بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس التاسع عشر: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَمَا يَذْكُرُهُ أَرِسْطُو
وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ يُحَرِّكُ الْفَلَكَ حَرَكَةَ الْمَعْشُوقِ
لِعَاشِقِهِ، وَأَنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ، وَأَنَّهُ
بِذَلِكَ عِلَّةُ الْعِلَلِ وَبِهِ قِوَامُ الْفَلَكِ، إِذْ كَانَ قِوَامُ الْفَلَكِ
بِحَرَكَتِهِ، وَقِوَامُ حَرَكَتِهِ بِإِرَادَتِهِ وَشَوْقِهِ، وَقِيَامُ
إِرَادَتِهِ وَشَوْقِهِ بِوُجُودِ الْمَحْبُوبِ السَّابِقِ الْمُرَادَ الَّذِي
تَحَرَّكَ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ
الْبَاطِلِ الَّذِي بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ غَايَتُهُ إِثْبَاتُ
الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ
الْفَاعِلِيَّةِ لِحَرَكَتِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: هُوَ الْمُحْدِثُ
لِتَصَوُّرَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ
وَإِلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ
الْمُحِبَّ الْعَاشِقَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْبُوبِ الْمَعْشُوقِ مِنْ جِهَةِ
كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْحَرَكَةِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادُ
الْمَطْلُوبُ بِالْحَرَكَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ بِاسْتِغْنَاءِ الْحَرَكَاتِ
الْمُحْدَثَةِ وَالْمُتَحَرِّكَاتِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ لَا
يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ وَلَا هُوَ رَبُّهَا.
فَإِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ
بِأَنَّهُ لَمْ يُبْدِعِ الْفَلَكَ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ
بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ رَبَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ وَإِنْ قَالُوا: هُوَ
الَّذِي أَبْدَعَهُ، كَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ كَتَنَاقُضِ الْقَدَرِيَّةِ،
فَإِنَّ إِبْدَاعَهُ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَحْدُثَ مِنْهُ
شَيْءٌ إِلَّا بِفِعْلِ الرَّبِّ لِذَلِكَ وَإِحْدَاثِهِ لَهُ، كَمَا لَا يَحْدُثُ
مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ حَادِثٌ إِلَّا بِخَلْقِ الرَّبِّ لِذَلِكَ
وَإِحْدَاثِهِ لَهُ. فَقَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ الْعَامِّ
وَبَيْنَ التَّعْطِيلِ الْخَاصِّ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ شَرًّا مِنَ
الْقَدَرِيَّةِ، وَرَدُّهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَهُمْ خَيْرٌ
مِنْهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَقَدْ ذُكِرَ مَا ذَكَرُوهُ
مِنْ كَلَامِ أَرِسْطُو فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ
وَالضَّلَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّ الْقَوْمَ مِنْ أَبْعَدِ
النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَصِفَاتِهِ
وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْهُمْ بِكَثِيرٍ فِي
هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا أَرِسْطُو
وَالْقُدَمَاءُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى هِيَ طَرِيقُ الْحَرَكَةِ
الْإِرَادِيَّةِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَأَثْبَتُوا عِلَّةً غَائِيَّةً كَمَا
ذُكِرَ.
فَلَمَّا رَأَى ابْنُ سِينَا
وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا فِيهَا مِنَ الضَّلَالِ عَدَلُوا إِلَى
طَرِيقَةِ الْوُجُودِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ، وَسَرَقُوهَا مِنْ طَرِيقِ
الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ احْتَجُّوا
بِالْمُحْدَثِ عَلَى الْمُحْدِثِ، فَاحْتَجَّ أُولَئِكَ بِالْمُمْكِنِ عَلَى
الْوَاجِبِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ وَاجِبٍ، وَأَمَّا
إِثْبَاتُ تَعْيِينِهِ فَيَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُمْ سَلَكُوا
طَرِيقَةَ التَّرْكِيبِ، وَهِيَ أَيْضًا مَسْرُوقَةٌ مِنْ كَلَامِ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِلَّا فَكَلَامُ أَرِسْطُو فِي الْإِلَهِيَّاتِ فِي غَايَةِ
الْقِلَّةِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَلَكِنَّ ابْنَ سِينَا وَأَمْثَالَهُ
وَسَّعُوهُ وَتَكَلَّمُوا فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَأَسْرَارِ
الْآيَاتِ وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، بَلْ وَفِي مَعَادِ الْأَرْوَاحِ بِكَلَامٍ
لَا يُوجَدُ لِأُولَئِكَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَابِ فَجَرَوْا فِيهِ عَلَى
مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا فِيهِ مِنْ خَطَأٍ بَنَوْهُ عَلَى أُصُولِ سَلَفِهِمُ
الْفَاسِدَةِ.
وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ رُشْدٍ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي الْوَحْيِ وَالْمَنَامَاتِ وَأَسْبَابِ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَقْبَلَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ أَمْرُ ذَكَرَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ الْمَشَّاءُونَ سَلَفُهُ.
وَأَمَّا أَبُو الْبَرَكَاتِ
صَاحِبُ «الْمُعْتَبَرِ» وَنَحْوُهُ، فَكَانُوا بِسَبَبِ عَدَمِ تَقْلِيدِهِمْ
لِأُولَئِكَ، وَسُلُوكِهِمْ طَرِيقَةَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ بِلَا تَقْلِيدٍ،
وَاسْتِنَارَتِهِمْ بِأَنْوَارِ النُّبُوَّاتِ أَصْلَحَ قَوْلًا فِي هَذَا
الْبَابِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَأَثْبَتَ عِلْمَ الرَّبِّ
بِالْجُزْئِيَّاتِ وَرَدَّ عَلَى سَلَفِهِ رَدًّا جَيِّدًا، وَكَذَلِكَ أَثْبَتَ
صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالَهُ وَبَيَّنَ مَا بَيَّنَهُ مِنْ خُطَّاءِ سَلَفِهِ،
وَرَأَى فَسَادَ قَوْلِهِمْ فِي أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ
إِلَى أَنْ أَثْبَتَ لِلرَّبِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْإِرَادَاتِ الْمُوجِبَةِ
لِلْحَوَادِثِ، وَقَوْلُهُمْ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ:
إِنَّمَا حَدَثَت الْحَوَادِثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لِمَا يَقُومُ بِذَاتِ
الرَّبِّ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، فَلَا يُثْبِتُونَ أُمُورًا
مُتَجَدِّدَاتٍ مُخْتَلِفَةً عَنْ وَاحِدٍ بَسِيطٍ لَا صِفَةَ لَهُ وَلَا فِعْلَ
كَمَا قَالَ أُولَئِكَ، بَلْ وَافَقُوا قَوْلَ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ
الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَرِسْطُو الَّذِينَ يُثْبِتُونَ مَا يَقُومُ بِذَاتِ
الرَّبِّ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ
إِنَّمَا حَدَثَ لَمَّا حَصَلَتْ عِلَّتُهُ التَّامَّةُ الَّتِي لَمْ تَتِمَّ
إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهِ، وَتَمَامُ الْعِلَّةِ كَانَ بِمَا يُحْدِثُهُ الرَّبُّ
تَعَالَى وَمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَأَفْعَالِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَلِهَذَا يَقُولُونَ:
إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُدَبِّرًا لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَّا
عَلَى قَوْلِنَا بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِيهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالْعُلُومِ
وَغَيْرِهَا، وَيَقُولُونَ إِنَّ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا
وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يَنْفِهِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ
لِمُجَرَّدِ تَنْزِيهٍ وَإِجْلَالٍ مُجْمَلٍ، وَإِنَّهُ يَجِبُ التَّنْزِيهُ
وَالْإِجْلَالُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ وَالْإِجْلَالِ.
فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ:
فَعِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثِ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ
التَّامَّةِ، وَلَا يَكْفِي عَدَمُ الْأَوَّلِ.
قَالُوا: بَلْ حَصَلَ مِنْ
كَمَالِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ مَا أَوْجَبَ
حُدُوثَ الْمَقْدُورِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّ حَالَ الْفَاعِلِ قَبْلُ وَبَعْدُ
وَاحِدٌ لَمْ يَتَجَدَّدْ أَمْرٌ يَفْعَلُ بِهِ الثَّانِي، بَلْ تَتَنَوَّعُ
أَحْوَالُ الْفَاعِلِ، وَنَفْسُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ
الْقَائِمَةِ بِهِ، لَكِنَّ وُجُودَ الْحَالِ الثَّانِي مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مَا
يُضَادُّهُ، وَنَفْسُ الْفَاعِلِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ
الْمُوجِبَةِ لِلْحَالِ الثَّانِي.
فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَا
يَحْتَاجُ مَا يَحْدُثُ عَنْهُ أَنْ يُضَافَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا فِي
الْمُمْكِنَاتِ، بَلْ نَفْسُهُ الْوَاجِبَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِكُلِّ مَا
يَحْدُثُ عَنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْفَاعِلُ لِلْمَلْزُومِ وَلَوَازِمِهِ،
وَالْفَاعِلُ لِأَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْآخَرِ، وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
لَكِنَّ اجْتِمَاعَ
الضِّدَّيْنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى
تَحْرِيكِ الْجِسْمِ بَدَلًا عَنْ تَسْكِينِهِ، وَعَلَى تَسْكِينِهِ بَدَلًا عَنْ
تَحْرِيكِهِ، وَعَلَى تَسْوِيدِهِ بَدَلًا عَنْ تَبْيِيضِهِ، وَعَلَى تَبْيِيضِهِ
بَدَلًا عَنْ تَسْوِيدِهِ، وَهُوَ يَفْعَلُ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ دُونَ الْآخَرِ
إِذَا حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ التَّامَّةُ مَعَ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَنَفْسُهُ
هِيَ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا لِلْأَوَّلِ شَرْطًا
فِي حُصُولِ الثَّانِي، فَلَيْسَتْ فِي تِلْكَ مُفْتَقِرَةً إِلَى غَيْرِهَا، بَلْ
كُلُّ مَا سِوَاهَا فَقِيرٌ إِلَيْهَا، وَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا.
وَهَؤُلَاءِ تَخَلَّصُوا
مِمَّا وَرَدَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ وَمِنْ فَسَادِ تَمْثِيلِهِمْ، وَكَانَ
هَؤُلَاءِ إِذَا مَثَّلُوا قَوْلَهُمْ بِمَا يُعْقَلُ مِنْ حَرَكَةِ الْحَيَوَانِ
وَالشَّمْسِ، لَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرْقِ وَالنَّقْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مَا يَرِدُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ.
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقَالُ
لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ فِي
الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ وَأَنْتُمْ فَجَمِيعُ مَا
تَذْكُرُونَهُ أَنْتُمْ وَأَمْثَالُكُمْ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ
الْفِعْلِ، لَا عَلَى دَوَامِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ،
فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ دَوَامُ الْفَلَكِ أَوْ مَادَّةُ الْفَلَكِ أَوِ الْعُقُولُ
أَوِ النُّفُوسُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا يَقُولُ الْقَائِلُونَ بِالْقِدَمِ:
إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُقَارِنًا لِلرَّبِّ
تَعَالَى قَدِيمًا بِقِدَمِهِ أَبَدِيًّا بِأَبَدِيَّتِهِ؟ .
فَيُخَاطِبُونَ أَوَّلًا
مُخَاطَبَةَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلِيلِ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ
صَحِيحٌ أَصْلًا، بَلْ إِنَّمَا طَمِعُوا فِي مُنَاظَرَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ جِنْسَ الْكَلَامِ
وَالْفِعْلِ صَارَ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنَعًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ
شَيْءٍ، وَصَارَ الْفَاعِلُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ،
وَأَنَّهُ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ لَا فِي زَمَانٍ، وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلِ
الْقَدِيمُ مُعَطَّلًا عَنِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ، لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا
يَفْعَلُ مِنَ الْأَزَلِ، إِلَى أَنْ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ، ثُمَّ يَقُولُ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ: إِنَّهُ يَتَعَطَّلُ عَنِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَتَفْنَى الْجَنَّةُ
وَالنَّارُ، أَوْ تَفْنَى حَرَكَتُهُمَا، كَمَا قَالَهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ
فِي فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَمَا قَالَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ
الْعَلَّافُ فِي فَنَاءِ الْحَرَكَاتِ. وَجَعَلُوا مُدَّةَ فِعْلِ الرَّبِّ
وَكَلَامَهُ مُدَّةً فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزَلِ
وَالْأَبَدِ.
فَطَمِعَ هَؤُلَاءِ فِي
هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنِ
اتَّبَعَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ، وَأَقَامُوا الشَّنَاعَةَ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ
بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ، وَظَنُّوا أَنْ لَا
قَوْلَ إِلَّا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ، أَوْ قَوْلُ أُولَئِكَ
الْفَلَاسِفَةِ الْمُلْحِدِينَ، وَرَأَوْا أَنَّ الْعَقْلَ يُفْسِدُ قَوْلَ
هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَرَأَوُا السَّمْعَ إِلَى هَؤُلَاءِ
الْمُبْتَدِعِينَ أَقْرَبَ وَعَنِ الْمُلْحِدِينَ أَبْعَدَ، فَقَالُوا: إِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ ضَرَبُوا الْأَمْثَالَ وَخَيَّلُوا، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ
الْإِخْبَارُ بِالْحَقَائِقِ. وَدَخَلُوا مِنْ بَابِ الْإِلْحَادِ وَتَحْرِيفِ
الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِحَسَبِ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ،
وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ نَفَوْا صِفَاتِ الرَّبِّ
وَأَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ الَّذِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ إِلْحَادًا
وَتَحْرِيفًا لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا
الصِّفَاتِ وَالْأُمُورَ الِاخْتِيَارِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِهِ، وَقَالُوا مَعَ
ذَلِكَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.
وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ
خَرَجَتْ عَنْ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ، كَمَا خَرَجَتْ عَنْ صَحِيحِ الْمَنْقُولِ،
بِحَسَبِ مَا أَخْطَأَتْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ
مِنَ الْحَقِّ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى قَبُولِ غَيْرِهِ، وَكَانَ
يَلْزَمُهُ مِنْ قَبُولِهِ مَا لَمْ يَلْزَمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ الْحَقَّ،
وَكَانَ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِالرَّبِّ
بِاخْتِيَارِهِ يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا وَمُحْدَثًا.
وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ
ابْنُ سِينَا فِي «إِشَارَاتِهِ» أَقْوَالَ الْقَائِلِينَ بِالْقِدَمِ
وَالْحُدُوثِ، لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ قُدَمَاءَ مَعَ اللَّهِ
تَعَالَى غَيْرَ مَعْلُولَةٍ، كَالْقَوْلِ الَّذِي يُحْكَى عَنْ ذِيمُقَرَاطِيسَ
بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ زَكَرِيَّا الْمُتَطَبِّبُ
وَقَوْلُ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِأَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ، وَقَوْلُ
الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، وَقَوْلُ أَصْحَابِهِ،
فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَئِمَّةِ الْمِلَلِ وَلَا أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ
الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا يَقُومُ بِالرَّبِّ مِنَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ،
وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ إِذَا شَاءَ فِعَالًا
بِمَشِيئَتِهِ، وَذَكَرَ حُجَجَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاظِرَ
أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ تُرَجِّحُ، مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالتَّوْحِيدِ
الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذَا جَعَلَهُ أَصْلًا
مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُومِهِ
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ
الرَّازِيُّ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الصِّفَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ حُدُوثِ
الْعَالَمِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ، بَلْ نَفْيُ
الصِّفَاتِ مِمَّا يُقَوِّي شُبْهَةَ الْقَائِلِينَ بِالْقِدَمِ، وَمَعَ إِثْبَاتِ
الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ أَدِلَّتِهِمْ
إِلَى الْغَايَةِ، بَلْ فَسَادُ قَوْلِهِمْ، مَعَ أَنَّ نَفْيَ الصِّفَاتِ يَدُلُّ
عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ، أَكْثَرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ
مُنَازِعِيهِ.
وَلَكِنَّ ابْنَ سِينَا
نَشَأَ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ، وَابْنُ رُشْدٍ نَشَأَ
بَيْنَ الْكُلَّابِيَّةِ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ نَشَأَ بِبَغْدَادَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، فَكَانَ
كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ بُعْدُهُ عَنِ الْحَقِّ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ
آثَارِ الرُّسُلِ، وَقُرْبِهِ مِنَ الْحَقِّ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ
رَأَوْا مَا قَالَهُ أُولَئِكَ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بَاطِلًا،
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ إِذَا أَبْطَلُوا قَوْلَ هَؤُلَاءِ بَقِيَ قَوْلُهُمْ،
وَجَعَلُوا الْقَوْلَ بِدَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ مُجْمَلًا، كَمَا جَعَلَ
أُولَئِكَ قَوْلَهُمْ: «إِنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ»
مُجْمَلًا، فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَوْجَبَ أَنْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ سَمِعَ قَوْلَ
هَؤُلَاءِ امْتِنَاعَ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا
شَاءَ، إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ، وَقَوْلُ أُولَئِكَ
أَوْجَبَ أَنْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ سَمِعَ قَوْلَهُمْ دَوَامَ الْفَلَكِ أَوْ
شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، إِذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ
أَيْضًا.
وَدَوَامُ الْفَاعِلِيَّةِ
مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ دَوَامُ الْفَاعِلِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَدَوَامُ
الْفَاعِلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَدَوَامُ
الْفَاعِلِيَّةِ الْعَامَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ
الْعَامَّةِ وَهُوَ دَوَامُ الْمَفْعُولَاتِ كُلِّهَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ
عَاقِلٌ، وَدَوَامُ الْفَاعِلِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا
لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا، بَلِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ
تَنْفِيهِ كَمَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ.
وَأَمَّا دَوَامُ
الْفَاعِلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَهَذِهِ لَا تُثْبِتُ قَوْلَهُمْ، بَلْ إِنَّمَا
تُثْبِتُ خَطَأَ أُولَئِكَ النُّفَاةِ الَّذِينَ خَاصَمُوهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ
صِحَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا هَذَانِ
الْقَوْلَانِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَلْزَمْ صِحَّةُ
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الثَّالِثُ هُوَ مُوجِبُ
الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ؟
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ
كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ الَّتِي قَالَتْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ مُلْحِدَةٌ،
سَوَاءٌ قَالَتْ بِقِيَامِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِالرَّبِّ أَوْ لَمْ تَقُلْ
ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَفَاضِلِينَ فِي الْخَطَأِ
وَالصَّوَابِ فِي الْعُلُومِ الْإِلَاهِيَّةِ، إِنَّمَا رَدُّهُمُ الْمُتَوَجِّهُ
لَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ، وَنَسَبُوهَا إِلَى الْمِلَّةِ.
وَأُولَئِكَ
الْمُتَفَلْسِفَةُ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمِلَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ
أَخْبَرَ بِالسَّمْعِيَّاتِ مِنْ غَيْرِهِ، فَجَعَلُوا يَرُدُّونَ مِنْ كَلَامِ
الْمُتَكَلِّمِينَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِيهِ سَمْعٌ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ
فِيهِ سَمْعٌ كَانُوا فِيهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرُّوهُ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا إِنْ وَافَقَ مَعْقُولَهُمْ، وَإِلَّا أَلْحَقُوهُ
بِأَمْثَالِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الرُّسُلَ تَكَلَّمَتْ بِهِ عَلَى سَبِيلِ
التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ لِلْحَاجَةِ.
وَابْنُ رُشْدٍ وَنَحْوُهُ
يَسْلُكُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إِلَى
الْإِسْلَامِ مِنَ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَكَانُوا فِي الْعَمَلِيَّاتِ
أَكْثَرَ مُحَافَظَةً لِحُدُودِ الشَّرْعِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ
وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَحِلُّونَ مُحَرَّمَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ
مِنْ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالتَّحْرِيفِ بِحَسَبِ مَا خَالَفَ بِهِ
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَهُمْ مِنَ الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ بِحَسَبِ مَا
وَافَقُوا فِيهِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ
رُشْدٍ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَمَعَادِ الْأَبْدَانِ مُظْهِرًا
لِلْوَقْفِ وَمُسَوِّغًا لِلْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنُهُ إِلَى قَوْلِ
سَلَفِهِ أَمْيَلُ. وَقَدْ رَدَّ عَلَى أَبِي حَامِدٍ فِي «تَهَافُتِ
التَّهَافُتِ» رَدًّا أَخْطَأَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ مَعَ أَبِي
حَامِدٍ، وَبَعْضُهُ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِينَا لَا مِنْ كَلَامِ
سَلَفِهِ، وَجَعَلَ الْخَطَأَ فِيهِ مِنَ ابْنِ سِينَا، وَبَعْضُهُ اسْتَطَالَ
فِيهِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ وَنَسَبَهُ فِيهِ إِلَى قِلَّةِ الْإِنْصَافِ؛
لِكَوْنِهِ بَنَاهُ عَلَى أُصُولٍ كَلَامِيَّةٍ فَاسِدَةٍ، مِثْلِ كَوْنِ الرَّبِّ
لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِسَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ، وَكَوْنِ الْقَادِرِ
الْمُخْتَارِ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ،
وَبَعْضُهُ حَارَ فِيهِ جَمِيعًا لِاشْتِبَاهِ الْمَقَامِ.
وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى
ذَلِكَ، وَبَيَّنْتُ تَحْقِيقَ مَا قَالَهُ أَبُوحَامِدٍ فِي ذَلِكَ مِنَ
الصَّوَابِ الْمُوَافِقِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَخَطَأِ مَا خَالَفَهُ مِنْ
كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَأَنَّ مَا قَالُوهُ مِنَ
الْحَقِّ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يُرَدُّ بَلْ يُقْبَلُ، وَمَا
قَصَّرَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ مِنْ إِفْسَادِ أَقْوَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ
فَيُمْكِنُ رَدُّهُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى يُعَانُ بِهَا أَبُو حَامِدٍ عَلَى قَصْدِهِ
الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ إِنَّمَا اسْتَطَالُوا عَلَيْهِ
بِمَا وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أُصُولٍ فَاسِدَةٍ، وَبِمَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ
مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَافِقِ لِأُصُولِهِمْ، وَجَعَلَ هَذَا وَأَمْثَالَهُ
يُنْشِدُونَ فِيهِ
يَوْمًا يَمَانٍ إِذَا مَا
جِئْتَ ذَا يَمَنٍ وَإِنْ لَقِيتَ مَعَدِّيًّا فَعَدْنَانِي وَلِهَذَا جَعَلُوا
كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِ بَرْزَخًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ
الْمَشَّائِينَ، فَالْمُسْلِمُ يَتَفَلْسَفُ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَشَّائِينَ
تَفَلْسُفَ مُسْلِمٍ، وَالْفَيْلَسُوفُ يُسْلِمُ بِهِ إِسْلَامَ فَيْلَسُوفٍ،
فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا مَحْضًا وَلَا فَيْلَسُوفًا مَحْضًا عَلَى طَرِيقَةِ
الْمَشَّائِينَ.
وَأَمَّا نَفْيُ
الْفَلْسَفَةِ مُطْلَقًا أَوْ إِثْبَاتُهَا فَلَا يُمْكِنُ، إِذْ لَيْسَ
لِلْفَلَاسِفَةِ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ يَنْصُرُونَهُ، وَلَا قَوْلٌ يَتَّفِقُونَ
عَلَيْهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ، بَلْ
وَفِي الطَّبِيعِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ، بَلْ وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْمَنْطِقِ، وَلَا يَتَّفِقُونَ إِلَّا عَلَى مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ
بَنِي آدَمَ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي لَا
يُنَازِعُ فِيهَا أَحَدٌ. وَمَنْ حَكَى عَنْ جَمِيعِ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلًا
وَاحِدًا فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَصْنَافِهِمْ
وَاخْتِلَافِ مَقَالَاتِهِمْ، بَلْ حَسْبُهُ النَّظَرُ فِي طَرِيقَةِ
الْمَشَّائِينَ أَصْحَابِ أَرِسْطُو كَثَامِسْطِيُوسَ وَالْإِسْكَنْدَرِ
الْأَفْرُودِيسِيِّ وَبَرْقَلْسَ مِنَ
الْقُدَمَاءِ، وَكَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَالسُّهْرَوَرْدِيِّ الْمَقْتُولِ
وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ
وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ قَوْلٌ لَا يَنْقِلُ عَنْ سَلَفِهِ
الْمُتَقَدِّمِينَ، إِذْ لَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمٌ تَسْتَفِيدُهُ الْأَتْبَاعُ،
وَإِنَّمَا عَامَّةُ عِلْمِ الْقَوْمِ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ، فَهُنَاكَ
يُسَرِّحُونَ وَيَتَبَجَّحُونَ، وَبِهِ بِنَحْوِهِ عَظَّمَ مَنْ عَظَّمَ
أَرِسْطُو، وَاتَّبَعُوهُ؛ لِكَثْرَةِ كَلَامِهِ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ وَصَوَابِهِ
فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْإِلَهِيَّاتُ فَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ
أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا.
وَجَمِيعُ مَا يُوجَدُ فِي
كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهِ
مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ لَهُمْ
أَصْلًا دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ فَضْلًا عَنْ قَطْعِيٍّ عَلَى قِدَمِ الْأَفْلَاكِ، بَلْ
وَلَا عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا عَامَّةُ أَدِلَّتِهِمْ أُمُورٌ
مُجْمَلَةٌ تَدَلُّ عَلَى الْأَنْوَاعِ الْعَامَّةِ، لَا تَدَلُّ عَلَى قِدَمِ
شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْعَالَمِ. فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَنَّ
اللَّهَ خَلَقَهُ: كَإِخْبَارِهَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ
يُقِيمَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا صَحِيحًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي
يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ
فَمِنْهُ صَوَابٌ وَمِنْهُ خَطَأٌ، وَمِنْهُ مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ
وَمِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُمْ أَحْذَقُ فِي النَّظَرِ
وَالْمُنَاظَرَةِ وَالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الصَّادِقَةِ وَأَعْلَمُ
بِالْمَعْقُولَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَأَكْثَرُ صَوَابًا
وَأَسَدُّ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَالْمُتَفَلْسِفَةُ فِي
الطَّبِيعِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ أَحَذَقُ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْهَا
كَمَعْرِفَتِهِمْ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْخَطَأِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ
يُقَالَ لِأَئِمَّتِهِمْ وَحُذَّاقِهِمُ الَّذِينَ ارْتَفَعَتْ عُقُولُهُمْ
وَمَعَارِفُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ عَنْ كَلَامِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ،
وَكَلَامِ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ: مَا الْمُوجِبُ أَوَّلًا لِقَوْلِكُمْ
بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَأَنْتُمْ لَا دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى قِدَمِ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ .
وَأَصْلُ الْفَلْسَفَةِ عِنْدَكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِنْصَافِ وَاتِّبَاعِ الْعِلْمِ، وَالْفَيْلَسُوفُ هُوَ مُحِبُّ الْحِكْمَةِ، وَالْفَلْسَفَةُ مَحَبَّةُ الْحِكْمَةِ، وَأَنْتُمْ إِذَا نَظَرْتُمْ فِي كَلَامِ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تَجِدُوا فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعَالَمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ: وَهَذَا قَوْلُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ.
وَذَلِكَ الْقَوْلُ
بِحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ قَوْلُ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ
كَانُوا قَبْلَ أَرِسْطُو، بَلْ هُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَرِسْطُو أَوَّلُ مَنْ
صَرَّحَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهُ مِنَ
الْأَسَاطِينِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُحْدَثٌ: إِمَّا
بِصُورَتِهِ فَقَطْ، وَإِمَّا بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ، وَأَكْثَرُهُمْ
يَقُولُونَ بِتَقَدُّمِ مَادَّةِ هَذَا
الْعَالَمِ عَلَى صُورَتِهِ.
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا
أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ
أَخْبَرَ أَنَّهُ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [سُورَةُ هُودٍ: ٧].
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ: ﴿اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا
أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [سُورَةُ فُصِّلَتْ: ١١] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -
أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ»
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه عَنِ
النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: ««كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ،
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»»، وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ» وَالْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ بِمَا
يُوَافِقُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ مِنْ
بُخَارِ الْمَاءِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ دُخَانًا.
وَقَدْ تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَوَّلِ
هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ
الْهَمْدَانِيِّ وَغَيْرُهُ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الْعَرْشُ، وَالثَّانِي:
أَنَّهُ هُوَ الْقَلَمُ. وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَدَّرَ مَقَادِيرَ
الْخَلَائِقِ بِالْقَلَمِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ كَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَكَانَ الْعَرْشُ مَخْلُوقًا قَبْلَ الْقَلَمِ. قَالُوا
وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ أَنَّ: «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ»
مَعْنَاهَا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ حِينَ خَلَقَهُ زَمَنٌ يُقَدَّرُ بِهِ خَلَقَهُ
يَنْفَصِلُ إِلَى أَيَّامٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الزَّمَانَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ
أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَخْلُقَ فِي هَذَا الْعَالَمِ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ
النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ
الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو
الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ
جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله
عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - خُطْبَةً فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ
حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ»
وَهَكَذَا فِي التَّوْرَاةِ
مَا يُوَافِقُ خَبَرَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ
مَغْمُورَةً بِالْمَاءِ، وَالْهَوَاءُ يَهُبُّ فَوْقَ الْمَاءِ، وَأَنَّ فِي
أَوَّلِ الْأَمْرِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ خَلَقَ
ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ
هَذَا الْعَالَمَ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى، وَأَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
وَلَيْسَ فِيمَا أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ، وَلَا أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَ أَوِ الْجِنَّ
أَوِ الْمَلَائِكَةَ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ، بَلْ يُخْبِرُ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَ
ذَلِكَ مِنْ مَادَّةٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَادَّةُ مَخْلُوقَةً مِنْ مَادَّةٍ
أُخْرَى، كَمَا خَلَقَ الْإِنْسَ مِنْ آدَمَ وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقْتُ الْمَلَائِكَةَ
مِنْ نُورٍ، وَخَلَقْتُ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا
وُصِفَ لَكُمْ».
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
الْمَنْقُولَ عَنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ لَا يُخَالِفُ مَا
أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ مَادَّةٍ، بَلِ
الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي
تِلْكَ الْمَادَّةِ: هَلْ هِيَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ، أَوْ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ
أَنْ لَمْ تَكُنْ، أَوْ مُحْدَثَةٌ مِنْ مَادَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَادَّةٍ؟ قَدْ
تَضْطَرِبُ النُّقُولُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ
مَا يَقُولُهُ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهَا أُمَّةٌ عُرِّبَتْ كُتُبُهُمْ،
وَنُقِلَتْ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُلُ مِنَ
الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ مَا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. وَلَكِنْ مَا تَوَاطَأَتْ
بِهِ النُّقُولُ عَنْهُمْ يَبْقَى مِثْلَ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ لَنَا غَرَضٌ
مُعَيَّنٌ فِي مَعْرِفَةِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ
قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ . [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ١٣٤، ١٤١] .
ضلال أرسطو وأتباعه وشركهم]
لَكِنَّ الَّذِي لَا رَيْبَ
فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابَ التَّعَالِيمِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ كَانُوا
مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يَعْرِفُونَ النُّبُوَّاتِ وَلَا
الْمَعَادِ الْبَدَنِيِّ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي
الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ نَفْسَ
فَلْسَفَتِهِمْ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُولُوا بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ
الْعَالَمِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، كَمَا
أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَأَنَّهُمْ فِي تَبْدِيلِ
الْقَوَاعِدِ الصَّحِيحَةِ الْمَعْقُولَةِ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
فِي تَبْدِيلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا
الْبَابِ.
ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا قُدِّرَ
أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعْقُولِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ أَحَدَ
الطَّرَفَيْنِ، فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِاتِّفَاقِهِمْ عَنْ
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ، وَالْفَلْسَفَةُ الصَّحِيحَةُ
الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقَ
الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ، وَتُبَيِّنُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ
بِطَرِيقٍ يَعْجَزُونَ عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ
وَالْمَعَادِ وَمَا يُسْعِدُ النُّفُوسَ وَيُشْقِيهَا مِنْهُمْ، وَتَدُلُّهُمْ
عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الرُّسُلَ كَانَ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ
كَذَّبَهُمْ كَانَ شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الرَّجُلُ مِنَ
الطَّبِيعِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ مَا عَسَى أَنْ يَعْلَمَ وَخَرَجَ عَنْ دِينِ
الرُّسُلِ كَانَ شَقِيًّا، وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ
طَاقَتِهِ كَانَ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ سَلَفَهُمْ
أَكْثَرُوا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ
آثَارِ الرُّسُلِ مَا يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ
وَمَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ الشِّرْكُ مُسْتَحْوِذًا عَلَيْهِمْ
بِسَبَبِ السِّحْرِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ
أَعْمَارَهُمْ فِي رَصْدِ الْكَوَاكِبِ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى السِّحْرِ
وَالشِّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ. وَكَانَ مُنْتَهَى
عَقْلِهِمْ أُمُورًا عَقْلِيَّةً كُلِّيَّةً، كَالْعِلْمِ بِالْوُجُودِ
الْمُطْلَقِ وَانْقِسَامِهِ إِلَى عِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ،
وَتَقْسِيمِ الْجَوَاهِرِ، ثُمَّ تَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ. وَهَذَا هُوَ عِنْدَهُمُ
الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا وَالْفَلْسَفَةُ الْأُولَى، وَمُنْتَهَى ذَلِكَ الْعِلْمُ
بِالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ دُونَ
الْأَعْيَانِ.
وَمِنْ هُنَا دَخَلَ مَنْ
سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ
وَابْنِ سَبْعِينَ وَالتِّلِمْسَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ مُنْتَهَى مَعْرِفَتِهِمْ
الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ. ثُمَّ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ
الْوُجُودُ الْوَاجِبُ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ مَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ
وَجَعَلُوا غَايَةَ
سَعَادَةِ النَّفْسِ أَنْ تَصِيرَ عَالَمًا مَعْقُولًا مُطَابِقًا لِلْعَالَمِ
الْمَوْجُودِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مُجَرَّدُ عُلُومٍ مُطْلَقَةٍ، لَيْسَ
فِيهَا عِلْمٌ بِمَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، لَا بِاللَّهِ وَلَا بِالْمَلَائِكَةِ وَلَا
بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِيهَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ وَلَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَلَيْسَ
فِيهَا عِلْمٌ نَافِعٌ، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا مَا يُنَجِّي النُّفُوسَ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَلَى أَنْ يُوجِبَ لَهَا السَّعَادَةَ. وَهَذَا
مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُهُ هُنَا
بِالْعَرْضِ؛ لِنُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْمُرْسَلِينَ
فَلَيْسَ مَعَهُ فِي خِلَافِهِمْ لَا مَعْقُولٌ صَرِيحٌ، وَلَا مَنْقُولٌ صَحِيحٌ،
وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ مَعَهُ
إِلَّا مُجَرَّدُ الْجَهْلِ وَالِاعْتِقَادِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ،
وَهَذَا الْخِطَابُ كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَفْصِيلُهُ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ .
وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ،
فَبَيَّنُوا فَسَادَ مَا سَلَكَهُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنَ
الْعَقْلِيَّاتِ، وَذَكَرُوا الْحُجَجَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ أَرِسْطُو وَغَيْرِهِ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا، ثُمَّ قَالُوا: نَتَلَقَّى هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ مِنَ السَّمْعِ، فَالرُّسُلُ قَدْ أَخْبَرَتْ بِمَا لَا يَقُومُ
دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى نَقِيضِهِ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ فِي هَذَا.
وَلَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ:
يوم
الثلاثاء 18 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون