإِنَّ شَرْطَ
كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً أَنْ تَكُونَ حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً، فَلَوْ كَانَتْ
هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي كَوْنِهَا حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً لَكَانَتْ
مُؤَثِّرَةً بِدُونِ اتِّصَافِهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ
امْتِنَاعُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، بَلْ صِفَاتُهَا اللَّازِمَةُ لَهَا أَكْمَلُ
مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ بِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ
فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الذَّاتِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ
هَاهُنَا تَأْثِيرٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فِي صِفَاتِهَا إِلَّا أَنْ
يُسَمِّيَ الْمُسَمَّى الِاسْتِلْزَامَ تَأْثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَحِينَئِذٍ
فَيُقَالُ لَهُ: مِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لَا يُمْكِنُ
التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَكَ
لِاسْتِلْزَامِ الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا
تَأْثِيرًا لَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا كَإِبْدَاعِهَا لِمَخْلُوقَاتِهَا،
فَهَبْ أَنَّكَ سَمَّيْتَ كُلَّ اسْتِلْزَامٍ تَأْثِيرًا، لَكِنَّ دَعْوَاكَ
بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَفْعُولَ مَلَازِمٌ لِخَالِقِهِ وَفَاعِلِهِ،
مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ
جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ
هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، لَا يُعْرَفُ قَطُّ شَيْءٌ أَبْدَعَ
شَيْئًا، وَهُوَ مُقَارِنٌ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونَانِ مُتَقَارِنَيْنِ فِي
الزَّمَانِ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، بَلْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ
الْعَقْلِ أَنَّ التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ إِبْدَاعُ الشَّيْءِ وَخَلْقُهُ،
وَجَعْلُهُ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَّا
فَالْمَوْجُودُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا لَا يَفْتَقِرُ قَطُّ
إِلَى مُبْدِعٍ خَالِقٍ يَجْعَلُهُ مَوْجُودًا، وَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا يَقْبَلُ
الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، بَلْ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، فَلَا
يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ الْعَدَمَ.
يوم
الأربعاء 12 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون