بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس السادس عشر: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
قَالَ الرَّازِيُّ:
الْبُرْهَانُ الْعَاشِرُ:
جِهَةُ الِاحْتِيَاجِ لَا بُدَّ وَأَنْ لَا تَبْقَى مَعَ الْمُؤَثِّرِ، كَمَا
كَانَتْ لَا مَعَ الْمُؤَثِّرِ، وَإِلَّا لَبَقِيَتِ الْحَاجَةُ مَعَ الْمُؤَثِّرِ
إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْحُدُوثَ جِهَةَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى
الْمُؤَثِّرِ، وَالْحُدُوثَ مَعَ الْمُؤَثِّرِ كَهُوَ لَا مَعَ الْمُؤَثِّرِ ;
لِأَنَّ الْحُدُوثَ هُوَ الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ
الْوُجُودُ بِالْفَاعِلِ أَوْ لَا بِالْفَاعِلِ، فَهُوَ وُجُودٌ بَعْدَ الْعَدَمِ،
وَسَوَاءٌ أُخِذَ حَالَ الْحُدُوثِ، أَوْ حَالَ الْبَقَاءِ، فَهُوَ فِي
كِلَيْهِمَا وُجُودٌ بَعْدَ الْعَدَمِ، فَإِذَنْ هُوَ مَعَ الْمُؤَثِّرِ كَهُوَ
لَا مَعَ الْمُؤَثِّرِ، فَيَلْزَمُ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ أَمَّا إِذَا
جَعَلْنَا الْإِمْكَانَ جِهَةَ الِاحْتِيَاجِ، فَهُوَ عِنْدَ الْمُؤَثِّرِ لَا
يَبْقَى، كَمَا كَانَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّ الْمَاهِيَّةَ مَعَ الْمُؤَثِّرِ
لَا تَبْقَى مُمْكِنَةً أَلْبَتَّةَ فَعُلِمَ أَنَّ الْحُدُوثَ لَا يَصْلُحُ
جِهَةَ الِاحْتِيَاجِ» .
فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ
جِنْسِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ:
كَوْنُ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ لَا تَبْقَى مُمْكِنَةً أَلْبَتَّةَ هُوَ
وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا مَعَ الْحُدُوثِ أَيْضًا، بَلْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا
مَعَ الْحُدُوثِ، فَإِنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ يَصِيرُ وَاجِبًا
بِالْفَاعِلِ هُوَ الْمُحْدَثُ أَمَّا الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ فَهُوَ مَوْرِدُ
النِّزَاعِ.
وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ
يَقُولُونَ: نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فَاعِلٌ،
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ نَظَرِيَّةً فَالْمُنَازِعُ لَمْ يُقِمْ
عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا أَلْبَتَّةَ إِذْ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ
مِنَ الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنْ
تَدُلَّ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ بَعْدَ
شَيْءٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمُحْدَثَ وَاجِبٌ
بِفَاعِلِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ:
الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ إِذَا كَانَ بِالْفَاعِلِ اقْتَضَى وُجُوبَ
الْمُحْدَثِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْفَاعِلِ امْتَنَعَ الْحُدُوثُ،
فَلَمْ يَكُنِ الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ كَهُوَ لَا مَعَ
الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ، وَفِي هَذِهِ مُمْتَنِعٌ،
كَمَا أَنَّ الْمُمْكِنَ مَعَ الْمُؤَثِّرِ وَاجِبٌ، وَبِدُونِ الْمُؤَثِّرِ
مُمْتَنِعٌ،وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا مَعَ الْمُؤَثِّرِ مَعَ كَوْنِهِ حَادِثًا لَمْ
يَحْتَجْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي:
أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: الْمَاهِيَّةُ مَعَ الْمُؤَثِّرِ لَا تَبْقَى مُمْكِنَةً
أَلْبَتَّةَ إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَا تَبْقَى مُحْتَاجَةً إِلَى
الْمُؤَثِّرِ، أَوْ لَا يَبْقَى عِلَّةُ احْتِيَاجِهَا هُوَ الْإِمْكَانُ، فَهَذَا
بَاطِلٌ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقُولُونَهُ دَائِمًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا
لَا تَبْقَى مُمْكِنَةَ الْعَدَمِ لِوُجُوبِهَا بِالْغَيْرِ، فَهَذَا يُنَاقِضُ مَا
يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا
وَعَدَمُهَا مَعَ كَوْنِهَا وَاجِبَةً بِالْغَيْرِ، وَحِينَئِذٍ فَبَطَلَ
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ يَكُونُ مُمْكِنًا، فَلَيْسَ شَيْءٌ
مِنَ الْقَدِيمِ الْأَوَّلِيِّ بِمُمْكِنٍ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ بِانْعِكَاسِ
النَّقِيضِ، فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ الْمُمْكِنِ بِقَدِيمٍ أَزَلِيٍّ، فَثَبَتَ
أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ،
وَإِذَا بَطَلَ الْمَذْهَبُ بَطَلَتْ جَمِيعُ أَدِلَّتِهِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ
لَازِمٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ، فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَتِ
الْمَلْزُومَاتُ كُلُّهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ جِهَةُ الِاحْتِيَاجِ لَا بُدَّ وَأَنْ لَا تَبْقَى مَعَ الْمُؤَثِّرِ.
كَمَا كَانَتْ لَا مَعَ الْمُؤَثِّرِ، أَتُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى
الْمُؤَثِّرِ لَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ، كَمَا يَكُونُ مَعَ
الْمُؤَثِّرِ؟ أَمْ تُرِيدُ أَنَّ عِلَّةَ احْتِيَاجِهِ أَوْ شَرْطَ احْتِيَاجِهِ
أَوْ دَلِيلَ احْتِيَاجِهِ يَخْتَلِفُ فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْأَوَّلَ
فَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُحْدَثَ بَعْدَ الْعَدَمِ لَا يَكُونُ مَعَ
الْمُؤَثِّرِ، كَمَا كَانَ مَعَ عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّهُ
مَعَ عَدَمِهِ مَعْدُومٌ،
بَلْ وَاجِبُ الْعَدَمِ، وَمَعَ وُجُودِهِ مَوْجُودٌ، بَلْ وَاجِبُ الْوُجُودِ.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحُدُوثَ هُوَ الْوُجُودُ
بَعْدَ الْعَدَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْوُجُودُ بِالْفَاعِلِ أَوْ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ
تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ كَوْنَهُ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا
يَكُونُ حُدُوثٌ بَعْدَ الْعَدَمِ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ حَتَّى يُسَوَّى بَيْنَهُ
فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي حَالِ عَدَمِهَا، بَلْ هَذَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ:
رُجْحَانُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْفَاعِلِ أَوْ بِغَيْرِ
الْفَاعِلِ.
وَإِنْ أَرَدْتَ بِذَلِكَ
أَنَّهُ مَا كَانَ عِلَّةً أَوْ دَلِيلًا أَوْ شَرْطًا فِي أَحَدِ الْحَالَيْنِ
لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى، فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ عِلَّةَ
احْتِيَاجِ الْأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ إِذَا قِيلَ: هُوَ الْإِمْكَانُ ، أَوِ
الْحُدُوثُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، فَهُوَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا، فَإِنَّا نَعْلَمُ
أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِفَاعِلٍ سَوَاءٌ حَدَثَ أَوْ لَمْ
يَحْدُثْ وَالْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ سَوَاءٌ
تَرَجَّحَ أَوْ لَمْ يَتَرَجَّحْ لَكِنَّ هَذَا الِاحْتِيَاجَ إِنَّمَا يُحَقَّقُ
فِي حَالِ وُجُودِهِ إِذْ مَا دَامَ مَعْدُومًا، فَلَا فَاعِلَ لَهُ.وَقَوْلُكَ:
وَإِلَّا لَبَقِيَتِ الْحَاجَةُ مَعَ الْمُؤَثِّرِ إِلَى مُوَثَّرٍ آخَرَ إِنَّمَا
يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسَلَّمِ دُونَ الْمَمْنُوعِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ بِالْمُؤَثِّرِ يَحْصُلُ وُجُودُهُ لَا يَفْتَقِرُ مَعَ
الْمُؤَثِّرِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعَ
الْمُؤَثِّرِ لَا يَكُونُ عِلَّةُ
حَاجَتِهَا أَوْ دَلِيلُهَا أَوْ شَرْطُهَا الْحُدُوثَ أَوِ الْإِمْكَانَ أَوْ
مَجْمُوعَهُمَا، بَلْ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَالَ وُجُودِهِ
أَظْهَرُ مِنْ ثُبُوتِهِ لَهُ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى
ذَلِكَ حَالَ وُجُودِهِ لَا حَالَ عَدَمِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا
قُلْنَا: احْتَاجَ إِلَى الْمُؤْثِرِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَهَذَا
الْوَصْفُ ثَابِتٌ لَهُ حَالَ وُجُودِهِ، كُنَّا قَدْ أَثْبَتْنَا عِلَّةَ
حَاجَتِهِ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَالْعِلَّةُ حَاصِلَةٌ.
وَإِذَا قُلْنَا: الْعِلَّةُ
هِيَ الْإِمْكَانُ، وَادَّعَيْنَا انْتِفَاءَهَا عِنْدَ وُجُودِهِ كُنَّا قَدْ
عَلَّلْنَا حَاجَتَهُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ بَعْدَ وَقْتَ وُجُودِهِ بِعِلَّةٍ
مُنْتَفِيَةٍ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ.
وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا
يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا غَيَّرُوا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
عَلَيْهَا عِبَادَهُ ، فَخَرَجُوا عَنْ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ
الْمَنْقُولِ، وَدَخَلُوا فِي هَذَا الْإِلْحَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ
جَوَامِعِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ صَارَ فِي أَقْوَالِهِمْ مِنَ التَّنَاقُضِ
وَالْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ الْعِبَادِ مَعَ دَعْوَاهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْحِكَمِيَّةِ،
وَأَنَّ الْعُلُومَ الْحَقِيقِيَّةَ فِيمَا يَقُولُونَهُ لَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ
رُسُلُ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلِيقَةِ وَأَعْلَمُهُمْ
بِالْحَقِيقَةِ.
وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ
يُخَالِفُونَ الْمَعْقُولَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ بِمِثْلِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ،
إِذْ مِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهُ هُوَ
مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا، أَمَّا إِذَا
قُدِّرَ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْعَدَمِ، فَفِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يَحْتَاجُ
عَدَمُهُ إِلَى خَالِقٍ لِوُجُودِهِ بَلْ وَلَا فَاعِلٍ لِعَدَمِهِ، وَهُمْ وَإِنْ
قَالُوا: عَدَمُهُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُرَجِّحٍ، فَالْمُرَجِّحُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ
الْعِلَّةِ، فَالْجَمِيعُ عَدَمٌ، لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ الْعَدَمَ يَفْتَقِرُ
إِلَى مَوْجُودٍ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا
بَيِّنًا، فَقَوْلُهُ: جِهَةَ الِاحْتِجَاجِ لَا بُدَّ وَأَنْ لَا تَبْقَى مَعَ
الْمُؤَثِّرِ كَمَا كَانَتْ لَا مَعَ الْمُؤَثِّرِ هُوَ كَلَامٌ مُلْبِسٌ، فَإِنَّ
الِاحْتِيَاجَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ كَوْنِ الْمُؤَثِّرِ مُؤَثِّرًا، فَكَيْفَ
تَزُولُ حَاجَتُهُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مُحْتَاجٌ
إِلَى الْمُؤَثِّرِ. وَكَيْفَ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الْمُؤَثِّرِ حِينَ لَمْ
يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُؤَثِّرٍ أَصْلًا. وَفِي
حَالِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ؟ .
وَإِنْ قَالُوا: هُوَ فِي
حَالِ عَدَمِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا بِمُؤَثِّرٍ، قُلْنَا: فَهَذَا
بَعْضُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِمُؤَثِّرٍ أَمْرٌ
لَازِمٌ لَهُ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ فِي حَالِ عَدَمِهِ دُونَ حَالِ
وُجُودِهِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ
مُسْتَلْزِمٌ لِحُدُوثِ الْمَفْعُولِ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَ
مُسْتَلْزِمَةٌ لِحُدُوثِ الْمُرَادِ، فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَفْعُولٍ
وَكُلَّ مَا أُرِيدَ فِعْلُهُ فَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عُمُومًا،
وَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ إِرَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ
لِشَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ يُقَارِنُهَا مُرَادُهَا أَزَلًا وَأَبَدًا سَوَاءٌ
كَانَتْ عَامَّةً لِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ أَوْ كَانَتْ خَاصَّةً بِبَعْضِ
الْمَفْعُولَاتِ، ثُمَّ يُقَالُ: أَمَّا كَوْنُهَا عَامَّةً لِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ فَامْتِنَاعُهُ
ظَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ
أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ قَدِيمًا
أَزَلِيًّا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ، وَهُوَ
مُخَالِفٌ لِمَا يَشْهَدُهُ الْخَلْقُ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ حُدُوثِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْيَانِ
وَالْأَعْرَاضِ كَحَرَكَةِ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَحَرَكَةِ
الرِّيَاحِ، وَكَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْحَيَوَانِ
وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ.
وَأَمَّا إِرَادَةُ شَيْءٍ
مُعَيَّنٍ، فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ
لَهُ إِلَّا تِلْكَ الْإِرَادَةُ الْأَزَلِيَّةُ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَهُ
إِرَادَاتٌ تَحْصُلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرِيدُ الْأَزَلِيُّ فِي الْأَزَلِ
مُقَارِنًا لِمُرَادِهِ الْأَزَلِيِّ، فَلَا يُرِيدُ شَيْئًا مِنَ الْحَوَادِثِ
لَا بِالْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ وَلَا بِإِرَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ ; لِأَنَّهُ
إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمُرِيدَ الْأَزَلِيَّ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهُ مُرَادُهُ
كَانَ الْحَادِثُ حَادِثًا إِمَّا بِإِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ فَلَا يُقَارِنُ
الْمُرِيدُ مُرَادَهُ، وَإِمَّا حَادِثًا بِإِرَادَةٍ حَادِثَةٍ مُقَارِنَةٍ لَهُ،
وَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ لَيْسَ
لَهُ إِلَّا إِرَادَةٌ وَاحِدَةٌ أَزَلِيَّةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ
تِلْكَ الْإِرَادَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ
السَّبَبِ الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ: يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ
بِالْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمُقَارَنَةِ مُرَادِهَا لَهَا،
وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ بِلَا إِرَادَةٍ لِامْتِنَاعِ حُدُوثِ الْحَادِثِ
بِلَا إِرَادَةٍ، فَيَجِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ
الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ مَشْرُوطَةً بِإِرَادَةٍ لَهُ، وَبِإِرَادَةٍ لِلْحَادِثِ
الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُبْدِعَ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِكُلِّ
مَا يَحْدُثُ مِنَ الْمُرَادَاتِ.
وَهَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ
الثَّانِي. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ شَيْئًا بَعْدَ
شَيْءٍ، فَكُلُّ مُرَادٍ لَهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ
وَحْدَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ
مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَلَيْسَ
فِيهِ إِلَّا دَوَامُ الْحَوَادِثِ وَتَسَلْسُلُهَا، وَهَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ
الَّذِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ الْفَاعِلِ مَا
يُرِيدُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ
وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، بَلْ قَوْلُ أَسَاطِينِهِمْ
مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ جِسْمًا أَوْ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَدِيمًا سَوَاءٌ قِيلَ بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ وَتَسَلْسُلِهَا، وَأَنَّهُ لَا أَوَّلَ لَهَا، أَوْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ قِيلَ بِأَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، أَوْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَالْأَفْلَاكِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ قَوْلُهُمْ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ الَّذِي لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ هَذَا
الْأَصْلَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَصَادَمَتْ فِيهِ أَئِمَّةُ الطَّوَائِفِ مِنْ
أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، وَالْكَلَامِ، وَالْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ
الْكَلَامُ فِي الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ،
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْكَلَامُ فِي
كَلَامِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مِنْ
مَحَارَاتِ الْعُقُولِ، فَالْفَلَاسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ
كَانُوا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الْمُوَافِقِ
لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْزَمُوا أَهْلَ
الْكَلَامِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَى نَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ
وَالصِّفَاتِ بِذَاتِهِ، أَوْ عَلَى نَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ بِذَاتِهِ
بِلَوَازِمِ قَوْلِهِمْ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ مِنْ تَنَاقُضِ أَهْلِ الْكَلَامِ مَا
اسْتَطَالَ بِهِ عَلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ، وَذَمَّهُمْ بِهِ عُلَمَاءُ
الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَكَانَ
كَلَامُهُمْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ السَّلَفُ لِمَا فِيهِ مِنَ
الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ الَّذِي خَالَفُوا بِهِ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِهِمْ
وَدَلَائِلِهِمْ، فَبَقُوا فِيهِ مُذَبْذَبِينَ مُتَنَاقِضِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا
بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا قَهَرُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ
بِالْحَقِّ الصَّرِيحِ الْمَعْقُولِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ
لَمْ يُحَقِّقُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَمْ يَعْلَمُوهُ، وَلَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ، وَلَا حَقَّقُوا مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ، فَنَقَصُوا فِي
عِلْمِهِمْ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُمَا
نَصِيبٌ كَبِيرٌ، فَوَافَقُوا فِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ
قَالُوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ﴾ [سُورَةِ الْمُلْكِ: ١٠] وَفَرَّعُوا مِنَ الْكَلَامِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ
وَأَفْعَالِهِ مَا هُوَ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ، كَمَا هِيَ
مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ.
وَالَّذِي نَبَّهْنَا
عَلَيْهِ هُنَا يُعْلَمُ بِهِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ عَلَى مَا جَاءَتْ
بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ
يُخْطِئُ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَلَائِلِهِ، وَمَسَائِلِهِ ، فَلَا يَسُوغُ، وَلَا
يُمْكِنُ نَصْرُ قَوْلِهِ مُطْلَقًا، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقَالَ إِلَّا
الْحَقَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ
لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ١٦٩] .
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ
نَصْرَ حَقٍّ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ أَوْ رَدَّ بَاطِلٍ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ نُصِرَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُفِيدُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ
يَسْتَقِمْ دَلِيلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ بُيِّنَ كَيْفَ يُمْكِنُ
إِثْبَاتُهُ بِطَرِيقَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ قَوْلِهَا وَقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى،
فَإِنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ أَنْ تُوَافِقَ طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِ
الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ لَهَا مِنْ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ،
وَكَذَلِكَ أَنْ تُوَافِقَ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ
عَنِ الْمَعْقُولِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْقَوْلُ كُلَّمَا كَانَ أَفْسَدَ فِي
الشَّرْعِ كَانَ أَفْسَدَ فِي الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَنَاقَضُ،
وَالرُّسُلُ إِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِالْحَقِّ، وَاللَّهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى
مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالرُّسُلُ بُعِثَتْ بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ، لَا بِتَغْيِيرِ
الْفِطْرَةِ. قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [سُورَةُ فُصِّلَتْ:
٥٣] .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
سَيُرِيهِمُ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ الْمُبَيِّنَةَ لِأَنَّ
الْقُرْآنَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عِبَادَهُ حَقٌّ، فَتَتَطَابَقُ الدَّلَالَةُ
الْبُرْهَانِيَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْبُرْهَانِيَّةُ الْعِيَانِيَّةُ،
وَيَتَصَادَقُ مُوجَبُ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ وَالنَّظَرِ الْمَعْقُولِ.
لَكِنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ
الْمُحْدَثِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ، مِنَ الْجَهْمِيَّةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ
مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْتَدَعُوا فِي أُصُولِ دِينِهِمْ حُكْمًا وَدَلِيلًا،
فَأَخْبَرُوا عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِمَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابٌ
وَلَا سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي
كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، فَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي أَصَّلُوهُ وَنَقَلُوهُ عَنْ
أَهْلِ الْمِلَلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا بِدْعَةً فِي الشَّرْعِ لَا
أَصْلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، مَعَ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ
يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا فِي مُخَالَفَةِ
الْمَعْقُولِ بِمَنْزِلَتِهِمْ فِي مُخَالَفَةِ الْمَنْقُولِ، وَقَابَلَتْهُمُ
الْمَلَاحِدَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ مُخَالَفَةً لِصَحِيحِ
الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا هُوَ مِمَّا
يُعْلَمُ بِهِ حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَامْتِنَاعُ قِدَمِ شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ مِنَ الْعَالَمِ بِقِدَمِ اللَّهِ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ عَلَى كُلِّ
تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ، وَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ
الْعِبَارَاتِ، وَتَأْلِيفُهُ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ التَّأْلِيفَاتِ، فَإِنَّ
الْمَادَّةَ إِذَا كَانَتْ مَادَّةً صَحِيحَةً أَمْكَنَ تَصْوِيرُهَا بِأَنْوَاعٍ
مِنَ الصُّوَرِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ
الْأَدِلَّةِ الْمُغَالِطِيَّةِ الَّتِي قَدْ رُكِّبَتْ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ
بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّهَا مَتَى غُيِّرَ تَرْتِيبُهَا وَأَلْفَاظُهَا،
وَنُقِلَتْ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ ظَهَرَ خَطَؤُهَا، فَالْأُولَى كَالذَّهَبِ
الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ إِذَا نُقِلَ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
جَوْهَرُهُ، بَلْ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ ذَهَبٌ، وَأَمَّا الْمَغْشُوشُ فَإِنَّهُ
إِذَا غُيِّرَ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ ظَهَرَ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ.
وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ
الْمَذْكُورَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَأَنَّ كُلَّ
مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، سَوَاءٌ قِيلَ
بِدَوَامِ نَوْعِ الْفِعْلِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ
وَأَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ لَمْ يَقُلْ.
وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَقُلْ
بِذَلِكَ يَظْهَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَوَائِفِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهَا مِنَ
النِّزَاعِ وَالْخُصُومَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ مَا أَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ مَنْ
لَمْ يُشْرِكْهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ تَتَكَافَأْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ وَيَبْقَى
فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ وَالِاضْطِرَابِ قَدْ عَافَى اللَّهُ
مِنْهَا مَنْ هَدَاهُ وَبَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ:
٢١٣]
فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ
يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ فِي الْقِدَمِ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ
كَائِنًا مَا كَانَ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ
كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُوجِبٌ
بِذَاتِهِ أَوْ عِلَّةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَعْلُولِ، أَوْ سُمِّيَ مُؤَثِّرًا؛
لِكَوْنِ لَفْظِ التَّأْثِيرِ يَعُمُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ
الْفَاعِلُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِذَاتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، بَلْ
هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقِدَمِ الَّذِي اسْتَحَقَّ مَا سِوَاهُ كَوْنَهُ
مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ.
وَلَكِنَّ الِاسْتِدْلَالَ
عَلَى ذَلِكَ بِالطَّرِيقَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلِيَّةِ، طَرِيقَةُ
الْأَعْرَاضِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ
الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ،
وَامْتِنَاعُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا طَرِيقَةٌ مُبْتَدَعَةٌ فِي الشَّرْعِ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَةٌ مُخْطِرَةٌ مَخُوفَةٌ فِي
الْعَقْلِ، بَلْ مَذْمُومَةٌ عِنْدَ طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ
بُطْلَانُهَا؛ لِكَثْرَةِ مُقَدِّمَاتِهَا وَخَفَائِهَا وَالنِّزَاعِ فِيهَا عِنْدَ
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ «كَالْأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ
الثَّغْرِ » وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي ذَلِكَ كَالْخَطَّابِيِّ وَأَبِي عُمَرَ
الطَّلَمَنْكِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ
وَالْعَقْلِ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْأَئِمَّةِ الْعَالِمِينَ بِحَقَائِقِ
الْمَعْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ
الطَّرِيقِ أَوْجَبَ نَفْيَ صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِهِ، وَنَفْيَ
أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ، وَأَوْجَبَتْ مِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّةِ مَا هُوَ
مَعْرُوفٌ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَسُلِّطَتْ بِذَلِكَ الدَّهْرِيَّةُ عَلَى
الْقَدْحِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ، فَلَا قَامَتْ بِتَقْرِيرِ
الدِّينِ، وَلَا قَمَعَتْ أَعْدَاءَهُ الْمُلْحِدِينَ، وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ
عَلَى مَنْ سَلَكَهَا قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ، بَلْ كَلَامُهُ
مَخْلُوقٌ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا تَسْتَلْزِمُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ
ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْقَوْلِ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنْهُ
مُعَيَّنٍ: إِمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَإِمَّا حُرُوفٌ، أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ
مُعَيَّنَةٌ يَقْتَرِنُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَهِيَ أَقْوَالٌ
مُحْدَثَةٌ بَعْدَ حُدُوثِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا مِنَ
الْفَسَادِ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، لَكِنِ الْقَائِلُونَ بِهَا
بَيَّنُوا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: هُوَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَكَانَ فِي كَلَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ
الْفَائِدَةِ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لَا صِحَّةُ
قَوْلِهَا؛ إِذِ الْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلْحَقِّ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ،
وَكَانَ النَّاسُ لَمَّا
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - ﷺ - فِي ضَلَالٍ عَظِيمٍ كَمَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ
اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا
بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ
فَأَنْذِرْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ إِذَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ
خُبْزَةً فَقَالَ: إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ
كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ
جُنْدًا، ابْعَثْ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ،
وَأَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ
فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ،
وَأَمَرْتُهُمْ أَلَّا يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا»
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ .
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
الْمُوَافِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، فَلَمَّا قُتِلَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رضي الله عنه -، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فَاقْتَتَلَ
الْمُسْلِمُونَ بِصِفِّينَ، مَرَقَتِ الْمَارِقَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا
النَّبِيُّ - ﷺ -: ««تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقّ». وَكَانَ
مُرُوقُهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَكَمَانِ وَافْتَرَقَ النَّاسُ عَلَى غَيْرِ
اتِّفَاقٍ.
وَحَدَثَتْ أَيْضًا بِدْعَةُ
التَّشَيُّعِ كَالْغُلَاةِ الْمُدَّعِينَ لِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ، وَالْمُدَّعِينَ
النَّصَّ عَلَى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - السَّابِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -
رضي الله عنهما -، فَعَاقَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه
الطَّائِفَتَيْنِ: قَاتَلَ الْمَارِقِينَ، وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ
فَسَجَدُوا لَهُ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَنْتَ هُوَ. قَالَ: مَنْ
أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ
هَذَا كُفْرٌ، ارْجِعُوا عَنْهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمْ، فَصَنَعُوا بِهِ
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَذَلِكَ فَأَخَّرَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛
لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعُوا
أَمَرَ بِأَخَادِيدَ مِنْ نَارٍ فَخُدَّتْ عِنْدَ بَابِ كِنْدَةَ، وَقَذَفَهُمْ
فِي تِلْكَ النَّارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ
أَمْرًا مُنْكَرَا أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا وَقَتْلُ هَؤُلَاءِ
وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ فِي جَوَازِ تَحْرِيقِهِمْ نِزَاعٌ:
فِعْلِيٌّ رضي الله عنه رَأَى تَحْرِيقَهُمْ، وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ
لَمْ أُحْرِقْهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ،
وَلَضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - ﷺ -: ««مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ
فَاقْتُلُوهُ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَأَمَّا
السَّبَّابَةُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّ عَلِيًّا
لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ طَلَبَ ابْنَ السَّوْدَاءِ الَّذِي بَلَغَهُ ذَلِكَ
عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى أَرْض
قَرْقِيسِيَا.
وَأَمَّا الْمُفَضِّلَةُ
الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا
ضَرَبْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي، وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو
بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، رُوِيَ هَذَا عَنْهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا،
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَتِ الشِّيعَةُ
الْمُتَقَدِّمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
فَهَاتَانِ الْبِدْعَتَانِ:
بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا
وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ حَدَثَتْ
بِدْعَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ .
يوم
السبت 15 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون