الاربعاء ، ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ -
الصوتيات

الدرس الثاني والعشرون: من التعليق على كتابِ ‌مِنْهَاجِ ‌السُّنَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - ‌رَحِمَهُ ‌اللَّهُ -

14-12-2025 | عدد المشاهدات 31 | عدد التنزيلات 9




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 

الدرس الثاني والعشرون: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ  _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

 

يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: وَهَكَذَا وَافَقَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ سَبَبَ الْحَوَادِثِ فِي الْعَالَمِ إِنَّمَا هُوَ حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ، وَحَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ حَادِثَةٌ عَنْ تَصَوُّرَاتٍ حَادِثَةٍ وَإِرَادَاتٍ حَادِثَةٍ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِتَصَوُّرٍ كُلِّيٍّ وَإِرَادَةٍ كُلِّيَّةٍ، كَالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ الْقَصْدَ إِلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلِ مَكَّةَ مَثَلًا، فَهَذِهِ إِرَادَةٌ كُلِّيَّةٌ تَتَّبِعُ تَصَوُّرًا كُلِّيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ تَصَوُّرَاتٌ لِمَا يَقْطَعُهُ مِنَ الْمَسَافَاتِ، وَإِرَادَاتٌ لِقَطْعِ تِلْكَ الْمَسَافَاتِ، فَكَهَذَا حَرَكَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ. لَكِنَّ مُرَادَهُ الْكُلِّيَّ هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْأَوَّلِ، وَلِهَذَا قَالُوا: الْفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْأَوَّلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ عَنِ الْمَعْلُولِ لَا تَكُونُ هِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلَةُ، وَإِذَا كَانَ الْفَلَكُ مُمْكِنًا مُتَحَرِّكًا بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُبْدِعٍ لَهُ أَبْدَعَهُ كُلَّهُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَالْإِنْسَانِ، وَلَا بُدَّ لِهَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْحَادِثَةِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ تَكُونُ صَادِرَةً عَنْهُ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهَا صَادِرَةٌ بِوَسَطٍ أَوْ بِغَيْرٍ وَسَطٍ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُثْبِتُوا إِلَّا عِلَّةً غَائِيَّةً لِلْحَرَكَةِ، فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ لَيْسَ لَهَا فَاعِلٌ يُحْدِثُهَا أَصْلًا، بَلْ وَلَا لِمَا يَسْتَلْزِمُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ وَالْعَنَاصِرَ، وَكُلٌّ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي بُدَائَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمُفْتَقِرَ إِلَى غَيْرِهِ مُمْتَنَعٌ وَجُودُهُ بِدُونِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ يُمْتَنَعُ وُجُودُهَا بِدُونِ مُحْدِثٍ، وَمُتَأَخِّرُوهُمْ  كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ غُلَاتِهِمْ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ لَازِمَانِ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ، لَا يَقُومُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا بِشَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ.

وَوَاجِبُ الْوُجُودِ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ يَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ مُحْدِثًا لِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَفْلَاكِ لَهُ حَرَكَةٌ تَخُصُّهُ، لَيْسَتْ حَرَكَتُهُ عَنْ حَرَكَةِ الْأَعْلَى حَتَّى يُقَالَ أَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْمُحْدِثُ لِجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ، وَلَا فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ حَادِثٌ عَنْ سَبَبٍ بِعَيْنِهِ لَا عَنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ وَلَا الْقَمَرِ وَلَا الْأَفْلَاكِ وَلَا الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا يُظَنُّ بَلْ أَيُّ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ اعْتَبَرْتَهُ وَجَدْتَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ، وَوَجَدْتَهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي شَيْءٍ كَالسُّخُونَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلشَّمْسِ مَثَلًا فَلَهُ مُشَارِكُونَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، كَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لِلشَّمْسِ مَثَلًا أَثَرٌ فِي إِنْضَاجِهَا ثُمَّ إِيبَاسِهَا وَتَغْيِيرِ أَلْوَانِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُشَارَكَةٍ مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَتَمَيَّزُ أَثَرُهُ عَنْ أَثَرِ الْآخَرِ، بَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ.

فَإِذَا قَالُوا: الْعَقْلُ الْفَعَّالُ لِلْفِعْلِ خَلَعَ عَلَيْهِ صُورَةً عِنْدَ اسْتِعْدَادِهِ، وَبِالِامْتِزَاجِ قَبْلَ الصُّورَةِ، مَثَلًا كَالطِّينِ الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ عَنِ امْتِزَاجِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَثَرٌ مُلَازِمٌ لِهَذَا الِامْتِزَاجِ، لَا يُمْكِنُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِمَا اثْنَيْنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَا مُتَلَازِمَيْنِ، لِامْتِنَاعِ وُجُودِ أَثَرِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَيُمْتَنَعُ اثْنَانِ مُتَلَازِمَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ وُجُودُهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَلَا تَأْثِيرُهُ مَشْرُوطًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، فَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إِلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، لَا يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ، بَلْ يَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا إِلَى غَيْرِهِ وَلَوْ بِوَجْهٍ، لَمْ يَكُنْ غِنَاهُ ثَابِتًا لَهُ بِنَفْسِهِ.

 وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا مُمْكِنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ، فَثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

 وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْوُجُودِ: إِمَّا مُحْدَثٌ وَإِمَّا قَدِيمٌ، وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ، فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

 وَكَذَلِكَ يُقَالُ: إِمَّا فَقِيرٌ وَإِمَّا غَنِيٌّ، وَالْفَقِيرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَنِيٍّ، فَثَبَتَ وُجُودُ الْغَنِيِّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

 وَكَذَلِكَ يُقَالُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا قَيُّومٌ وَإِمَّا غَيْرُ قَيُّومٍ، وَغَيْرُ الْقَيُّومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَيُّومٍ، فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَيُّومِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

 وَكَذَلِكَ يُقَالُ: إِمَّا مَخْلُوقٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ الْمَخْلُوقِ، فَثَبَتَ وُجُودُ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

 ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ الْقَدِيمُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ الْقَيُّومُ الْخَالِقُ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ بِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، فَإِنَّهُ إِنِ افْتَقَرَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَمَفْعُولُهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، لَزِمَ الدَّوْرُ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ.

 وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.

 فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِنَفْسِهِ، فَهُوَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِفَاعِلٍ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَسَوَاءٌ عَبَّرَ بِلَفْظِ الْفَاعِلِ أَوِ الصَّانِعِ أَوِ الْخَالِقِ أَوِ الْعِلَّةِ أَوِ الْمَبْدَأِ أَوِ الْمُؤَثِّرِ، فَالدَّلِيلُ يَصِحُّ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ.

 وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ تَقْدِيرُ مَفْعُولَاتٍ لَيْسَ فِيهَا فَاعِلٌ غَيْرُ مَفْعُولٍ، وَهُوَ تَقْدِيرُ آثَارٍ لَيْسَ فِيهَا مُؤَثِّرٌ، وَتَقْدِيرُ مُمْكِنَاتٍ لَيْسَ فِيهَا وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ، وَمَجْمُوعُهَا مُفْتَقِرٌ إِلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِهَا فَهُوَ أَيْضًا فَقِيرٌ مُمْكِنٌ، وَكُلَّمَا زَادَتِ السِّلْسِلَةُ زَادَ الْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْدِيرُ مَعْدُومَاتٍ لَا تَتَنَاهَى، فَإِنَّ كَثْرَتَهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مَعْدُومَاتٍ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَوْجُودٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

 وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَوْجُودِ الْغَنِيِّ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ، الْغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَكُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْفَقْرُ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، لَا يُحْدِثُ شَيْئًا بِنَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لَا يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ.

 فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ الْقَيُّومُ الْغَنِيُّ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، وَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ كُلُّ كَمَالٍ مُمْكِنِ الْوُجُودِ لَا نَقْصَ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ لَكَانَ الْكَمَالُ: إِمَّا مُمْتَنَعًا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَالٌ: لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، وَلِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ مُتَّصِفَةٌ بِكَمَالَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَالْقَدِيمُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْحَادِثِ، وَالْوَاجِبُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وُجُودًا مِنْهُ، وَالْأَكْمَلُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ الْأَكْمَلِ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْخَالِقِ، فَخَالِقُ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ، وَهُمْ يَقُولُونَ:كَمَالُ الْمَعْلُولِ مِنْ كَمَالِ الْعِلَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْكَمَالُ مُمْتَنَعًا عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا مُمْتَنَعٍ لَافْتَقَرَ فِي ثُبُوتِهِ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ، فَمَا أَمْكَنَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ.

 امتناع مقارنة المفعول للواجب وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهُ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلِيًّا مَعَهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَفْعُولَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا لِعِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ، فَإِنَّ مَعْلُولَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ لَا يَتَأَخَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ تَأَخَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ لَكَانَتْ عِلَّةً بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَلَافْتَقَرَتْ فِي كَوْنِهَا فَاعِلَةً لَهُ إِلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا، وَذَلِكَ مُمْتَنَعٌ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ لَا يَكُونُ عَنْهُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَكُلُّ مَا هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ فَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُقَارِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَفْعُولًا لَهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَفْعُولًا مُقَارِنًا مُمْتَنَعٌ عَقْلًا.

 وَلَا يُعْقَلُ فِي الْمَوْجُودَاتِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِمَعْلُولٍ مُبَايِنٍ لَهُ أَصْلًا، بَلْ كُلُّ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ عِلَّةٌ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا تَكُونُ تَامَّةً، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلَّةٌ لِلْعَالَمِيَّةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ، وَإِلَّا فَجُمْهُورُ النَّاسِ يَقُولُونَ: الْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمِيَّةُ.

 وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: الذَّاتُ مُوجِبَةٌ لِلصِّفَاتِ أَوْ عِلَّةٌ لَهَا، فَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا.

 وَإِمَّا إِذَا قُدِّرَ شَيْءٌ مُؤَثِّرٌ فِي غَيْرِهِ، وَقُدِّرَ أَنَّهُمَا مُتَقَارِنَانِ مُتَسَاوِيَانِ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ سَبْقًا زَمَانِيًّا، فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَصْلًا.

 وَأَيْضًا: فَكَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ صِفَةُ كَمَالٍ، إِذِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَتَقَدَّمُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

 وَإِذَا قِيلَ: الْفِعْلُ أَوْ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْتِدَاءٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْحَرَكَةِ أَوِ الزَّمَانِ.

 قِيلَ: إِنْ كَانَ هَذَا بَاطِلًا فَقَدِ انْدَفَعَ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَالْمُثْبَتُ إِنَّمَا هُوَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودِ.

 وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ دَائِمًا، فَالْمُمْكِنُ وَالْأَكْمَلُ هُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي أَجْزَاءِ الْعَالَمِ شَيْءٌ يُقَارِنُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا دَوَامُ الْفِعْلِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ، فَدَوَامُهُ دَوَامُ الْكَمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ كَمَالٍ، لَمْ يَجِبْ دَوَامُهُ.*

 فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ، فَالْمُجَوِّزُونَ لِلتَّعْلِيلِ يَقُولُونَ: الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنِ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَ، فَهَذَا لَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ، بَلْ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ.

 وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ أَعْيَانِهَا، وَعُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْمِلَلِ وَأَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَبَيْنَ قَوْلِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ، تَبَيَّنَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَعَارِفِ وَأَعْلَى الْعُلُومِ، فَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّعْلِيلِ لِمَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالتَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ .

وَأَمَّا حُجَّةُ الِاسْتِكْمَالِ فَقَالُوا: الْمُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا فِي الْأَزَلِ عَنْ كَمَالٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي الْأَزَلِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَادِرُ الْفَاعِلُ لِكُلِّ شَيْءٍ، لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلِ الْعِلَلُ الْمُفْعُولَةُ هِيَ مَقْدُورَةٌ وَمُرَادَةٌ لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُ عِبَادَهُ الدُّعَاءَ وَيُجِيبُهُمْ، وَيُلْهِمُهُمُ التَّوْبَةَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ إِذَا تَابُوا، وَيُلْهِمُهُمُ الْعَمَلَ وَيُثِيبُهُمْ إِذَا عَمِلُوا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَخْلُوقَ أَثَّرَ فِي الْخَالِقِ أَوْ جَعَلَهُ فَاعِلًا لِلْإِجَابَةِ وَالْإِثَابَةِ وَالْفَرَحِ بِتَوْبَتِهِمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْحَوَادِثُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا إِلَّا مُتَعَاقِبَةً، لَا يَكُونُ عَدَمُهَا فِي الْأَزَلِ نَقْصًا.

 قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هَذَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ .

 فَيُقَالُ: أَوَّلًا: هَذَا قَوْلُ مَنْ هُمْ مِنْ أَكْبَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ كَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا وَهُوَ لَازِمٌ لِسَائِرِهِمْ، وَالشِّيعَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَتْبَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيِّينَ فِي هَذَا الْبَابِ، هُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ صَارَ مُدْرَكًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ عِنْدَهُمْ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: صَارَ مُرِيدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَنْكَرُوا الْإِدْرَاكَ وَالْإِرَادَةَ فَهُمْ يَقُولُونَ: صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. قَالُوا: وَهَذَا قَوْلٌ بِتَجَدُّدِ أَحْكَامٍ لَهُ وَأَحْوَالٍ.

 وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَلْزَمُ سَائِرَ الطَّوَائِفِ حَتَّى الْفَلَاسِفَةِ، وَقَدْ قَالَ بِهَا مِنْ أَسَاطِينِهِمُ الْأَوَّلِينَ وَفُضَلَائِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَسَاطِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَرِسْطُو أَوْ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا، وَقَالَ بِهَا أَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ «الْمُعْتَبَرِ» وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي مُعَاذٍ التُّومَنِيِّ وَالْهِشَامَيْنِ.

 وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِهَا أَوْ بِمَعْنَاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْتَارُ إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِالْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِثْلِ حَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ، وَنَقَلَهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَمِثْلُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِثْلُ الْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبِ إِمَامَ الْأَئِمَّةِ، وَمِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ.

 وَالْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ صِفَةٌ أَوْ فِعْلٌ، وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ، فَوَافَقَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ عَلَى نَفْيِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَخَالَفَهُمْ فِي، نَفْيِ الصِّفَاتِ وَلَمْ يُسَمِّهَا أَعْرَاضًا.

وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ، وَيُقَالُ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبِسَبَبِ مَذْهَبِ ابْنِ كُلَّابٍ هَجَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَابَ مِنْهُ.

 وَصَارَ النِّزَاعُ فِي هَذَا الْأَصْلِ: بَيْنَ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ، فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ إِلَّا وَفِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَفِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ  وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَه وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي نَصْرٍ السَّجْزِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَأَتْبَاعِهِ .

 وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى هَلْ يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ؟ .

قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِذَلِكَ وَلِلتَّعْلِيلِ: نَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ الرَّبَّ كَانَ مُعَطَّلًا فِي الْأَزَلِ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا، ثُمَّ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَالْفِعْلَ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ أَصْلًا، فَلَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَبِهَذَا اسْتَطَالَتْ عَلَيْكُمُ الْفَلَاسِفَةُ وَخَالَفَتْهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ فِي ذَلِكَ، وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَقَمْتُمُ الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِهَذَا، حَيْثُ ظَنَنْتُمْ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ الْحَوَادِثِ يَكُونُ حَادِثًا لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا.

 وَهَذَا الْأَصْلُ لَيْسَ مَعَكُمْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بَلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَالنَّصُّ وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مَعَ كَوْنِ الْحَوَادِثِ مُتَعَاقِبَةً حُدُوثُ النَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْفَاعِلُ الْمُتَكَلِّمُ مُعَطَّلًا عَنِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ، ثُمَّ حَدَثَ ذَلِكَ بِلَا سَبَبٍ كَمَا لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمُسْتَقْبَلَاتِ الْمُنْقَضِيَةِ فَانٍ، وَلَيْسَ النَّوْعُ فَانِيًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [سُورَةُ الرَّعْدِ: ٣٥]، وَقَالَ: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ [سُورَةُ ص: ٥٤] . فَالدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْفَدُ أَيْ لَا يَنْقَضِي هُوَ النَّوْعُ، وَإِلَّا فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ نَافِدٌ مُنْقَضٍ لَيْسَ بِدَائِمٍ.

 وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الْأَفْرَادُ إِذَا كَانَ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِي الْجُمْلَةِ وُصِفَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ، مِثْلَ وَصْفِ كُلِّ فَرْدٍ بِوُجُودٍ أَوْ إِمْكَانٍ أَوْ بِعَدَمٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وَصْفَ الْجُمْلَة بِالْوُجُودِ وَالْإِمْكَانِ وَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْجَمِيعِ هِيَ طَبِيعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْمَجْمُوعُ إِلَّا الْآحَادُ الْمُمْكِنَةُ أَوِ الْمَوْجُودَةُ أَوِ الْمَعْدُومَةُ.

 وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا وُصِفَ بِهِ الْأَفْرَادُ لَا يَكُونُ صِفَةً لِلْجُمْلَةِ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْجُمْلَةِ حُكْمَ الْأَفْرَادِ، كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْبَيْتِ وَالْإِنْسَانِ وَالشَّجَرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلٌّ مِنْهَا بَيْتًا وَلَا إِنْسَانًا وَلَا شَجَرَةً، وَأَجْزَاءُ الطَّوِيلِ وَالْعَرِيضِ وَالدَّائِمِ وَالْمُمْتَدِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا طَوِيلًا وَعَرِيضًا وَدَائِمًا وَمُمْتَدًّا.

وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِبَاتِ بِفَنَاءٍ أَوْ حُدُوثٍ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ مُنْقَطِعًا أَوْ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ حُدُوثَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا أَنَّ فَنَاءَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عُدِمَ بَعْدَ وَجُودِهِ. وَكَوْنُهُ عُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، أَوْ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، لَا إِلَى نَفْسِ الطَّبِيعَةِ الثَّابِتَةِ لِلْمَجْمُوعِ، كَمَا فِي الْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ أَوِ الْمَعْدُومَةِ أَوِ الْمُمْكِنَةِ، فَلَيْسَ إِذَا كَانَ هَذَا الْمُعَيَّنُ لَا يَدُومُ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَوْعُهُ لَا يَدُومُ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ تَعَاقُبُ الْأَفْرَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْمَجْمُوعُ، لَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ، وَإِذَا حَصَلَ لِلْمَجْمُوعِ بِالِاجْتِمَاعِ حُكْمٌ يُخَالِفُ بِهِ حُكْمَ الْأَفْرَادِ، لَمْ يَجِبْ مُسَاوَاةُ الْمَجْمُوعِ لِلْأَفْرَادِ فِي أَحْكَامِهِ.

 وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَا يُوصَفُ بِهِ الْأَفْرَادُ قَدْ تُوصَفُ بِهِ الْجُمْلَةُ وَقَدْ لَا تُوصَفُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ الْفَرْدِ حُدُوثُ النَّوْعِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ هَذِهِ الْأَفْرَادِ.

 وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِانْضِمَامِ هَذَا الْفَرْدِ إِلَى هَذَا الْفَرْدِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي لِذَلِكَ الْفَرْدِ، لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْمَجْمُوعِ حُكْمَ الْأَفْرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي لِذَلِكَ الْفَرْدِ، كَانَ حُكْمُ الْمَجْمُوعِ حُكْمَ أَفْرَادِهِ .

 مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِذَا ضَمَمْنَا هَذَا الْجُزْءَ إِلَى هَذَا الْجُزْءِ، صَارَ الْمَجْمُوعُ أَكْثَرَ وَأَطْوَلَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ، فَلَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا حُكْمُ الْمَجْمُوعِ حُكْمَ الْأَفْرَادِ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ  هَذَا الْيَوْمَ طَوِيلٌ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ جُزْؤُهُ طَوِيلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: هَذَا الشَّخْصُ أَوِ الْجِسْمُ طَوِيلٌ أَوْ مُمْتَدٌّ، أَوْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ طَوِيلَةٌ، أَوْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا النَّعِيمَ دَائِمٌ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ دَائِمًا.

 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [سُورَةُ الرَّعْدِ: ٣٥]، وَلَيْسَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الأَكْلِ دَائِمًا وَكَاذَلِكَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدُومُهُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً» فَإِذَا كَانَ عَمَلُ الْمَرْءِ دَائِمًا، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ دَائِمًا.

 وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: هَذَا الْمَجْمُوعُ عُشْرُ أُوقِيَّةٍ أَوْ نَشٌّ أَوْ إِسْتَارٌ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ  مِنْ أَجْزَائِهِ عُشْرَ أُوقِيَّةٍ وَلَا نَشًّا وَلَا إِسْتَارًا ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حَصَلَ بِانْضِمَامِ الْأَجْزَاءِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالِاجْتِمَاعُ لَيْسَ مَوْجُودًا لِلْأَفْرَادِ.

 وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قِيلَ : كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ مَعْدُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ أَوْ مُمْكِنٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ مُمْتَنَعٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا أَوْ مَوْجُودًا أَوْ مُمْكِنًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ مُمْتَنَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزِّنْجِ أَسْوَدُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا أَوْ مَوْجُودًا أَوْ مُمْكِنًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ مُمْتَنَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزِّنْجِ أَسْوَدُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ سُودًا؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْمَوْجُودِ بِالْمَوْجُودِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَاقْتِرَانُ الْمَعْدُومِ بِالْمَعْدُومِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْعَدَمِ، وَاقْتِرَانُ الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ وَالْمُمْتَنَعِ لِذَاتِهِ بِنَظِيرِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَمُمْتَنَعًا لِذَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَكُونُ مُمْتَنَعًا لِذَاتِهِ إِلَّا إِذَا انْفَرَدَ وَهُوَ بِالِاقْتِرَانِ يَصِيرُ مُمْكِنًا، كَالْعِلْمِ مَعَ الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ وَحْدَهُ مُمْتَنَعٌ وَمَعَ الْحَيَاةِ مُمْكِنٌ. وَكَذَلِكَ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ هُوَ وَحْدَهُ مُمْكِنٌ وَمَعَ الْآخَرِ مُمْتَنَعٌ اجْتِمَاعُهُمَا، فَالْمُتَلَازِمَانِ يُمْتَنَعُ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا، وَالْمُتَضَادَّانِ يُمْتَنَعُ اجْتِمَاعُهُمَا.

 وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَ دَوَامِ الْآثَارِ الْحَادِثَةِ الْفَانِيَةِ وَاتِّصَالِهَا، وَبَيْنَ وُجُودِ عِلَلٍ وَمَعْلُولَاتٍ مُمْكِنَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا.

 فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فِي الِامْتِنَاعِ، كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّأْثِيرَ وَاحِدٌ فِي الْإِمْكَانِ وَالِامْتِنَاعِ، ثُمَّ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ امْتِنَاعُ عِلَلٍ وَمَعْلُولَاتٍ لَا تَتَنَاهَى، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ لَا يَقُومُ عَلَى امْتِنَاعِهِ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا لِأَحَدٍ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْآمِدِيُّ فِي «رُمُوزِ الْكُنُوزِ» وَالْأَبْهَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَهُمَا عَنِ الْعَدَمِ.

 وَالفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ حَاصِلٌ فَإِنَّ الحَادِثَ المُعَيَّنَ إذَا ضُمَّ إلَى الحَادِثِ المُعَيَّنِ حَصَلَ مِنْ الدَّوَامِ وَالامْتِدَادِ وَبَقَاءِ النَّوْعِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لِلأَفْرَادِ فَإِذَا كَانَ المَجْمُوعُ طَوِيلًا وَمَدِيدًا وَدَائِمًا وَكَثِيرًا وَعَظِيمًا لَمْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ طَوِيلًا وَمَدِيدًا وَدَائِمًا وَكَثِيرًا وَعَظِيمًا وَأَمَّا العِلَلُ وَالمَعْلُولَاتُ المُتَسَلْسِلَةُ فَكُلٌّ مِنْهَا مُحْتَمِلٌ وَبِانْضِمَامِهِ إلَى الآخَرِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الاحْتِمَالِ وَكُلٌّ مِنْهَا مُعْدَمٌ وَبِانْضِمَامِهِ إلَى الآخَرِ لَا يَخْرُجُ عَنْ العَدَمِ، فَاجْتِمَاعُ الْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَا يَجْعَلُهَا مَوْجُودَةً، بَلْ مَا فِيهَا مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْفَاعِلِ حَاصِلٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا أَعْظَمُ مِنْ حُصُولِهِ عِنْدَ افْتِرَاقِهَا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَعُمْدَةُ مَنْ يَقُولُ بِامْتِنَاعِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْحَوَادِثِ، إِنَّمَا هِيَ دَلِيلُ التَّطْبِيقِ وَالْمُوَازَنَةِ وَالْمُسَامَتَةِ الْمُقْتَضِي تَفَاوُتَ الْجُمْلَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: وَالتَّفَاوُتُ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى مُحَالٌ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقَدِّرُوا الْحَوَادِثَ مِنْ زَمَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوِ الْمَاضِي، وَالْحَوَادِثُ مِنْ زَمَنِ الطُّوفَانِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى أَيْضًا ثُمَّ يُوَازِنُونَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: إِنْ تَسَاوَتَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ كَالنَّاقِصِ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ، فَإِنَّ إِحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ عَلَى الْأُخْرَى بِمَا بَيْنَ الطُّوفَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنْ تَفَاضَلَتَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى تَفَاضُلٌ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ.

 وَالَّذِينَ نَازَعُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَنَعُوا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُصُولَ مِثْلِ هَذَا التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ مُمْتَنَعٌ، بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ الطُّوفَانِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَعْظَمُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى مَا لَا بِدَايَةَ لَهُ  فِي الْمَاضِي أَعْظَمُ مِنَ الطُّوفَانِ إِلَى مَا لَا بِدَايَةَ لَهُ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا بِدَايَةَ لَهُ فَإِنَّ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ وَهَذَا الطَّرَفِ، لَيْسَ أَمْرًا مَحْصُورًا مَحْدُودًا مَوْجُودًا حَتَّى يُقَالَ هُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ؟ بَلْ كَوْنُهُ لَا يَتَنَاهَى مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوجِدُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا، فَلَيْسَ هُوَ مُجْتَمِعًا مَحْصُورًا.

 وَالِاشْتِرَاكُ فِي عَدَمِ التَّنَاهِي لَا يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي الْمِقْدَارِ، إِلَّا إِذَا كَانَ كُلُّ مَا يُقَالُ عَلَيْهِ إِنَّهُ لَا يَتَنَاهَى لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ الْمُضَعَّفِ، فَكَمَا أَنَّ اشْتِرَاكَ الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ وَالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ فِي التَّضْعِيفِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى لَا يَقْتَضِي تَسَاوِيَ مَقَادِيرِهَا، فَكَذَلِكَ هَذَا.

 وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَيْنِ هُمَا مُتَنَاهِيَانِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَغَيْرُ مُتَنَاهِيَيْنِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَاضِي.

 وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَلْزَمُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الَّذِي يَلِينَا وَهُوَ مُتَنَاهٍ، ثُمَّ هُمَا لَا يَتَنَاهَيَانِ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي لَا يَلِينَا وَهُوَ الْأَزَلُ  وَهُمَا مُتَفَاضِلَانِ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي يَلِينَا وَهُوَ طَرَفُ الْأَبَدِ.

 فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَقَعَ التَّفَاوُتُ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى، إِذْ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ حَصَلَ فِي الْجَانِبِ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ التَّفَاضُلُ مِنَ الْجَانِبِ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَهُ آخِرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقَضِ ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا جَوَابَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا مَضَى مِنَ الْحَوَادِثِ فَقَدْ عُدِمَ، وَمَا لَمْ يَحْدُثْ لَمْ يَكُنْ، فَالتَّطْبِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْرٌ يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَتَضْعِيفِ الْأَعْدَادِ: فَإِنَّ تَضْعِيفَ الْوَاحِدِ أَقَلُّ مِنْ تَضْعِيفِ الْعَشَرَةِ، وَتَضْعِيفُ الْعَشَرَةِ أَقَلُّ مِنْ تَضْعِيفِ الْمِائَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لَهُ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ.

 وَمَنْ قَالَ هَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا يُمْتَنَعُ  اجْتِمَاعُ مَا لَا يَتَنَاهَى إِذَا كَانَ مُجْتَمِعًا فِي الْوُجُودِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَّصِلَةً كَالْأَجْسَامِ، أَوْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَنُفُوسِ الْآدَمِيِّينَ، وَيَقُولُ: كُلُّ مَا اجْتَمَعَ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُتَنَاهِي هُوَ الْمُجْتَمَعُ الْمُتَعَلِّقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ تَرْتِيبٌ وَضْعِيٌّ كَالْأَجْسَامِ، أَوْ طَبِيعِيٌّ كَالْعِلَلِ وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَالنُّفُوسِ، فَلَا يَجِبُ هَذَا فِيهَا، فَهَذَانَ قَوْلَانِ.

 وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ مَا لَا يَتَنَاهَى وَإِنْ عُدِمَ بَعْدَ وَجُودِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِ جَهْمٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

 قَالُوا: لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا إِلَّا أُعْطِيكَ بَعْدَهُ دِرْهَمًا، كَانَ هَذَا مُمْكِنًا، وَلَوْ قُلْتَ: لَا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا، كَانَ هَذَا مُمْتَنَعًا، وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إِرْشَادِهِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ النُّظَّارِ.

 وَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالْمُوَازَنَةُ لَيْسَتْ صَحِيحَةً، بَلِ الْمُوَازَنَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ تَقُولَ: مَا أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا، فَتَجْعَلَ مَاضِيًا قَبْلَ مَاضٍ، كَمَا جَعَلْتَ هُنَاكَ مُسْتَقْبَلًا بَعْدَ مُسْتَقْبَلٍ.

 وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى أُعْطِيَكَ، فَهُوَ نَفْيٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى يَحْصُلَ مِثْلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكُونُ قَبْلَهُ، فَقَدْ نَفَى الْمُسْتَقْبَلَ حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْتَقْبَلُ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ، لَمْ يَنْفِ الْمَاضِيَ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ مَاضٍ فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَالْعَطَاءُ الْمُسْتَقْبَلُ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ الْمُعْطِي، وَالْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ لَا يَكُونُ قَبْلَهُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَإِنَّ وُجُودَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِيمَا يَتَنَاهَى مُمْتَنَعٌ، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ لِلنَّاسِ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى.

 

يوم السبت 22 جمادى الآخرة 1447 هجرية

مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون