بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس الحادي والعشرون: من التعليق
على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة
الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا:
أَنَّهُ إِذَا قِيلَ بِأَنَّ الْإِرَادَةَ يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهَا مُرَادُهَا،
كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. وَإِنْ قِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهَا مُرَادُهَا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقَارِنَهَا، أَوْ قِيلَ:
يُمْتَنَعُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهَا لَهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثَةِ
يَجِبُ حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ.
أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ
وُجُوبِ مُقَارَنَةِ الْمُرَادِ لِلْإِرَادَةِ، فَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ
الْإِرَادَةُ أَزَلِيَّةً، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمُرَادَاتِ
أَزَلِيَّةً، فَلَا يَحْدُثُ شَيْءٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ وَالْعِيَانِ.
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِنَا: لَوْ كَانَ مُوجَبًا بِذَاتِهِ أَزَلِيًّا، أَوْ
عِلَّةً تَامَّةً لِمَعْلُولِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مُوجِبِهِ
وَمَعْلُولِهِ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلِيًّا، فَيُمْتَنَعُ حُدُوثُ شَيْءٍ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ
إِرَادَةٌ حَادِثَةٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي غَيْرِهَا مِنَ
الْحَوَادِثِ: إِنْ حَدَثَتْ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي
يَجِبُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهَا لَهَا كَانَ مُمْتَنَعًا، وَإِنْ حَدَثَتْ بِلَا
إِرَادَةٍ وَلَا سَبَبٍ حَادِثٍ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى
الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مُقَارَنَةِ الْمُرَادِ لِلْإِرَادَةِ يُمْتَنَعُ قِدَمُ
شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ، سَوَاءٌ قِيلَ بِقِدَمِ الْإِرَادَةِ أَوْ حُدُوثِهَا،
أَوْ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا وَحُدُوثٍ شَيْءٍ آخَرَ.
وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَجُوزُ مُقَارَنَتُهُ لِلْإِرَادَةِ وَيَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عَنْهَا، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ حُدُوثُ جَمِيعِ الْعَالَمِ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ، كَمَا تَقُولُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ حُجَّةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.
وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا
قَالُوا هَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ بُطْلَانَ التَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ
وَامْتِنَاعَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. فَإِنْ كَانَ مَا قَالُوهُ حَقًّا،
وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا، لَزِمَ حِينَئِذٍ حُدُوثُ
الْعَالَمِ، وَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِقِدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ
مِنْهُ عَنْ مُقَارَنَةِ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ. حَتَّى الْعُقُولُ
وَالنُّفُوسُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِإِثْبَاتِهَا، فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ لَا
بُدَّ أَنْ تُقَارِنَ الْحَوَادِثَ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ
لَهَا، كَانَ مَا لَمْ يَسْبِقِ الْحَوَادِثَ بِمَنْزِلَتِهَا، يُمْتَنَعُ
قِدَمُهُ كَمَا يُمْتَنَعُ قِدَمُهَا.
وَإِنَّ كَانَ مَا قَالَهُ
هَؤُلَاءِ بَاطِلًا، أَمْكَنَ دَوَامُ الْحَوَادِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ
فَيَجُوزُ مُقَارَنَةُ الْمُرَادِ لِلْإِرَادَةِ فِي الْأَزَلِ، وَيُمْتَنَعُ
حُدُوثُ شَيْءٍ إِلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُمْتَنَعُ كَوْنُ شَيْءٍ
مِنَ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا، وَإِنَّ جَازَ أَنْ يَكُونُ نَوْعُ الْحَوَادِثِ
دَائِمًا لَمْ يَزَلْ، فَإِنَّ الْأَزَلَ لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ
مُحَدَّدٍ، بَلْ مَا مِنْ وَقْتٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَقَبْلَهُ وَقْتٌ آخَرُ، فَلَا
يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِ النَّوْعِ قِدَمُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ.
وَإِنَّمَا قِيلَ:
يُمْتَنَعُ قِدَمُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يُقَارِنَهَا
الْمُرَادُ فِي الْأَزَلِ، وَجَبَ أَنْ يُقَارِنَهَا الْمُرَادُ؛ لِأَنَّ
الْإِرَادَةَ الَّتِي يَجُوزُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهَا لَهَا لَا يَتَخَلَّفُ
عَنْهَا مُرَادُهَا إِلَّا لِنَقْصٍ فِي الْقُدْرَةِ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَتِ
الْقُدْرَةُ تَامَّةً، وَالْإِرَادَةُ الَّتِي يُمْكِنُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهَا
لَهَا حَاصِلَةً، لَزِمَ حُصُولُ الْمُرَادِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضَى التَّامِّ
لِلْفِعْلِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ مَعَ كَوْنِ الْمُرَادِ مُمْكِنًا، لَكَانَ
حُصُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى
الْآخَرِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ. وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ
يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ، يَقُولُونَ:
إِنَّ حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الْإِرَادَاتِ فِي الْأَزَلِ مُمْتَنَعٌ، لَا
يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ مُقَارَنَةُ مُرَادِهِ لَهُ.
لَكِنْ أَوْرَدَ النَّاسُ
عَلَيْهِمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ نِسْبَةُ جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْحَوَادِثِ
إِلَى الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ نِسْبَةً وَاحِدَةً، فَتَرْجِيحُ أَحَدِ
الْوَقْتَيْنِ - أَوْ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ الْوَقْتُ بِالْحُدُوثِ - تَرْجِيحٌ
بِلَا مُرَجِّحٍ، وَتَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصِّصٍ.
وَهَذَا الْكَلَامُ لَا
يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا هُنَا، فَإِنَّا لَمْ نَنْصُرْ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَكِنْ
بَيَّنَّا امْتِنَاعَ قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ،
وَأَنَّ دَوَامَ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنًا أَوْ مُمْتَنَعًا،
فَإِنَّهُ يَجِبُ حُدُوثُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ،
وَأَنَّ الْإِرَادَةَ سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ مُقَارَنَةِ مُرَادِهَا لَهَا أَوْ
بِجَوَازِ تَأَخُّرِهِ عَنْهَا، يَلْزَمُ حُدُوثُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ
عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ.
فَإِنَّ الْقَائِلِينَ
بِتَأَخُّرِ مُرَادِهَا، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الْقَوْلِ
بِدَوَامِ الْحَوَادِثِ وَوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَعَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَإِلَّا فَلَوْ جَازَ دَوَامُ
الْحَوَادِثِ، لَجَازَ عِنْدَهُمْ وُجُودُ الْمُرَادِ فِي الْأَزَلِ، وَلَوْ جَازَ
ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا بِتَأَخُّرِ الْمُرَادِ عَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ
الْأَزَلِيَّةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ
عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَةِ عَلَيْهِمْ،
وَنِسْبَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا صَرِيحَ
الْمَعْقُولِ.
فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا
صَارُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِاعْتِقَادِهِمُ امْتِنَاعَ حَوَادِثَ لَا
أَوَّلَ لَهَا، فَاحْتَاجُوا لِذَلِكَ أَنْ يُثْبِتُوا إِرَادَةً قَدِيمَةً
أَزَلِيَّةً يَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْمُرَادُ، وَيَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَاحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ نَفْسَ الْإِرَادَةِ
تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
وَإِلَّا فَلَوِ اعْتَقَدُوا
جَوَازَ دَوَامِ الْحَوَادِثِ وَتَسَلْسُلِهَا، لَأَمْكَنَ أَنْ يَقُولُوا بِأَنَّهُ
تَحْدُثُ الْإِرَادَاتُ وَالْمُرَادَاتُ، وَيَقُولُونَ بِجَوَازِ قِيَامِ
الْحَوَادِثِ بِالْقَدِيمِ، وَلَرَجَعُوا عَنْ قَوْلِهِ: بِأَنَّ نَفْسَ
الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ،
وَعَنْ قَوْلِهِمْ بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَكَانُوا عَلَى
هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَقُولُونَ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ
يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ.
وَكَانَ هَذَا لَازِمًا
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِذَا لَمْ يَجُزْ حُدُوثُ شَيْءٍ
مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ
الْوَقْتَيْنِ بِحُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لَا
يَكُونُ تَأَخُّرُ الْمُرَادِ عَنِ الْإِرَادَةِ إِلَّا لِتَعَذُّرِ الْمُرَادِ،
إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُمْكِنًا أَنْ يُقَارِنَ الْإِرَادَةَ وَمُمْكِنًا
أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا، لَكَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ
بِالْإِحْدَاثِ تَخْصِيصًا بِلَا مُخَصِّصٍ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ
أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وُجُوبُ مُقَارَنَةِ الْمُرَادِ
لِلْإِرَادَةِ أَوِ امْتِنَاعِهِ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ مُقَارَنَتُهُ لِلْإِرَادَةِ
إِذَا كَانَ مُمْكِنًا، وَأَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ إِلَّا لِتَعَذُّرِ
مُقَارَنَتِهِ: إِمَّا لِامْتِنَاعِهِ فِي
نَفْسِهِ، وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ لَوَازِمِهِ.
وَامْتِنَاعُ اللَّازِمِ
يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْمَلْزُومِ، لَكِنْ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ لِغَيْرِهِ لَا
لِنَفْسِهِ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ كَوْنُهُ بِمَشِيئَتِهِ لَا
بِنَفْسِهِ، وَمَا لَمْ يَشَأْ يُمْتَنَعُ كَوْنُهُ لَا بِنَفْسِهِ بَلْ لِأَنَّهُ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَشَأِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ.
وَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمًا: إِمَّا مُقَارَنَةُ الْمُرَادِ
لِلْإِرَادَةِ، وَإِمَّا امْتِنَاعُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، دَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا
لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِوُجُوبِ مُقَارَنَتِهِ لَهُ فِي الْأَزَلِ. إِذِ
التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الْمُقَارَنَةِ أَوِ امْتِنَاعُ
الْمُرَادِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مُمْكِنًا فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُوبُ
الْمُقَارَنَةِ، لَكِنَّ وُجُوبَ الْمُقَارَنَةِ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ كَمَا تَقَدَّمَ،
فَلَزِمَ الْقِسْمُ الْآخَرُ: وَهُوَ امْتِنَاعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُرَادِ
الْمُعَيَّنِ فِي الْأَزَلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ تَأَخُّرُ الْمُرَادِ عَنِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُرِيدًا يُمْتَنَعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَتَبَيَّنَ حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ فَهِمَ
هَذِهِ الطَّرِيقَ اسْتَفَادَ بِهَا أُمُورًا: أَحَدُهَا: ثُبُوتُ حُدُوثِ كُلِّ
مَا سِوَى اللَّهِ، حَتَّى إِذَا قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ مَوْجُودًا سِوَى
الْأَجْسَامِ كَمَا يَقُولُ مَنْ يُثْبِتُ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ مِنَ
الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ: إِنَّهَا جَوَاهِرٌ قَائِمَةٌ
بِأَنْفُسِهَا وَلَيْسَتْ أَجْسَامًا - فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ يُعْلَمُ بِهَا
حُدُوثُ ذَلِكَ.
وَطَائِفَةٌ مِنْ
مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشَّهْرَسْتَانِيِّ، وَالرَّازِيِّ
وَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: إِنَّ قُدَمَاءَ أَهْلِ الْكَلَامِ لَمْ
يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ هَذِهِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى حُدُوثِ
الْأَجْسَامِ لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ.
وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ هَؤُلَاءِ النُّظَّارَ كَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالنَّظَّامِ
وَالْهِشَامَيْنِ وَابْنِ كُلَّابٍ وَابْنِ كَرَّامٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي
أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي
الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ
التَّمِيمِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي
الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ امْتِنَاعَ وُجُودِ
مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ، فَبَيَّنُوا
بُطْلَانَ ثُبُوتِ تِلْكَ الْمُجَرَّدَاتِ فِي الْخَارِجِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ
أَبْطَلَ ثُبُوتَ مَا لَا يُشَارُ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ
ذَلِكَ فِي الْمُمْكِنَاتِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ
بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا: الْخَلَاصُ عَنْ إِثْبَاتِ الْحُدُوثِ
بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَالْخَلَاصُ عَنْ نَفْيِ مَا يَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ مِنْ
صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ
بِذَلِكَ: أَنَّهَا بُرْهَانٌ بَاهِرٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ
بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ الْجَوَابَ عَنْ
عُمْدَتِهِمْ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ
بِذَلِكَ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى
الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ وَالْفَاعِلِ بِالِاخْتِيَارِ. وَذَلِكَ
أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ غَلِطُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
كَالرَّازِيِّ وَأَمْثَالِهِ مُضْطَرِبِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَارَةً
يُوَافِقُونَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى الْفَرْقِ وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ.
وَإِذَا خَالَفُوهُمْ فَهُمْ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ
الْفَلَاسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّا
نَعْلَمُ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ،
لَكِنْ هَلْ يَجِبُ وُجُودُ الْمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ
الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ أَمْ لَا؟ .
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ
مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ نُفَاةِ
الْقَدَرِ، أَنَّهُ يَجِبُ وُجُودُ الْمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضَى
التَّامِّ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ
مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ: الْجَهْمِيَّةُ وَمُوَافِقِيهِمْ، وَمِنْ نُفَاةِ
الْقَدَرِ: الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ، بَلْ يَقُولُونَ:
الْقَادِرُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ
الْوُجُوبِ، وَيَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوجِبِ
بِالذَّاتِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ
أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، كَالْجَائِعِ مَعَ
الرَّغِيفَيْنِ وَالْهَارِبِ مَعَ الطَّرِيقَيْنِ.
ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ
هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ قَادِرٌ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا
مُرَجِّحٍ، كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الرَّبِّ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ
قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ
بِنِعَمٍ خَصَّهُمْ بِهَا حَتَّى أَطَاعُوهُ بِهَا بَلْ تَمْكِينُهُ لِلْمُطِيعِ
وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ؛ لَكِنَّ هَذَا رَجَّحَ الطَّاعَةَ بِلَا مُرَجِّحٍ، بَلْ
بِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوَجَبَ ذَلِكَ، وَهَذَا رَجَّحَ
الْمَعْصِيَةَ بِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ
كَجَهْمٍ وَأَصْحَابِهِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ
أَلْبَتَّةَ.
وَالْأَشْعَرِيُّ
يُوَافِقُهُمْ فِي الْمَعْنَى فَيَقُولُ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ مُؤَثِّرَةٌ،
وَيُثْبِتُ شَيْئًا يُسَمِّيهِ قُدْرَةً يَجْعَلُ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ،
وَكَذَلِكَ الْكَسْبُ الَّذِي يُثْبِتُهُ.
وَهَؤُلَاءِ لَا
يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ بِأَنَّ
رُجْحَانَ فَاعِلِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَى تَارِكِيَّتِهِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ
مُرَجِّحٍ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ
وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ الْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ هَذِهِ
الْحُجَّةَ.
وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ
كَالرَّازِيِّ وَأَتْبَاعِهِ إِذَا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي مَسَائِلِ
الْقَدَرِ أَبْطَلُوا هَذَا الْأَصْلَ، وَبَيَّنُوا أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ
وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ، وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ فِعْلُهُ
بِدُونِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ، وَنَصَرُوا أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ لَا يُرَجِّحُ
أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِالْمُرَجِّحِ التَّامِّ وَإِذَا
نَاظَرُوا الْفَلَاسِفَةَ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ
الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ،
سَلَكُوا مَسْلَكَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ
الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا
مُرَجِّحٍ، وَعَامَّةُ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْخَطِيبِ وَأَمْثَالِهِ تَجِدُهُمْ يَتَنَاقَضُونَ هَذَا التَّنَاقُضَ.
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنْ
يُقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُرَادُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ؟ إِنْ عُنِيَ بِهِ
أَنَّهُ يُوجِبُ بِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَهَذِهِ
الذَّاتُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا ثُبُوتَ فِي الْخَارِجِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ
تَكُونَ مُوجِبَةً.
وَالْفَلَاسِفَةُ
يَتَنَاقَضُونَ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْأَوَّلِ غَايَةً، وَيُثْبِتُونَ
الْعِلَلَ الْغَائِيَّةَ فِي إِبْدَاعِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ.
وَإِذَا فَسَّرُوا
الْغَايَةَ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ، وَجَعَلُوا الْعِلْمَ مُجَرَّدَ الذَّاتِ،
كَانَ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ
بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِرَادَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ، وَأَنَّ
الْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدُ الْعَالَمِ، لَكِنَّ هَذَا مِنْ تَنَاقُضِ هَؤُلَاءِ
الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَعَانِيَ
الْمُتَعَدِّدَةَ مَعْنًى وَاحِدًا، فَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ
وَهُوَ الْإِرَادَةُ، وَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ هِيَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ، كَمَا
يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ نَفْسُ الْعَالِمِ، وَالْقَادِرَ هُوَ الْقُدْرَةُ،
وَالْإِرَادَةَ هِيَ الْمُرِيدُ، وَالْعِشْقَ هُوَ الْعَاشِقُ وَهَذَا قَدْ
صَرَّحَ بِهِ فُضَلَاؤُهُمْ وَحَتَّى الْمُنْتَصِرُونَ لَهُمْ مِثْلُ ابْنِ رُشْدٍ
الْحَفِيدِ، الَّذِي رَدَّ عَلَى أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ فِي «تَهَافُتِ
التَّهَافُتِ» وَأَمْثَالِهِ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ قُدِّرَ
وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنِ الْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ
يَكُونَ الْعَالَمُ صَادِرًا عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ؛
لِأَنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَسْتَلْزِمُ مُوجِبَهُ
وَمُقْتَضَاهُ، فَلَوْ كَانَ مُبْدِعُ الْعَالَمِ مُوجِبًا بِالذَّاتِ بِهَذَا
التَّفْسِيرِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ، وَهُوَ خِلَافُ
الْمُشَاهَدَةِ. فَقَوْلُهُمْ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ
صِفَاتِهِ وَنَفْيَ أَفْعَالِهِ وَنَفْيَ حُدُوثِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَهَذَا
كُلُّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ.
وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ
أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ وَاحِدًا بَسِيطًا، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ
إِلَّا وَاحِدٌ، ثُمَّ احْتَالُوا فِي صُدُورِ الْكَثْرَةِ عَنْهُ بِحِيَلٍ
تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ حَيْرَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِهَذَا الْبَابِ، كَقَوْلِهِمْ:
إِنَّ الصَّادِرَ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ،
وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ، مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ، فَفِيهِ ثَلَاثُ جِهَاتٍ، فَصَدَرَ
عَنْهُ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِهِ عَقْلٌ آخَرُ، وَبِاعْتِبَارِ وَجُودِهِ نَفْسٌ،
وَبِاعْتِبَارِ إِمْكَانِهِ فَلَكٌ. وَرُبَّمَا قَالُوا: وَبِاعْتِبَارِ وَجُودِهِ
صُورَةُ الْفَلَكِ، وَبِاعْتِبَارِ إِمْكَانِهِ مَادَّتُهُ وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ
فِي النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ: هَلْ هِيَ جَوْهَرٌ مُفَارِقٌ لَهُ، أَمْ عَرَضٌ
قَائِمٌ بِهِ؟
وَلِهَذَا أَطْنَبَ النَّاسُ
فِي بَيَانِ فَسَادِ كَلَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ الَّذِي
فَرَضُوهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي
الْأَعْيَانِ ثُمَّ قَوْلُهُمْ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ
قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ، وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا ثُبُوتَهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ،
لَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً إِلَّا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ، فَكَيْفَ
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاحِدًا صَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ؟ .
وَمَا يُمَثِّلُونَ بِهِ
مِنْ صُدُورِ التَّسْخِينِ عَنِ النَّارِ وَالتَّبْرِيدِ عَنِ الْمَاءِ بَاطِلٌ،
فَإِنَّ تِلْكَ الْآثَارَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ شَيْئَيْنِ: فَاعِلٌ
وَقَابِلٌ، وَالْأَوَّلُ تَعَالَى كُلُّ مَا سِوَاهُ صَادِرٌ عَنْهُ، لَيْسَ
هُنَاكَ قَابِلٌ مَوْجُودٌ.
وَإِنْ قَالُوا:
الْمَاهِيَّاتُ الثَّابِتَةُ فِي الْخَارِجِ الْغَنِيَّةُ عَنِ الْفَاعِلِ هِيَ
الْقَابِلُ، كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ هَذَا بِنَاءً
عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ مَاهِيَّاتٍ مَوْجُودَةٍ فِي
الْخَارِجِ مُغَايِرَةٍ لِلْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.
وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ أَنَّ الْمُثَلَّثَ يُتَصَوَّرُ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ
وُجُودُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُثَلَّثِ فِي الْخَارِجِ، بَلْ يَدُلُّ
عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الذِّهْنِ، وَلَا رَيْبَ فِي حُصُولِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا
فِي الْأَذْهَانِ وَمَا فِي الْأَعْيَانِ. وَمِنْ هُنَا كَثُرَ غَلَطُهُمْ،
فَإِنَّهُمْ تَصَوَّرُوا أُمُورًا فِي الْأَذْهَانِ، فَظَنُّوا ثُبُوتَهَا فِي
الْأَعْيَانِ، كَالْعُقُولِ وَالْمَاهِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَالْهَيُولَى
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ
الْمَاهِيَّاتِ هِيَ بِحَسَبِ مَا يُوجَدُ، فَكُلُّ مَا وُجِدَ لَهُ عِنْدَهُمْ
مَاهِيَّةٌ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ، مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى
أُمُورٍ لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ لَا مَاهِيَّةَ تَقْبَلُ الْوُجُودَ غَيْرَهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ:
الْمَاهِيَّاتُ الْمُمْكِنَةُ فِي نَفْسِهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ الْمَشْهُودُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْآثَارُ لَهُ قَوَابِلُ مَوْجُودَةٌ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُبْدِعُ لِوُجُودِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَلَا يُعْلَمُ أَمْرٌ صَادِرٌ عَنْ مُمْكِنٍ إِلَّا عَنْ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُ التَّأْثِيرَ، وَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
فَقَوْلُهُمْ: الْوَاحِدُ
لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ: إِنْ أَدْرَجُوا فِيهَا
مَا سِوَى اللَّهِ فَذَاكَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ
يُرِيدُوا بِهَا إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ فَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ وَمَوْضِعُ
الدَّلِيلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ، وَذَلِكَ
الْوَاحِدُ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ الصُّدُورِ عَنْهُ؟.
وَأَيْضًا: فَالْوَاحِدُ
الَّذِي يُثْبِتُونَهُ، هُوَ وُجُودٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ
عَنْ بَعْضِهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ أَوْ عَنِ الثُّبُوتِيَّةِ
وَالسَّلْبِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ،
بَلْ يُمْتَنَعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يُقَدَّرُ
فِي الْأَذْهَانِ، كَمَا تُقَدَّرُ الْمُمْتَنَعَاتُ. وَلِهَذَا كَانَ مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ ابْنُ رُشْدٍ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ قَوْلُ
أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَإِنَّمَا ابْنُ يُفَارِقُ الْعَاجِزَ كَمَا فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سُورَةُ
التَّغَابُنِ: ١٦]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: ٩٧]، وَقَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ: ٤] .
فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ،
لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَا وَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ
يَتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَلَكَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصُمِ
الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصِّيَامِ، وَهَذَا
كُلُّهُ خِلَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَخِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَنْ نَفَى هَذِهِ
الْقُدْرَةَ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا
تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي مُنَاقَضَةِ الْقَدَرِيَّةِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَكُونُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ
أَخْطَئُوا حَيْثُ زَعَمُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ كُلَّ مَا يَقْدِرُ بِهِ
الْعَبْدُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ
يُعْطِيَهُ لِلْعَبْدِ مِمَّا بِهِ يُؤْمِنُ وَيُطِيعُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ
قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ،
لَكَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْفِعْلِ دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ
هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ كَثِيرَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا
أَنَّ لَفْظَ التَّرْكِيبِ وَالِافْتِقَارِ وَالْجُزْءِ وَالْغَيْرِ أَلْفَاظٌ
مُشْتَرَكَةٌ مُجْمَلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي لَا
يَنْفِيهِ الدَّلِيلُ، بَلْ يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ
الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ إِذَا فُسِّرَ بِهَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِذَا
فُسِّرَ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ بِأَنَّهُ الَّذِي يُوجِبُ مَفْعُولَهُ
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى مُنَافِيًا لِكَوْنِهِ
فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، بَلْ يَكُونُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ، مُوجِبًا
بِذَاتِهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يُنَافِي
كَوْنَهُ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْآخَرُ يُنَافِي كَوْنَهُ
فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَمَنْ قَالَ: الْقَادِرُ لَا يَفْعَلُ
إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ
الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ يَجْعَلُ الْفِعْلَ بِالِاخْتِيَارِ مُنَافِيًا
لِلْإِيجَابِ، لَا يُجَامِعُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ
الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ لَا يَكُونُ قَادِرًا مُخْتَارًا إِلَّا إِذَا فَعَلَ
عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: الْقَادِرُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ
وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ، لَكِنَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ
قُدْرَتِهِ، لَزِمَ وُجُودُ فِعْلِهِ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ
التَّامَّةِ وَالْمَشِيئَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ.
وَلِهَذَا صَارَتِ
الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً: فَالْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ
الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ، أَوِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الَّذِي يَجِبُ
أَنْ يُقَارِنَهُ مُوجِبُهُ الْمُعَيَّنُ أَزَلًا وَأَبَدًا.
وَالْقَدَرِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ،
يَقُولُونَ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ
لَا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ .
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: يَفْعَلُ لَا بِإِرَادَةٍ، بَلِ الْمُرِيدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَاعِلُ
الْعَالِمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ، وَمَا يُحْدِثُهُ
مِنْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ يُحْدِثُهُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّ
الْقَادِرَ عِنْدَهُمْ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ. ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ
هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ،
وَقَدْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ، بِخِلَافِ
الْمُجْبِرَةِ وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمُ الْمُثْبِتِينَ
لِلْقَدَرِ وَالصِّفَاتِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ، وَإِذَا
شَاءَ شَيْئًا كَانَ، وَإِرَادَتُهُ وَقُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، سَوَاءٌ
قَالُوا بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ قَدِيمَةٍ، أَوْ بِإِرَادَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، أَوْ
بِإِرَادَاتٍ قَدِيمَةٍ تَسْتَوْجِبُ حُدُوثَ إِرَادَاتٍ أُخَرَ. فَعَلَى كُلِّ
قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ وُجُودُ
مُرَادِهِ.
وَإِذَا فُسِّرَ الْإِيجَابُ
بِالذَّاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، فَالدَّلِيلُ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ، وَلَفْظِ
الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ، وَلَفْظِ
الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يُبَيِّنُ
امْتِنَاعَ قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ، وَوُجُوبَ حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى
اللَّهِ.
وَهُنَا أَمْرٌ آخَرُ،
وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ: هَلْ يَجِبُ أَنْ
تَكُونَ إِرَادَتُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَيُمْتَنَعُ مُقَارَنَتُهَا لَهُ؟ أَمْ
يَجِبُ مُقَارَنَةُ إِرَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الْقَصْدُ لِلْفِعْلِ، وَمَا
يَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ يَكُونُ عَزْمًا لَا قَصْدًا؟ أَمْ يَجُوزُ كُلٌّ مِنَ
الْأَمْرَيْنِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا
وُجُوبَ حُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ
الثَّلَاثَةِ: قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ
الْمُقَارَنَةَ مُمْتَنَعَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ.
وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي
الْقُدْرَةِ: هَلْ يَجِبُ مُقَارَنَتُهَا لِلْمَقْدُورِ وَيُمْتَنَعُ
تَقْدِيمُهَا؟ أَمْ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَقْدُورِ وَيُمْتَنَعُ
مُقَارَنَتُهَا؟ أَمْ تَتَّصِفُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْمُقَارَنَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ أَيْضًا
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ
الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ مُسْتَلْزِمَةٌ
لِلْفِعْلِ وَمُقَارِنَةٌ لَهُ، فَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةٍ
مُتَقَدِّمَةٍ غَيْرِ مُقَارِنَةٍ، وَلَا بِمُجَرَّدِ إِرَادَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ
غَيْرِ مُقَارِنَةٍ، بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ مِنْ وُجُودِ
الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ بِفَاعِلٍ مَعْدُومٍ حِينَ
الْفِعْلِ، وَلَا بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ حِينَ الْفِعْلِ، وَلَا بِإِرَادَةٍ
مَعْدُومَةٍ حِينَ الْفِعْلِ، وَقَبْلَ الْفِعْلِ لَا تَجْتَمِعُ الْإِرَادَةُ
الْجَازِمَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ،
فَلَا يُوجَدُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، لَكِنْ قَدْ يُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ
قُدْرَةٌ بِلَا إِرَادَةٍ، وَإِرَادَةٌ بِلَا قُدْرَةٍ، كَمَا قَدْ يُوجَدُ عَزْمٌ
عَلَى أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا حَضَرَ وَقْتُ الْفِعْلِ قَوِيَ الْعَزْمُ فَصَارَ
قَصْدًا، فَتَكُونُ الْإِرَادَةُ حِينَ الْفِعْلِ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَتْ
قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ حِينَ الْفِعْلِ أَكْمَلُ مِمَّا كَانَتْ
قَبْلَهُ
وَبِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ
قَادِرًا قَبْلَ الْفِعْلِ الْقُدْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ الَّتِي
بِهَا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَاعِلَ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ
طَرَفَيْ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَإِنْ
وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ.
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ
لِلْقَدَرِ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ
إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ،
قَالُوا: إِنَّ الْقَادِرَ لَا يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ
إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، لَكِنْ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ فِعْلِ اللَّهِ،
وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُخْتَارِ،
وَمُنَاظَرَةِ الدَّهْرِيَّةِ، تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُنَاظِرُهُمْ
مُنَاظَرَةَ مَنْ قَالَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ
بِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ اضْطِرَابُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ الَّتِي يَدُورُونَ فِيهَا بَيْنَ أُصُولِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الْمُعَطِّلَةِ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَلِصِفَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَإِنْ كَانُوا مِنَ
الصَّابِئِينَ فَهُمْ مِنَ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ، لَا مِنَ الصَّابِئِينَ
الْحُنَفَاءِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أُولَئِكَ
يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ، وَيَتَّخِذُونَ فِيهَا
الْأَصْنَامَ، وَهَذَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ دِينُ أَهْلِ مَقْدُونِيَّةَ
وَغَيْرِهَا مِنْ مَدَائِنِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي
وُزِرَ لَهُ أَرِسْطُو هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيُّ
الَّذِي تُؤَرِّخُ لَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ عليه
السلام بِثَلَاثِمِائَةِ عَامٍ، لَيْسَ هُوَ ذَا الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَ فِي
الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الْحُنَفَاءِ،
وَذَاكَ هُوَ وَوَزِيرُهُ أَرِسْطُو كُفَّارٌ يَقُولُونَ بِالسِّحْرِ وَالشِّرْكِ.
وَلِهَذَا كَانَتِ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ أَخَذَتْ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَقْلِ
وَالنَّفْسِ، وَمَا تَقُولُهُ الْمَجُوسُ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، فَرَكِبُوا
مِنْ ذَلِكَ وَمِنَ التَّشَيُّعِ، وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالسَّابِقِ
وَالتَّالِي، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَصْلُ الْمُشْرِكِينَ
وَالْمُعَطِّلَةِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْمَجُوسِ، وَالْقَدَرِيَّةُ
تُخْرِجُ بَعْضَ الْحَوَادِثِ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَيَجْعَلُونَ
لَهُ شَرِيكًا فِي الْمُلْكِ.
وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ
شَرٌّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ يَسْتَلْزِمُ إِخْرَاجَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ
عَنْ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِثْبَاتِ شُرَكَاءَ كَثِيرِينَ لَهُ فِي
الْمُلْكِ، بَلْ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الصَّانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلِهَذَا
كَانَ مُعَلِّمُهُمُ الْأَوَّلُ أَرِسْطُو
وَأَتْبَاعُهُ إِنَّمَا
يُثْبِتُونَ الْأَوَّلَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْأُولَى
بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ
اخْتِيَارِيَّةٌ شَوْقِيَّةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُحَرِّكٌ
مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ بِالْإِرَادَةِ لَا بُدَّ
لَهُ مِنْ مُحَرِّكٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَوْلًا لَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ.
قَالُوا: وَالْمُحَرِّكُ
لَهَا يُحَرِّكُهَا، كَمَا يُحَرِّكُ الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ لِلْمَأْمُومِ
الْمُقْتَدِي، وَقَدْ يُشَبِّهُونَهَا بِحَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ،
فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ الْمُرَادَ يَتَحَرَّكُ إِلَيْهِ الْمُحِبُّ الْمُرِيدُ مِنْ
غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْ الْمَحْبُوبِ، قَالُوا: وَذَلِكَ الْعِشْقُ هُوَ عِشْقُ
التَّشَبُّهِ بِالْأَوَّلِ .
يوم
الخميس 20 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون