الاربعاء ، ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ -
الصوتيات

الدرس السابع عشر: من التعليق على كتابِ ‌مِنْهَاجِ ‌السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - ‌رَحِمَهُ ‌اللَّهُ -

07-12-2025 | عدد المشاهدات 82 | عدد التنزيلات 39




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 

الدرس السابع عشر: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ  _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

 

يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

ثُمَّ إِنَّهُ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ مِنْ أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الْجَهْمِيَّةِ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، فَطَلَبَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فَضَحَّى بِهِ بِوَاسِطٍ، فَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ

ثُمَّ ظَهَرَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَدَخَلَتْ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا حُدُوثَ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَأَثْبَتُوا حُدُوثَ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ مَا يَسْتَلْزِمُهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَقَالُوا: الْأَجْسَامُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ أَعْرَاضٍ مُحْدَثَةٍ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا.

ثُمَّ إِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، فَلَمَّا قَالُوا بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي عُورِضُوا بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَطَرَدَ إِمَامَا هَذِهِ الطَّرِيقَةِ هَذَا الْأَصْلَ، وَهُمَا: إِمَامُ الْجَهْمِيَّةِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ  وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ إِمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَا بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي.

ثُمَّ إِنَّ جَهْمًا قَالَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ فَنَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُ يَعْدَمُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ مَا سِوَاهُ مَعْدُومًا. وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَعَدُّوهُ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ [سُورَةُ ص: ٥٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [سُورَةُ الرَّعْدِ: ٣٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا أَبُو الْهُذَيْلِ فَقَالَ: إِنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ الْحَوَادِثِ فَقَطْ، فَيُمْكِنُ بَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَكِنْ تَنْقَطِعُ الْحَرَكَاتُ، فَيَبْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سَاكِنِينَ لَيْسَ فِيهِمَا حَرَكَةٌ أَصْلًا، وَلَا شَيْءَ يَحْدُثُ. وَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُثْبِتَ أَجْسَامًا بَاقِيَةً دَائِمَةً خَالِيَةً عَنِ الْحَوَادِثِ، فَيَلْزَمُ وُجُودُ أَجْسَامٍ بِلَا حَوَادِثَ، فَيَنْتَقِضُ الْأَصْلُ الَّذِي أَصَّلُوهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ.

وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي أَصَّلَهُ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ الْجَوَالِيقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُجَسِّمَةِ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِ الرَّافِضَةِ كَالْكَرَّامِيَّةِ، فَقَالُوا: بَلْ يَجُوزُ ثُبُوتُ جِسْمٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَهُوَ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ. وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْجِسْمُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ، وَأَمَّا الْأَجْسَامُ الْمَخْلُوقَةُ فَلَا تَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ، وَيَقُولُونَ: مَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ، لَكِنْ لَا يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَوَادِثِ.

ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةَ أَصْحَابُ هَذَا الْأَصْلِ الْمُبْتَدَعِ احْتَاجُوا أَنْ يَلْتَزِمُوا طَرْدَ هَذَا الْأَصْلِ فَقَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا الْأَفْعَالُ فَإِنَّهَا أَعْرَاضٌ وَحَوَادِثُ، وَهَذِهِ لَا تَقُومُ إِلَّا بِجِسْمٍ، وَالْأَجْسَامُ مُحْدَثَةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَقُومَ بِالرَّبِّ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، بَلْ جَمِيعُ مَا يُوصَفُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ.

وَالْجَهْمِيَّةُ كَانُوا يَقُولُونَ: قَوْلُنَا: إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ هُوَ مَجَازٌ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، لَكِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. فَكَانَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمَادَّةُ الَّتِي تَشَعَّبَتْ عَنْهَا هَذِهِ الْبِدَعُ، فَجَاءَ ابْنُ كُلَّابٍ بَعْدَ هَؤُلَاءِ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَامْتُحِنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَجَرَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، قَامَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيُّ، وَصَنَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مُصَنَّفَاتٍ، وَبَيَّنَ تَنَاقُضَهُمْ فِيهَا وَكَشَفَ كَثِيرًا مِنْ عَوْرَاتِهِمْ، لَكِنْ سَلَّمَ لَهُمْ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ يَنْبُوعُ الْبِدَعِ، فَاحْتَاجَ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا نَادَى مُوسَى حِينَ جَاءَ الطُّورَ، بَلْ وَلَا يَقُومُ بِهِ نِدَاءٌ حَقِيقِيٌّ، وَلَا يَكُونُ إِيمَانُ الْعِبَادِ وَعَمَلُهُمُ الصَّالِحُ هُوَ السَّبَبُ فِي رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا كُفْرِهِمْ هُوَ السَّبَبُ فِي سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ، فَلَا يَكُونُ بَعْدَ أَعْمَالِهِمْ لَا حُبَّ وَلَا رِضَا وَلَا سُخْطَ وَلَا فَرَحَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: ٣١]

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾) [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ٢٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: ٥٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [سُورَةُ الزُّمَرِ: ٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: ٥٩]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: ١١] .

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تُحْصَى إِلَّا بِكُلْفَةٍ، وَهِيَ تَبْلُغُ مِئِينَ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرْنَا مَذَاهِبَ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا وَمُوَافَقَةَ أَسَاطِينِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.

ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ، فَاحْتَاجَ ابْنُ كُلَّابٍ وَمُتَّبِعُوهُ إِلَى أَنْ يَقُولُوا: هُوَ قَدِيمٌ، وَإِنَّهُ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَجَعَلُوا جَمِيعَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ قَدِيمَ الْعَيْنِ، لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدِيمُ النَّوْعِ، لَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ.

ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ، وَافْتَرَقُوا عَلَى حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ قَالُوا: يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ لِامْتِنَاعِ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا وَكَوْنِهَا تُوجَدُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، فَالْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى، وَيُمْتَنَعُ وُجُودُ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَالتَّخْصِيصُ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ لَا مُوجَبَ لَهُ، فَالْقَدِيمُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ، وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبِرٍ، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآيَةِ الدَّيْنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ.

وَالْحِزْبُ الثَّانِي قَالُوا: بَلِ الْحُرُوفُ أَوِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ، وَقَالُوا: التَّرْتِيبُ فِي ذَاتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ وُجُودِ الْحَقِيقَةِ كَمَا يُفَرِّقُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ بَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْفَلَاسِفَةِ يُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهَا، وَقَالُوا: التَّرْتِيبُ هُوَ فِي حَقِيقَتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا شَيْءٌ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهَا مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا عَقْلِيًّا كَتَرْتِيبِ الذَّاتِ عَلَى الصِّفَاتِ، وَكَتَرْتِيبِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الرَّبَّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ بِذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا، وَقَالُوا فِي تَقَدُّمِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَى مَعْلُولِهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ وَالتَّرْتِيبَ نَوْعَيْنِ: عَقْلِيًّا وَوُجُودِيًّا، وَيَدَّعُونَ أَنَّ مَا أَثْبَتُوهُ مِنَ التَّرْتِيبِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ هُوَ عَقْلِيٌّ لَا وُجُودِيٌّ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَيُنْكِرُونَ هَذَا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّ التَّرْتِيبَ وَالتَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَعْقِلُ إِلَّا وُجُودَ الشَّيْءِ بَعْدَ غَيْرِهِ، لَا يُمْكِنُ مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلَّةِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَهَا، وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَسْطًا كَبِيرًا وَلَكِنْ ذُكِرَ هُنَا مَا تَيَسَّرَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ الْكَلَامِيَّةَ الَّتِي ابْتَدَعَتْهَا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَأَنْكَرَهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا صَارَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النُّظَّارِ الْمُتَأَخِّرِينَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ، بَلْ  يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ خَالَفَهَا فَقَدْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ، وَالدَّلِيلُ لَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، وَلَا أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فَكَيْفَ يَكُونُ دِينَ الْإِسْلَامِ، بَلْ أَصْلَ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ؟ 

ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الْمَلَاحِدَةُ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، حَدَثُوا وَانْتَشَرُوا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعُصُورِ الْمُفَضَّلَةِ، وَصَارَ كُلُّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ يَضْعُفُ فِيهِ نُورُ الْإِسْلَامِ يَظْهَرُونَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِهِمْ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ إِلَّا مَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعُونَ، وَرَأَوْا ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ، فَرَأَوْا دِينَ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفَ فَاسِدًا فِي الْعَقْلِ فَكَانَ غُلَاتُهُمْ طَاعِنِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ كَالْخُرَّمِيَّةِ أَتْبَاعِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ  وَقَرَامِطَةُ الْبَحْرَيْنِ أَتْبَاعُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ وَغَيْرُهُمْ.

وَأَمَّا مُقْتَصِدُوهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ فَرَأَوْا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - ﷺ - فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ، بَلِ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِمَا قَالَهُ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعِ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ نَامُوسِ مُحَمَّدٍ - ﷺ -، وَكَانَ هَذَا مُوجِبُ عَقْلِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَرْبَابِ النَّوَامِيسِ مِنَ الْيُونَانِ، فَرَأَوْا أَنَّ النَّامُوسَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى أَعْظَمُ مِنْ نَوَامِيسِ أُولَئِكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَلِهَذَا لَمَّا وَرَدَ نَامُوسُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام عَلَى الرُّومِ انْتَقَلُوا عَنِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ إِلَى دِينِ الْمَسِيحِ.

وَكَانَ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام  بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، كَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيِّ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَرَّخُ لَهُ الْيَوْمَ بِالتَّارِيخِ الرُّومِيِّ، تُؤَرِّخُ لَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ هَذَا الْإِسْكَنْدَرُ هُوَ ذَا الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُظَنُّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا، وَذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الَّذِي بَنَى سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الْمَقْدُونِيُّ لَمْ يَصِلْ إِلَى السَّدِّ، وَذَاكَ كَانَ مُسْلِمًا مُوَحِّدًا، وَهَذَا الْمَقْدُونِيُّ كَانَ مُشْرِكًا هُوَ وَأَهْلُ بَلَدِهِ الْيُونَانِيُّونَ، كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَوْثَانَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ آخِرَ مُلُوكِهِمْ كَانَ هُوَ بَطْلَيْمُوسُ صَاحِبُ الْمِجِسْطَى، وَأَنَّهُمْ بَعْدَهُ انْتَقَلُوا إِلَى دِينِ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الْمَسِيحُ كَانَ أَعْظَمَ وَأَجَلَّ، بَلِ النَّصَارَى بَعْدَ أَنْ غَيَّرُوا دِينَ الْمَسِيحِ وَبَدَّلُوا هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مِنْ أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَشِرْكُ أُولَئِكَ الْغَلِيظُ هُوَ مِمَّا أَوْجَبَ إِفْسَادَ دِينِ الْمَسِيحِ كَمَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: كَانَ أُولَئِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَيَسْجُدُونَ لَهَا وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَ الْمَسِيحَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَعَثَ سَائِرَ الرُّسُلِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: ٤٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [سُورَةُ النَّحْلِ: ٣٦] .

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ  وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى زَمَنِ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّ دِينَهُمْ كَانَ الْإِسْلَامَ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عليه السلام ﴿إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ - فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سُورَةُ يُونُسَ: ٧١، ٧٢]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام:﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ١٣٠، ١٣٣].

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام: ﴿يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [سُورَةُ يُونُسَ: ٨٤]، وَقَالَ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: ٤٤]، وَقَالَ عَنْ بِلْقِيسَ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةُ النَّمْلِ: ٤٤]، وَقَالَ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: ١١١]

وَلَمَّا كَانَ الْمَسِيحُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ قَبْلَهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَبَقِيَ أَتْبَاعُهُ عَلَى مِلَّتِهِ مُدَّةً قِيلَ أَقَلُّ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ ، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْبِدَعُ بِسَبَبِ مُعَادَاتِهِمْ لِلْيَهُودِ صَارُوا يَقْصِدُونَ خِلَافَهُمْ، فَغَلَوْا فِي الْمَسِيحِ، وَأَحَلُّوا أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا، وَأَبَاحُوا الْخِنْزِيرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَابْتَدَعُوا شُرَكَاءَ بِسَبَبِ شِرْكِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْيُونَانِ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَوْثَانِ، فَنَقَلَتْهُمُ النَّصَارَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْمُجَسَّدَةِ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ إِلَى عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ الْمُصَوَّرَةِ فِي الْكَنَائِسِ، وَابْتَدَعُوا الصَّلَاةَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَصَلُّوا إِلَى حَيْثُ تَظْهَرُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ، وَاعْتَاضُوا بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا وَالسُّجُودِ إِلَيْهَا عَنِ الصَّلَاةِ لَهَا وَالسُّجُودِ لَهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى بَعْدَ تَبْدِيلِ دِينِهِمْ كَانَ نَامُوسُهُمْ وَدِينُهُمْ خَيْرًا مِنْ دِينِ أُولَئِكَ الْيُونَانِ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ رَأَوْا دِينَ الْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: إِنَّ نَامُوسَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَامِيسِ، وَرَأَوْا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَوَامِيسِ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَطْعَنُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا طَعَنَ أُولَئِكَ الْمُظْهِرُونَ لِلزَّنْدَقَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ ، فَطَعَنُوا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَصَارُوا يَقُولُونَ: مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَصَّبْ وَلَمْ يَتَّبِعِ الْهَوَى لَا يَقُولُ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَكَانَ لَهُمْ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا تَلَقَّوْهَا مِنْ سَلَفِهِمُ الْفَلَاسِفَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا تَقُولُهُ فِيهِ مَا يُخَالِفُ الْعُقُولَ، وَطَعَنُوا بِذَلِكَ الْفَلَاسِفَةَ ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا تَوَاتَرَ عَنِ الرُّسُلِ يُخَالِفُهَا فَسَلَكُوا طَرِيقَتَهُمُ الْبَاطِنِيَّةَ فَقَالُوا: إِنَّ الرُّسُلَ لَمْ تُبَيِّنِ الْعِلْمَ وَالْحَقَائِقَ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْبُرْهَانُ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ عَلِمَتْ ذَلِكَ وَمَا بَيَّنَتْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا لَمْ تَعْلَمْهُ وَإِنَّمَا كَانُوا بَارِعِينَ فِي الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَكِنْ خَاطَبُوا الْجُمْهُورَ بِخِطَابٍ تَخْيِيلِيٍّ، خَيَّلَتْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَا يَنْفَعُهُمُ اعْتِقَادُهُ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا بَاطِلًا لَا يُطَابِقُ الْحَقَائِقَ.وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا يُجَوِّزُونَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمُ التَّخْيِيلُ، وَالتَّأْوِيلُ يُنَاقِضُ مَقْصُودَهُ، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِالْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يَقُولُونَ مَقْصُودُهَا إِصْلَاحُ أَخْلَاقِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا تَسْقُطُ عَنِ الْخَاصَّةِ الْعَارِفِينَ بِالْحَقَائِقِ، فَكَانَتْ بِدْعَةَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِمَّا أَعَانَتْ إِلْحَادَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ.

وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَبَيَانِ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذُكِرَ أَنَّ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةَ مُوَافِقَةٌ لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا تُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَنَبَّهْنَا فِي مَوَاضِعَ عَلَى مَا يَسْتَوْجِبُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطُّرُقِ الْبَاطِلَةِ الْمُبْتَدَعَةِ وَمَا بِهِ يُعْلَمُ مَا يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ فِي الْمَعْقُولِ هِيَ مُطَابِقَةٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ، مِثْلُ هَذِهِ الطُّرُقِ وَغَيْرِهَا .

فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّ فَاعِلَ الْعَالَمِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُ فِي الْقِدَمِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُولِ، فَلَا يَحْدُثُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً لِمَفْعُولٍ بَعْدَ مَفْعُولٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَا يَصِيرُ عِلَّةً لِلثَّانِي، فَيُمْتَنَعُ مَعَ تَمَاثُلِ أَحْوَالِهِ أَنْ تَخْتَلِفَ مَفْعُولَاتُهُ وَيَحْدُثَ مِنْهَا شَيْءٌ.

وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ تَصَوَّرَهُ تَصَوُّرًا جَيِّدًا، وَحُذَّاقُهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا، كَمَا يَذْكُرُهُ ابْنُ رُشْدِ الْحَفِيدُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ صُدُورَ الْمُتَغَيِّرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنِ الْوَاحِدِ الْبَسِيطِ مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ، وَكَذَلِكَ إِذْ سُمِّيَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: مُؤَثِّرٌ تَامُّ التَّأْثِيرِ فِي الْأَزَلِ، أَوْ مُرَجِّحٌ تَامُّ التَّرْجِيحِ فِي الْأَزَلِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: هُوَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُرَادِهِ فِي الْأَزَلِ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ مُرَادِهِ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ مُرَادِهِ، فَلَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ؛ إِذْ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ إِرَادَتُهُ أَزَلِيَّةً مُسْتَلْزِمَةً لِوُجُودِ مُرَادِهَا مَعَهَا فِي الْأَزَلِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمُرَادَاتِ حَادِثًا، فَلَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ.

وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِجَمِيعِ مَعْلُولَاتِهَا، وَلَا مُوجِبٌ أَزَلِيٌّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ حَتَّى أَشْخَاصِهِ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ جَمِيعَ مُرَادِهِ مُقَارِنٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ، بَلْ يَقُولُونَ إِنَّ أُصُولَ الْعَالَمِ كَالْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ هِيَ الْأَزَلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّ الْحَرَكَاتِ وَالْمُوَلِّدَاتِ قَدِيمَةُ النَّوْعِ، أَوْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَوَادَّ هَذَا الْعَالَمِ كَالْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوِ الْهَيُولَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بِأَعْيَانِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ إِذْ كَانَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ فِي الْأَزَلِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ مُوجِبًا لَهُ بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ، أَوْ عِلَّةً تَامَّةً قَدِيمَةً مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمَفْعُولِ الْمُرَادِ فِي الْأَزَلِ.

وَإِذَا قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِأُصُولِ الْعَالَمِ دُونَ حَوَادِثِهِ، أَوْ هُوَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِاقْتِرَانِ مُرَادِهَا بِهَا فِي الْأَزَلِ، لَكِنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ الْمُقَارِنَةَ لِمُرَادِهَا إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِأُصُولِ الْعَالَمِ دُونَ حَوَادِثِهِ.

قِيلَ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ لِفَاعِلِهِ  لَا سِيَّمَا مُقَارَنَتُهُ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا مُمْتَنَعٌ فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ، بَلْ وَفِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ.

وَإِذَا قَالُوا: الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يَجْتَمِعُ عَلَى جَحْدِهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ.

قِيلَ لَهُمْ: لَا جَرَمَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُئٍ، بَلْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنْكِرُونَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى سَبِيلِ مُوَاطَأَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،وَتَلَقِّي بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَمَعَ الْمُوَاطَأَةِ تَجُوزُ الْمُوَاطَأَةُ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَعَلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ كَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَوَارَثَهَا طَائِفَةٌ تَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا النَّاسُ عَنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ، فَتِلْكَ لَا يَكُونُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا كَانَ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ تَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.

وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَامْتَنَعَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ فِي الْعَالَمِ جُمْلَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ أَصْلًا، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ تَامَّةً أَزَلِيَّةً قَارَنَهَا مَعْلُولُهَا، وَكَانَ مَا يَحْدُثُ غَيْرَ مَعْلُولِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُولًا لَهَا لَكَانَ قَدْ تَأَخَّرَ الْمَعْلُولُ أَوْ بَعْضُ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا لَا مَعْلُولُهَا وَلَا بَعْضُ مَعْلُولِهَا، فَكُلُّ مَا حَدَثَ لَا يَحْدُثُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ حَادِثٌ لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.

وَمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا تَأَخَّرَتِ الْحَوَادِثُ لِتَأَخُّرِ الِاسْتِعْدَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَكُونُ عِلَّةُ وُجُودِهِ غَيْرَ عِلَّةِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ، كَمَا يَحْدُثُ عَنِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهَا تَارَةً تُلَيِّنُ وَتُرَطِّبُ كَمَا تُلَيِّنُ الثِّمَارَ بَعْدَ يُبْسِهَا بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَتَجْتَمِعُ الرُّطُوبَةُ الْمَائِيَّةُ وَالسُّخُونَةُ الشَّمْسِيَّةُ فَتَنْضَجُ الثِّمَارُ وَتَلِينُ، وَتَارَةً تُجَفِّفُ وَتُيَبِّسُ كَمَا يَحْصُلُ لِلثِّمَارِ بَعْدَ تَنَاهِي نُضْجِهَا، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهَا الِاسْتِمْدَادُ مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَتَبْقَى حَرَارَةٌ تَفْعَلُ فِي رُطُوبَةٍ مِنْ غَيْرِ إِمْدَادٍ، فَتُجَفِّفُهَا كَمَا تُجَفِّفُ الشَّمْسُ وَالنَّارُ وَغَيْرُهُمَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْسَامِ الرَّطْبَةِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ يَتَأَخَّرُ فِعْلُ الْفَاعِلِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ لَهُ حَقِيقَةٌ لَكَانَ تَأَخُّرُ فَيْضِهِ حَتَّى تَسْتَعِدَّ الْقَوَابِلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ الْفَاعِلُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِ لَا إِعْدَادَ  وَلَا إِمْدَادَ وَلَا قَبُولَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ نَفْسُهُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِفِعْلِهِ - فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لَوَجَبَ أَنْ يُقَارِنَهُ مَعْلُولُهُ كُلُّهُ، وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ وَلَوْ كَانَ مَفْعُولًا بِوَاسِطَةٍ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَأَنَّهُ صَارَ عِلَّةً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا قِيلَ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ هِيَ سَبَبُ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ ٠

قِيلَ: وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ، فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الْحَادِثَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لَهَا عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، فَإِنَّ هَذِهِ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا أَزَلًا وَأَبَدًا، وَالْحَرَكَةُ الْحَادِثَةُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِعِلَّتِهَا فِي الْأَزَلِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُدُوثِهَا لَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُتَّصِفًا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بِسَبَبِ مَا يَقُومُ بِهِ، يَحْدُثُ عَنْهُ مَا يَحْدُثُ، مِثْلَ مَشِيئَتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَأَفَعَالِهِ الِاخْتَيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْحَوَادِثَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يُحْدِثَهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْحَدَثِ كَالْقَوْلِ فِيهِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، وَيَعُودُ التَّقْسِيمُ.

 

يوم الأحد 16 جمادى الآخرة 1447 هجرية

مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون