بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس العشرون: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَلَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُ
ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مُرَادُهُمْ،
فَلَيْسَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ إِلَّا التَّكْذِيبُ الْمَحْضُ لِلرُّسُلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ، بَاطِنًا
وَظَاهِرًا، فَيُمْتَنَعُ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ الرُّسُلُ كَانَتْ مُضْمِرَةً
لِخِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ
فِي الْعَقْلِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَا يُنَافِيهِ مِنَ
الْمَعْقُولَاتِ فَهُوَ فَاسِدٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِي
الْعَقْلِيَّاتِ مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْلُكُ فِي ذَلِكَ
مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ
مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُحْدِثٍ
لِلْمُحْدَثَاتِ، وَفَاعِلٍ لِلْمَصْنُوعَاتِ، وَأَنَّ كَوْنَ الْمَفْعُولِ
مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَعَهُ مُمْتَنَعٌ فِي فِطَرِ
الْعُقُولِ. وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ
فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا بُيِّنَ لَهُمْ فَسَادُ قَوْلِ إِخْوَانِهِمْ،
وَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنَ
الْأَحْوَالِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ فَاعِلًا، امْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ
مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَإِنَّ هَذَا
إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ.
السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ
لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا: أَصْلُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى
الْوُجُودِ، وَالْفَلْسَفَةُ مَعْرِفَةُ الْوُجُودِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ،
وَالْفَلْسَفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعُلُومُ الْوُجُودِيَّةُ الَّتِي بِهَا
يُعْرَفُ الْوُجُودُ، وَأَنْتُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا فِي الْغَالِبِ إِلَّا
بِقِيَاسٍ: إِمَّا شُمُولِيٍّ وَإِمَّا تَمْثِيلِيٍّ، فَهَلْ عَلِمْتُمْ فَاعِلًا
يَلْزَمُهُ مَفْعُولُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ فِي زَمَانِهِ لَا يَحْدُثُ شَيْئًا
فَشَيْئًا، سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ أَوْ بِالطَّبْعِ؟ .
وَهَلْ عَلِمْتُمْ فَاعِلًا
لَمْ يَزَلْ مُوجِبًا لِمَفْعُولِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مَفْعُولُهُ مَعْلُولًا لَهُ؟
فَهَذَا شَيْءٌ لَا تَعْقِلُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا غَيْرُكُمْ، فَكَيْفَ
تُثْبِتُونَ بِالْمَعْقُولِ مَا لَا يُعْقَلُ أَصْلًا مُعَيَّنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ
يُعْقَلَ مُطْلَقًا؟ وَالْمُطْلَقُ فَرْعُ الْمُعَيَّنِ، فَمَا لَا يَكُونُ
مَوْجُودًا مُعَيَّنًا لَا يُعْقَلُ لَا مُعَيَّنًا وَلَا مُطْلَقًا، وَلَكِنْ
يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا فِي الذِّهْنِ كَمَا تُقَدَّرُ الْمُمْتَنَعَاتُ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُمْكِنًا فِي الْخَارِجِ يَكُونُ الْعِلْمُ
بِوُجُودِهِ، أَوْ بِوُجُودِ مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْلَى بِالْوُجُودِ مِنْهُ،
كَمَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي تَقْرِيرِ إِمْكَانِ الْمَعَادِ
كَقَوْلِهِ: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾
[سُورَةُ غَافِرٍ: ٥٧]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [سُورَةُ الرُّومِ: ٢٧]، وَقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ
يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى -
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - أَلَيْسَ ذَلِكَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: ٣٧، ٤٠]
وَقَوْلِهِ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سُورَةُ الْأَحْقَافِ:
٣٣]،وَقَوْلِهِ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [سُورَةُ يس: ٧٨]
إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى﴾ [سُورَةُ يس: ٨١]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنَ
ابْتِدَائِهِ، وَخَلْقُ الصَّغِيرِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْ خَلْقِ
الْعَظِيمِ. فَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ إِذَا عُرِضَ عَلَى
الْعَقْلِ وَلَمْ يُعْلَمِ امْتِنَاعُهُ، فَإِمْكَانُهُ ذِهْنِيٌّ، بِمَعْنَى
عَدَمِ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ، لَيْسَ إِمْكَانُهُ خَارِجِيًّا، بِمَعْنَى
الْعِلْمِ بِالْإِمْكَانِ فِي الْخَارِجِ.
وَلِهَذَا مَا تَذْكُرُهُ
طَائِفَةٌ مِنَ النُّظَّارِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ
يُقَرِّرَ إِمْكَانَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُهُ لَمْ يَلْزَمْ
مِنْهُ مُحَالٌ، مُجَرَّدُ دَعْوَى. وَغَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَا نَعْلَمُ
أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ
فَهَؤُلَاءِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا إِمْكَانَ كَوْنِ الْمَفْعُولِ
لَازِمًا لِفَاعِلِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ،
أَوْ ثُبُوتَ مَا ذَاكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ.
فَلَا يُعْلَمُ قَطُّ فَاعِلٌ إِلَّا فَاعِلًا يُحْدِثُ فِعْلَهُ أَوْ
مَفْعُولَهُ، لَا يُقَارِنُهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ وَيُلَازِمُهُ، بَلْ هَذَا
إِلَى نَفْيِ كَوْنِهِ فَاعِلًا وَوَصْفِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفْيِ اللَّازِمِ
لَهُ، أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا قَادِرًا، فَقَدْ جَعَلُوا اللَّهَ
مَثَلَ السَّوْءِ، وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَالْوَاجِبُ فِي
الْأَدِلَّةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يُسْلَكَ بِهَا هَذَا الْمَسْلَكُ فَيُعْلَمَ
أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ كَانَ لِمَخْلُوقٍ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ، فَإِنَّ
كَمَالَ الْمَخْلُوقِ مِنْ كَمَالِ خَالِقِهِ، وَعَلَى اصْطِلَاحِهِمْ كَمَالُ
الْمَعْلُولِ مِنْ كَمَالِ الْعِلَّةِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَكْمَلُ مِنَ
الْمُمْكِنِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ مُمْكِنٍ لَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ كُلِّ
مُمْكِنٍ، وَيُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ
أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّقْصَ يُنَاقِضُ الْكَمَالَ، فَإِذَا
كَانَ أَحَقَّ بِثُبُوتِ الْكَمَالِ كَانَ أَحَقَّ بِنَفْيِ النَّقْصِ، وَهَذِهِ
الْقَضِيَّةُ بُرْهَانِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَهَا.
وَهُمْ يَقُولُونَ أَيْضًا:
إِنَّ الْفِعْلَ صِفَةُ كَمَالٍ، وَيَرُدُّونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ إِنَّهُ لَيْسَ صِفَةَ كَمَالٍ وَلَا نَقْصٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [سُورَةُ
النَّحْلِ: ١٧] .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ،
فَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْفَاعِلَ الَّذِي يَفْعَلُ بِقُدْرَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا
قُدْرَةَ لَهُ وَلَا إِرَادَةَ، وَالْفَاعِلُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ الَّذِي
يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ مَفْعُولُهُ لَازِمًا
لَهُ يَقْدِرُ عَلَى إِحْدَاثِ شَيْءٍ وَلَا تَغْيِيرِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ،
إِنْ كَانَ يَعْقِلُ فَاعِلًا يَلْزَمُهُ مَفْعُولُهُ الْمُعَيَّنُ، فَإِنَّ
الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَفْعُولَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيَقْدِرُ عَلَى
تَغْيِيرِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَكْمَلُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَلِمَاذَا يَصِفُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ النَّاقِصِ إِنْ كَانَ
ذَلِكَ مُمْكِنًا؟ كَيْفَ وَمَا ذَكَرُوهُ مُمْتَنَعٌ، لَا يُعْقَلُ فَاعِلٌ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي قَالُوهُ؟ .
بَلْ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا
فَاعِلًا لِلَازِمِهِ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ بِحَالٍ، كَانَ مُخَالِفًا
لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ عِنْدَ النَّاسِ، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا صِفَةٌ لَهُ أَوْ
مُشَارِكٌ لَهُ لَيْسَ مَفْعُولًا لَهُ. وَلَوْ قِيلَ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ
السَّلِيمِي الْفِطْرَةِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَعَ
هَذَا فَلَمْ تَزَالَا مَعَهُ، لَقَالُوا: هَذَا يُنَافِي خَلْقَهُ لَهُمَا، فَلَا
يُعْقَلُ خَلْقُهُ لَهُمَا إِلَّا إِذَا خَلَقَهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونَا
مَوْجُودَتَيْنِ.
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: لَمْ
تَزَالَا مَوْجُودَتَيْنِ كَانَ الْقَوْلُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمَا
جَمِيعًا بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمُ الَّتِي
لَمْ تُغَيَّرْ عَنْ فِطْرَتِهَا.
وَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ
إِخْبَارِ الرُّسُلِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَنَحْوُ
ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْإِخْبَارِ بِحُدُوثِهِمَا، لَمْ يَحْتَاجُوا مَعَ ذَلِكَ
أَنْ يَقُولُوا: خَلَقَهُمَا بَعْدَ عَدَمِهِمَا، وَلَكِنْ أُخْبِرُوا بِزَمَانِ
خَلْقِهِمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [سُورَةُ يُونُسَ: ٣] .
وَالْإِنْسَانُ لَمَّا كَانَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ خُلِقَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، ذُكِّرَ بِذَلِكَ لِيُسْتَدَلَّ
بِهِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى تَغْيِيرِ الْعَادَةِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ
تَعَالَى ذَلِكَ فِي خَلْقِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليه السلام، وَفِي
النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا - قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا - قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ
خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [سُورَةُ مَرْيَمَ: ٧ - ٩]، وَقَالَ
تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا -
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ
شَيْئًا﴾] [سُورَةُ مَرْيَمَ: ٦٦ - ٦٧] .
فَذَكَّرَ الْإِنْسَانَ
بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا؛ لِيَسْتَدِلَّ
بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَعَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ
مِنْهُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنَّ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَنْ عِلَّةٍ قَدِيمَةٍ، قَالُوا
مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنٌ، لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ مِنْ نَفْسِهِ،
وَإِنَّمَا وُجُودُهُ مِنْ مُبْدِعِهِ، فَوَصَفُوا الْمَوْجُودَ الَّذِي لَمْ
يَزَلْ مَوْجُودًا، الْوَاجِبَ بِغَيْرِهِ، بِأَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ.
فَخَالَفُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ سَلَفِهِمْ وَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ بَنِي آدَمَ
مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعْدُومًا، وَلَا يُعْقَلُ مَا
يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ إِلَّا مَا كَانَ مَعْدُومًا. وَهَذَا
قَوْلُ أَرِسْطُو وَقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَكِنَّ ابْنَ سِينَا وَأَتْبَاعَهُ
خَالَفُوا هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمُ ابْنُ رُشْدٍ
وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْمُمْكِنَ إِلَّا مَا أَمْكَنَ
وُجُودُهُ وَأَمْكَنَ عَدَمُهُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَأَنْ يَكُونَ
مَعْدُومًا، أَيْ مُسْتَمِرُّ الْعَدَمِ.
وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ
الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ، كَمَا يُقَالُ: يُمْكِنُ أَنْ تَحْمِلَ
الْمَرْأَةُ وَأَنْ تُنْبِتَ الْأَرْضُ وَأَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّبِيُّ، فَمَحَلُّ
الْإِمْكَانِ هُوَ الرَّحِمُ وَالْأَرْضُ وَالْقَلْبُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ
فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ مَا هِيَ قَابِلَةٌ لَهُ مِنَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ
وَالْعِلْمِ.
أَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي
لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ
يُقَالُ: يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَيُمْكِنَ أَنْ لَا يُوجَدَ؟ وَإِذَا قِيلَ: هُوَ
بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ. قِيلَ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِذَاتِهِ
مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَذَاكَ لَا يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ
الْوُجُودَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا
أَنَّهُ يَقْبَلُ أَنْ يُعْدَمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ
وَاجِبًا بِغَيْرِهِ دَائِمًا، فَمَتَى قَبِلَ الْعَدَمَ فِي الْمُسْتَقِيلِ أَوْ
كَانَ مَعْدُومًا، لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا قَدِيمًا وَاجِبًا
بِغَيْرِهِ دَائِمًا، كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَالَمِ.
فَإِنْ أُرِيدَ بِقَبُولِ
الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مُمْتَنَعٌ. وَإِنْ أُرِيدَ
فِي الْحَالَيْنِ : أَيْ يَقْبَلُ الْوُجُودَ تَارَةً وَالْعَدَمَ أُخْرَى،
امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا لِتَعَاقُبِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ
عَلَيْهِ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ ذَاتَهُ الَّتِي تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ
شَيْءٌ غَيْرُ الْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ، فَذَاكَ لَيْسَ بِذَاتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: يُرِيدُ بِهِ
أَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مَوْجُودًا فِي
الْخَارِجِ وَمَعْدُومًا، كَمَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ
الْأُمُورِ.
قِيلَ: هَذَا أَيْضًا
يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِمْكَانَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَدَمِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ
إِنَّمَا هُوَ فِي شَيْءٍ يَتَصَوَّرُهُ الْفَاعِلُ فِي نَفْسِهِ، يُمْكِنُ أَنْ
يَجْعَلَهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَيُمْكِنَ أَنْ يَبْقَى مَعْدُومًا،
وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا يُعْدَمُ تَارَةً وَيُوجَدُ أُخْرَى، وَأَمَّا
مَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ، فَهَذَا لَا يُعْقَلُ فِيهِ
الْإِمْكَانُ أَصْلًا، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: ذَاتُهُ تَقْبَلُ الْوُجُودَ
وَالْعَدَمَ، كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا لَا يُعْقَلُ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ
تَفَطَّنَ لَهُ أَذْكِيَاءُ النُّظَّارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ عَلَى ابْنِ
سِينَا وَأَتْبَاعِهِ، كَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ
جَعَلَ هَذَا سُؤَالَاتٍ وَارِدَةٍ عَلَى الْمُمْكِنِ، كَمَا يَفْعَلُهُ
الرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ، وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ابْنَ سِينَا فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُمْكِنًا
بِنَفْسِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ دَائِمًا أَزَلًا وَأَبَدًا. بَلْ هَذَا بَاطِلٌ
كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالْفَلَاسِفَةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِ نَظَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ : لَا يَكُونُ
الْمُمْكِنُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَا يَكُونُ مَعْدُومًا تَارَةً وَمَوْجُودًا
أُخْرَى، فَالْإِمْكَانُ وَالْعَدَمُ مُتَلَازِمَانِ.
وَإِذَا كَانَ مَا سِوَى
الرَّبِّ تَعَالَى لَيْسَ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، بَلْ كَانَ مُمْكِنًا، وَجَبَ
أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَا بُدَّ لِيَصِحَّ وَصْفُهُ
بِالْإِمْكَانِ.
وَهَذَا بُرْهَانٌ
مُسْتَقِلٌّ فِي أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
شَيْئًا، فَسُبْحَانَ مَنْ تَفَرَّدَ بِالْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ، وَأَلْزَمَ مَا
سِوَاهُ بِالْحُدُوثِ عَنِ الْعَدَمِ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ
إِمَّا أَنْ يُقَالَ: وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ،
كَمَا هُوَ قَوْلُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ
الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ
لَيْسَ فِي الْخَارِجِ لِلْمَوْجُودَاتِ
مَاهِيَّاتٌ غَيْرُ مَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ، فَيُخَالِفُونَ مَنْ
يَقُولُ: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَنْ قَالَ:
إِنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءِ الثَّابِتَ فِي الْخَارِجِ مُغَايِرٌ لِمَاهِيَّتِهِ
وَلِحَقِيقَتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ
يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ:
وُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ،
لَمْ يَكُنْ لِلْعَالَمِ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ غَيْرُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي
الْخَارِجِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ.
وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي،
فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، لَمْ يَكُنْ لِلذَّاتِ حَالٌ
تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، بَلْ لَمْ تَزَلْ مُتَّصِفَةً بِالْوُجُودِ.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ
الْمُمْكِنَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، مَعَ قَوْلِهِ
بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، جَمْعٌ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ.
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ
مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، كَانَ قَوْلُهُ أَيْضًا مُتَنَاقِضًا، سَوَاءٌ
عَنَى بِذَاتِهِ الْوُجُودَ فِي الْخَارِجِ أَوْ شَيْئًا آخَرَ يَقْبَلُ
الْوُجُودَ فِي الْخَارِجِ. فَإِنَّ تِلْكَ إِذَا لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً، وَوُجُودُهَا
وَاجِبٌ، لَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لِلْعَدَمِ أَصْلًا، وَلَمْ يَكُنْ عَدَمُهَا
مُمْكِنًا أَصْلًا.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هِيَ
بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّهَا لَمْ تَزَلْ
مَوْجُودَةً، مَعْنَاهُ أَنَّ الذَّاتَ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً وَاجِبَةً
بِغَيْرِهَا يُمْتَنَعُ عَدَمُهَا، هِيَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ تَقْبَلُ
الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَيُمْكِنُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا، وَبُسِطَ هَذَا
بِتَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُمْكِنِ، كَمَا قَدْ بَسَطُوهُ فِي مَوْضِعِهِ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ
الْمُمْكِنَ هُوَ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا
يُوجِدُهُ غَيْرُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَا شَيْءٌ يُوصَفُ بِالْفَقْرِ
وَالْإِمْكَانِ وَقَبُولِ الْعَدَمِ، ثُمَّ يُوصَفُ بِالْغِنَى وَالْوُجُودِ،
فَأَمَّا مَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا غَنِيًّا، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِفَقْرٍ
وَإِمْكَانٍ؟ فَإِنَّهُ إِنْ حُكِمَ بِالْفَقْرِ وَالْإِمْكَانِ وَقَبُولِ
الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ الْغَنِيِّ، كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا فِيهِ كَمَا
تَقَدَّمَ إِذَا كَانَ لَا يَقْبَلُ
الْعَدَمَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ حُكِمَ بِالْفَقْرِ وَالْإِمْكَانِ وَقَبُولِ
الْعَدَمِ عَلَى مَا فِي الذِّهْنِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ وُجُودُهُ فِي
الْخَارِجِ إِلَى فَاعِلٍ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا
بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا ثُمَّ يُوجَدُ.
وَإِنْ قِيلَ: بَلْ
فَاعِلُهُ يَتَصَوَّرُهُ فِي نَفْسِهِ مَعَ دَوَامِ فِعْلِهِ لَهُ، وَالْمُمْكِنُ
هُوَ مَا فِي النَّفْسِ.
قِيلَ: مَا فِي النَّفْسِ
الْوَاجِبُ وَاجِبٌ بِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، وَمَا فِي الْخَارِجِ وَاجِبٌ
بِهِ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، فَأَيْنَ الْقَابِلُ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؟ .
وَإِنْ قِيلَ: مَا تُصُوِّرَ
فِي النَّفْسِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فِي الْخَارِجِ.
قِيلَ: هَذَا مُمْتَنَعٌ
مَعَ وُجُوبِ وَجُودِهِ دَائِمًا فِي الْخَارِجِ، بَلْ هَذَا مَعْقُولٌ فِيمَا
يُعْدَمُ تَارَةً وَيُوجَدُ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ
مُمْكِنًا فَقِيرًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا تَارَةً وَمَعْدُومًا أُخْرَى
.
وَهَذَا الدَّلِيلُ
مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ، فَكُلُّ مَنْ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا مِنَ
الْأَشْيَاءِ مُحْتَاجًا إِلَى اللَّهِ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، لَيْسَ مَوْجُودًا
بِنَفْسِهِ بَلْ وُجُودُهُ بِاللَّهِ، تَصَوَّرَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: هُوَ فَقِيرٌ مَصْنُوعٌ مُحْتَاجٌ،
وَأَنَّهُ دَائِمًا مَعَهُ لَمْ يَحْدُثْ عَنْ عَدَمٍ، لَمْ يُعْقَلْ هَذَا وَلَمْ
يُتَصَوَّرْ إِلَّا كَمَا
تُتَصَوَّرُ
الْمُمْتَنَعَاتُ، بِأَنْ يُقَدَّرَ فِي الذِّهْنِ تَقْدِيرًا لَا يُتَصَوَّرُ
تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ تَحَقُّقَهَا فِي الْخَارِجِ مُمْتَنَعٌ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا
قِيلَ: الْمُحْوِجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْإِمْكَانُ أَوْ هُوَ الْحُدُوثُ،
لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مُنَافَاةٌ، فَإِنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ حَادِثٌ،
وَكُلُّ حَادِثٍ مُمْكِنٌ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ
الْقَوْلَيْنِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْوِجَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ هُوَ
الْإِمْكَانُ وَالْحُدُوثُ جَمِيعًا. فَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ لَمَّا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ
يَكُونُ الشَّيْءُ مُمْكِنًا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ حَادِثٍ.
وَهَذَا الَّذِي قُرِّرَ فِي
امْتِنَاعِ كَوْنِ الْعَالَمِ قَدِيمًا، وَامْتِنَاعِ كَوْنِ فَاعِلِهِ عِلَّةً
قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً صَحِيحٌ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ
أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِاقْتِرَانِ مُرَادِهَا بِهَا، أَوْ قِيلَ: لَيْسَ
بِمُرِيدٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْفَلَكِ مَعَ حَرَكَتِهِ، أَوْ
لِلْفَلَكِ بِدُونِ حَرَكَتِهِ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي
كُلِّ مَا يُقَدَّرُ قَدِيمًا مَعَهُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُقَارِنًا لِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، أَوْ مُمْكِنًا أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْءٌ
مِنَ الْحَوَادِثِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا
مَعَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُوجَبٍ
تَامٍّ مُسْتَلْزِمٍ لِمُوجِبِهِ، وَثُبُوتُ هَذَا فِي الْأَزَلِ يَقْتَضِي
أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالْحَوَادِثُ لَا تَحْدُثُ إِلَّا عَنْهُ،
فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا أَزَلِيًّا
إِلَّا إِذَا حَدَثَ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ فَاعِلَ الْعَالَمِ يُمْتَنَعُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ فِي الْأَزَلِ.
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مُرِيدٌ
بِإِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِمُرَادِهَا الَّذِي هُوَ الْعَالَمُ، أَوْ
يَتَأَخَّرُ عَنْهَا مُرَادُهَا الَّذِي هُوَ حَوَادِثُهُ، كَانَ الْقَوْلُ
كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا إِرَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ
مُقَارِنَةٌ لِمُرَادِهَا، امْتَنَعَ أَنْ تَحْدُثَ عَنْهُ الْحَوَادِثُ،
لَكِنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ لَا تَحْدُثَ عَنْهُ الْحَوَادِثُ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ
لَا يَكُونَ لَهُ إِلَّا إِرَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ مُقَارِنَةٌ لِمُرَادِهَا، مَعَ
أَنَّ الْإِرَادَةَ لِمَفْعُولَاتٍ لَازِمَةٍ لِلْفَاعِلِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، بَلْ
إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْفَاعِلِ بِإِرَادَاتِهِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا
بَعْدَ شَيْءٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّ الْكَلَامَ الْمَقْدُورَ الْمُعَيَّنَ
قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْقَلْ هَذَا فِي الْمَقْدُورِ
الْقَائِمِ بِهِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ فِي الْمُبَايِنِ لَهُ؟ .وَإِذَا قِيلَ: لَهُ
إِرَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ مُقَارِنَةٌ لِلْمُرَادِ، وَإِرَادَةٌ أُخْرَى حَادِثَةٌ
مَعَ الْحَوَادِثِ
قِيلَ: فَحُدُوثُ هَذِهِ
الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ: إِنْ كَانَ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ
الَّتِي يَجِبُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهَا لَهَا، كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ حَادِثَةٌ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ
تَكُونُ مُقَارِنَةً
لِلْقَدِيمَةِ الَّتِي قَارَنَهَا مُرَادُهَا، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ تِلْكَ
الْإِرَادَةِ، لَزِمَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ إِرَادَتِهِ، وَهَذَا
يَقْتَضِي جَوَازَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِدُونِ إِرَادَتِهِ، فَلَا يَكُونُ
فَاعِلًا مُخْتَارًا، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْحَادِثَةَ إِنْ كَانَتْ فِعْلَهُ
فَقَدْ حَدَثَتْ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِعْلَهُ كَانَ قَدْ
حَدَثَ حَادِثٌ بِلَا فِعْلِهِ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ
جَمَاهِيرُ النَّاسِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ
بِحُدُوثِ إِرَادَةِ اللَّهِ بِدُونِ إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَبِقِيَامِ إِرَادَتِهِ
لَا فِي مَحَلٍّ.
وَإِنْ قِيلَ: بَلْ لَمْ
تَزَلْ تَقُومُ بِهِ الْإِرَادَاتُ لِلْحَوَادِثِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ
يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَمْ
يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ.
قِيلَ: فَعَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ لَيْسَ هُنَا إِرَادَةٌ قَدِيمَةٌ لِمَفْعُولٍ قَدِيمٍ.
وَإِنْ قِيلَ: يَجْتَمِعُ
فِيهِ هَذَا وَهَذَا.
قِيلَ: فَهَذَا مُمْتَنَعٌ
مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِ كَوْنِ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ لِلْفَاعِلِ لَا
سِيَّمَا الْمُخْتَارُ مُلَازِمًا لَهُ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمَفْعُولِ
بِالْإِرَادَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَتَقَدَّمَهُ الْإِرَادَةُ، وَأَنْ تَثْبُتَ
إِلَى أَنْ يُوجَدَ، بَلْ هَذَا فِي كُلِّ مَفْعُولٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا
قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَاتُ الْمُتَعَاقِبَةُ كَانَتْ مُرَادَاتُهُ أَيْضًا
مُتَعَاقِبَةً، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُ الْقَائِمَةُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَتْ تِلْكَ
الْإِرَادَاتُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً
لِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَلْزُومَةً لِمُرَادِهَا، لَزِمَ
كَوْنُ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهَا
مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، كَانَتْ تِلْكَ الْإِرَادَةُ كَافِيَةً فِي حُصُولِ
الْمُرَادَاتِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي وُجُودَهَا
فَلَا تُوجَدُ؛ إِذِ الْحَادِثُ لَا يُوجَدُ إِلَّا لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ
التَّامِّ.
فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ
الْفَاعِلَ يُرِيدُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ،
لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ نَفْسُهُ
مُقْتَضِيَةً لِحُدُوثِ أَفْعَالِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَتَكُونُ
مَفْعُولَاتُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ،
كَانَتْ نَفْسُهُ مُقْتَضِيَةً لِحُدُوثِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ
وَالْمَفْعُولَاتِ، وَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ، امْتَنَعَ
مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُقْتَضِيَةً لِقَدَمِ فِعْلٍ وَمَفْعُولٍ مَعَ
إِرَادَتِهِمَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لَهُمَا، فَإِنَّ ذَاتَهُ تَكُونُ مُقْتَضِيَةً
لِأَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ؛ لِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا حُدُوثُ أَفْرَادِ الْفِعْلِ
وَالْمَفْعُولِ وَقِدَمُ النَّوْعِ مُنَاقِضٌ لِاقْتِضَائِهَا قِدَمَ عَيْنِ
الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْمَفْعُولَ غَيْرُ تِلْكَ
الْمَفْعُولَاتِ، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لَهَا لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا وَلَا تُوجَدُ
إِلَّا بِهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَإِذَا تَلَازَمَتِ الْمَفْعُولَاتُ،
فَتَلَازُمُ أَفْعَالِهَا وَإِرَادَتِهَا أَوْلَى، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ
الْقُدَمَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْإِرَادَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَفِعْلُهَا،
وَمَفْعُولُهَا، مَلْزُومًا لِحَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَازِمًا.
وَحِينَئِذٍ فَالذَّاتُ فِي
فِعْلِهَا لِلْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ مُوجِبَةٌ
لَهُ، وَهِيَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ عِلَّةً أَزَلِيَّةً تُحْدِثُ
فَاعِلِيَّتَهَا وَتَمَامَ إِيجَابِهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالذَّاتُ
مَوْصُوفَةٌ بِغَايَةِ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، فَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا فِي أَنْ
يَكُونَ مَا فِيهَا بِالْقُوَّةِ هُوَ بِالْفِعْلِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ
إِمْكَانِ ذَلِكَ، وَلَا كَوْنِ دَوَامِ الْإِحْدَاثِ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لَا
يَحْدُثَ عَنْهَا شَيْءٌ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ فَيَجِبُ
أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا، وَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ حَادِثٌ.
وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا فِي أَنْ تُحْدِثَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لَا يُمْكِنُهَا إِحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ، وَلِأَنَّ
الْفِعْلَ صِفَةُ كَمَالٍ، وَالْفِعْلُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ دَائِمًا أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لَا
يَحْدُثَ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ هَذَا الَّذِي بِالْقُوَّةِ هُوَ جِنْسُ الْفِعْلِ،
وَهَذَا بِالْفِعْلِ دَائِمًا.
وَأَمَّا كَوْنُ كُلٍّ مِنَ
الْمَفْعُولَاتِ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمَفْعُولَاتِ أَزَلِيًّا فَهَذَا لَيْسَ
بِالْقُوَّةِ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ، فَلَيْسَ فِي مُقَارَنَةِ
مَفْعُولِهَا الْمُعَيِّنِ لَهَا كَمَالٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُمْتَنَعًا أَوْ كَانَ
نَقْصًا يُنَافِي الْكَمَالَ الْوَاجِبَ لَهَا، لَا سِيَّمَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ
إِحْدَاثَ نَوْعِ الْمَفْعُولَاتِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَكْمَلُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ مُقَارِنُ الْفَاعِلِ أَزَلِيًّا مَعَهُ .
فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ
يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ مُقَارِنٌ لَهَا، فَلَا
يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا بُرْهَانٌ
مُسْتَقِلٌّ مُتَلَقًّى مِنْ قَاعِدَةِ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ لَهُ وَتَنَزُّهِهِ
عَنِ النَّقْصِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ
أَنْ يُقَالَ: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ إِحْدَاثَ مَفْعُولٍ بَعْدَ
مَفْعُولٍ لَا إِلَى نِهَايَةٍ أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِلَّا مَفْعُولًا
وَاحِدًا لَازِمًا لِذَاتِهِ، إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ مُمْكِنًا. وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ أَكْمَلَ فَهُوَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ الذَّاتَ
يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ لَهَا،
وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لَهَا وَجَبَ اتِّصَافُهَا بِهِ
دُونَ نَقِيضِهِ الَّذِي هُوَ أَنْقَضُ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَعْطِيلٌ عَنِ
الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ اتِّصَافٌ بِالْفِعْلِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَبَيَانُ
هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ، وَالْمَفْعُولَ الْمُعَيَّنَ الْمُقَارِنَ
لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُمْتَنَعًا. فَإِنْ كَانَ مُمْتَنَعًا، امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ،
وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ
الْأَكْمَلَ أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْمَلَ، وَجَبَ أَنْ لَا
يَحْدُثَ شَيْءٌ. وَإِحْدَاثُهُ حِينَئِذٍ عُدُولٌ عَنِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ
مُحَالٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْمَلَ، فَالْأَكْمَلُ نَقِيضُهُ، وَهُوَ
إِحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ
قَدِيمًا.
وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ
إِلَّا سُؤَالًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ يُمْكِنُ
إِلَّا هَذَا، فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفَلَكِ أَنْ يَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ، وَلَا
فِي الْحَوَادِثِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا شَيْءٌ قَدِيمٌ.
قِيلَ: إِنْ أَرَدْتُمُ
امْتِنَاعَ هَذَا لِذَاتِهِ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ قَبْلَ
الْفَلَكِ فَلَكٌ، وَقَبْلَهُ فَلَكٌ، لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُ هَذَا بِأَعْظَمَ
مِنَ امْتِنَاعِ دَوَامِ الْفَلَكِ، بَلْ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ النَّوْعِ
يُمْكِنُ دَوَامُهُ، فَدَوَامُ النَّوْعِ أَوْلَى.
وَلِهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ
يَكُونَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَشَرِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، مَعَ امْتِنَاعِ قِدَمِ
نَوْعِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَإِنْ قَدَّرْتُمْ أَنَّهُ مُمْتَنَعٌ
لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِ: لِوُجُودِ مُضَادٍّ لَهُ، أَوْ لِانْتِفَاءِ
حِكْمَةِ الْفَاعِلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ أَمْرٍ يُنَافِي قِدَمَ نَوْعِ
الْمَفْعُولِ، فَهُوَ أَشَدُّ مُنَافَاةً لِقِدَمِ عَيْنِهِ. فَإِنْ جَازَ قِدَمُ
عَيْنِهِ، فَقِدَمُ النَّوْعِ مِنْ حُدُوثِ الْأَفْرَادِ أَجْوَزُ، وَإِنِ
امْتَنَعَ هَذَا الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ أَشَدُّ امْتِنَاعًا، وَكُلُّ شَيْءٍ
أَوْجَبَ حُدُوثَ أَفْرَادِ بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ الْمُمْكِنِ قِدَمُهَا، فَهُوَ
أَيْضًا مُوجِبٌ لِحُدُوثِ نَظِيرِهِ.
وَهَبْ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ لِذَاتِهَا لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ، لَكِنَّ
الْحَوَادِثَ جَوَاهِرٌ كَثِيرَةٌ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَالْعَنَاصِرُ
الْأَرْبَعَةُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ، أَمْكَنَ
إِبْقَاؤُهَا قَدِيمَةَ الصُّورَةِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحَالَتُهَا مِنْ حَالٍ
إِلَى حَالٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ قِدَمُ
أَعْيَانِهَا حَصَلَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِنْ قِيلَ: هَذَا
مُمْكِنٌ دُونَ هَذَا، كَانَ مُكَابَرَةً.
وَإِنْ قِيلَ: الْمُوجِبُ
لِاسْتِحَالَتِهَا حَرَكَةُ الْأَفْلَاكِ.
قِيلَ: مِنَ الْمَعْلُومِ
بِالِاضْطِرَارِ إِمْكَانُ تَحَرُّكِ الْأَفْلَاكِ دُونَ اسْتِحَالَةِ
الْعَنَاصِرِ، كَمَا أَمْكَنَ تَحَرُّكُ الْفَلَكِ الْأَعْلَى دُونَ اسْتِحَالَةِ
الثَّانِي. وَتَقْدِيرُ اسْتِحَالَةِ الْفَلَكِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
وَبَقَائِهِمَا، كَتَقْدِيرِ اسْتِحَالَةِ الْعَنَاصِرِ وَبَقَائِهَا، لَا
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ دُونَ الْآخَرِ. فَعُلِمَ أَنَّ
ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمَفْعُولَاتِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَةِ الْفَاعِلِ وَحِكْمَتِهِ.وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ،
فَإِنَّنَا لَا نُنَازِعُ أَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ يُوجِبُ فِعْلَ لَوَازِمِهِ،
وَيُنَافِي وُجُودَ أَضْدَادِهِ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ فِعْلِ
شَيْءٍ، قَدْ يَكُونُ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ. فَالْخَالِقُ الَّذِي اقْتَضَتْ
حِكْمَتُهُ إِحْدَاثَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْمَعَادِنِ،
اقْتَضَتْ أَنْ تُنْقَلَ مَوَادُّهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَلَكِنَّ
الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْجِسْمَيْنِ حَقِيقَةٌ اقْتَضَتِ
اخْتِصَاصَهُ بِالْقِدَمِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ دُونَ الْأُخْرَى، لَا سِيَّمَا وَلَا
حَقِيقَةَ لِوُجُودِ شَيْءٍ سِوَى الْمَوْجُودِ الثَّابِتِ فِي الْخَارِجِ، فَلَا
اقْتِضَاءَ لِحَقِيقَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَلَكِنَّ الْبَارِي
تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ هُوَ
الَّذِي يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ.
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
إِذَا كَانَ مُقَارَنَةُ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ لِلْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا
مُمْتَنَعًا أَوْ نَقْصًا، امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، فَكَيْفَ
إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتًا هُوَ مُمْتَنَعٌ، وَمَعَ تَقْدِيرِ
إِمْكَانِهِ فَهُوَ نَقْصٌ؟ فَإِنَّ قِدَمَ نَوْعِهِ أَكْمَلُ مِنْ قِدَمِ
عَيْنِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ أَوْلَى
بِالْإِمْكَانِ وَهُوَ أَكْمَلُ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ نَقِيضُهُ هُوَ
الْمُمْكِنُ، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ.
وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا
يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَوَامِ فَاعِلِيَّةِ الرَّبِّ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ،
فَإِنَّ فَاعِلِيَّةَ النَّوْعِ أَكْمَلُ مِنْ فَاعِلِيَّةِ الشَّخْصِ، وَهُوَ
الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الشَّخْصُ قَطْعًا وَحِسًّا، فَإِنَّا نَشْهَدُ بِفَاعِلِيَّةِ
نَوْعٍ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ دَوَامُ الْفَاعِلِيَّةِ مُمْكِنًا،
فَهَذَا مُمْكِنٌ لِوُجُودِهِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ
لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عِلْمِنَا بِدَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ،
دَوَامُ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَصْلًا. وَدَوَامُ النَّوْعِ يَقْتَضِي حُدُوثَ
أَفْرَادِهِ، فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِمُقَارَنَةِ مُرَادِهِ لَهُ فِي
الْأَزَلِ مُمْتَنَعٌ، يَمْنَعُ صُدُورَ الْحَوَادِثِ عَنْهُ.
وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُقَالَ: الْإِرَادَةُ الْحَادِثَةُ لَا يُقَارِنُهَا مُرَادُهَا،بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ الْإِرَادَةَ الْحَادِثَةَ يُقَارِنُهَا مُرَادُهَا، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ يُقَارِنُهَا مَقْدُورُهَا، وَإِنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ.
يوم
الأربعاء 19 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد
إبراهيم _شحوح _ سيئون