الاربعاء ، ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ -
الصوتيات

الدرس الرابع والعشرون: من التعليق على كتابِ ‌مِنْهَاجِ ‌السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - ‌رَحِمَهُ ‌اللَّهُ -

16-12-2025 | عدد المشاهدات 23 | عدد التنزيلات 17




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 

الدرس الرابع والعشرون: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ  _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

 

يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِعِبَادِهِ بَلْ مَا هُوَ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعَاصِي وَأَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَالَمِ مُسْنَدَةٌ إِلَيْهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

يُقَالُ: هَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي الشِّيعَةِ أَيْضًا. وَأَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا ذُكِرَ، بَلِ الَّذِي يَقُولُونَهُ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ شَيْءٌ، وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ خَالِقٌ لِعِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَسَائِرِ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ.

وَالْقَدَرِيَّةُ يَنْفُونَ عَنْ مُلْكِهِ خِيَارَ مَا فِي مُلْكِهِ، وَهُوَ طَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ: لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْعَبْدَ فِيهَا، وَلَا يُلْهِمَهُ إِيَّاهَا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا فَاعِلًا لَهَا وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ - عليه السلام -: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ١٢٨] فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا لِلَّهِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً لَهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْفَاعِلَ فَاعِلًا. وَقَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: ٤٠]، فَقَدْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْمُصَلِّيَ (١) مُصَلِّيًا. وَقَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْجُلُودِ وَالْجَوَارِحِ إِخْبَارَ مُصَدِّقٍ لَهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ﴿أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [سُورَةُ فُصِّلَتْ: ٢١] فَعُلِمَ أَنَّهُ يُنْطِقُ جَمِيعَ النَّاطِقِينَ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِعِبَادِهِ أَوْ لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ.

 فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَصْلَحَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِ

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ، وَأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِمَنْ فَعَلَهُ، وَأَنَّ إِرْسَالَهُ الرُّسُلَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ: «إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -.

فَهُمْ يَقُولُونَ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ لِكُلِّ فَاعِلٍ وَتَارِكٍ، وَأَمَّا نَفْسُ الْأَمْرِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ فَمَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْعِبَادِ وَإِنْ تَضَمَّنَ شَرًّا لِبَعْضِهِمْ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَغْلِبُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْمَنْفَعَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ ضَرَرٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ أُخْرَى.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ  غَيْرِ الْمُعْتَزِلَةِ مِثْلِ الْكَرَامِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَخْلُقُهُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِبَعْضِ النَّاسِ، أَوْ هُوَ سَبَبُ ضَرَرٍ كَالذُّنُوبِ فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ لِأَجْلِهَا خَلَقَهَا اللَّهُ، وَقَدْ غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا مُجَرَّدَ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، فَبَيَّنَّا مَا فِي ذَلِكَ النَّقْلِ مِنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ. فَإِنَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ شُيُوخِهِ الرَّافِضَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَصْحَابِ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

صوَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ خُصُوصًا، فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ وَبَعْضَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ وَافَقُوا الْجَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ فِي الْجَبْرِ، وَإِنْ نَازَعُوهُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا أَتَوْا بِمَا لَا يُعْقَلُ، لَكِنْ لَا يُوَافِقُونه عَلَى قَوْلِهِ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ بَلْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ؛ فَلِهَذَا بَالَغُوا فِي مُخَالَفَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ حَتَّى نُسِبُوا إِلَى الْجَبْرِ، وَأَنْكَرُوا الطَّبَائِعَ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ أَوْ سَبَبٌ فِي الْحَوَادِثِ أَوْ يُقَالُ: فَعَلَ بِهَا، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلْمَخْلُوقَاتِ حِكْمَةٌ وَعِلَّةٌ .

وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَفْعَلُ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِعِبَادِهِ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَصْلَحَةً مَا فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وُقُوعُهُ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ وَلَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اقْتَرَنَ هَذَا بِهَذَا لِإِرَادَتِهِ لِكِلَيْهِمَا، فَهُوَ يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ لَا بِهِ وَلَا لِأَجْلِهِ، وَالِاقْتِرَانُ بَيْنَهُمَا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ لَا لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا سَبَبًا لِلْآخَرِ وَلَا حِكْمَةً لَهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لَامُ تَعْلِيلٍ.

وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، يَقُولُونَ بِضِدِّ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَأَدِلَّةِ الْفِقْهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَارَةً يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ وَتَارَةً يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ.

لَكِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَغَيْرِهِمْ يُثْبِتُونَ الْقَدَرَ، وَيُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ أَيْضًا وَالرَّحْمَةَ وَأَنَّ لِفِعْلِهِ غَايَةً مَحْبُوبَةً وَعَاقِبَةً مَحْمُودَةً، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ تُثْبِتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالشِّيعَةُ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِلَّا وَقَدْ أَثْبَتَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ مِنْهُ، مَعَ إِثْبَاتِهِمْ قُدْرَةَ اللَّهِ التَّامَّةَ وَمَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَخَلْقَهُ الْعَامَّ .

هَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ هَذَا، وَمُتَكَلِّمُو الشِّيعَةِ الْمُتَقَدِّمُونَ كَالْهِشَامَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَانُوا يُثْبِتُونَ الْقَدَرَ، كَمَا يُثْبِتُهُ غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ الزَّيْدِيَّةُ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهِ. فَالشِّيعَةُ فِي الْقَدَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتِينَ لِخِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَدَرِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فَلَا يُوجَدُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ إِلَّا وَفِي الشِّيعَةِ مَنْ يَقُولُهُ وَيَقُولُ مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَلَا يُوجَدُ لِلشِّيعَةِ قَوْلٌ قَوِيٌّ إِلَّا وَفِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُهُ وَيَقُولُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ لِلشِّيعَةِ قَوْلٌ قَوِيٌّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُمْ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ:

«إِنَّ الْمُطِيعَ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابًا، وَالْعَاصِيَ لَا يَسْتَحِقُّ عِقَابًا، بَلْ قَدْ يُعَذِّبُ الْمُطِيعَ طُولَ عُمْرِهِ الْمُبَالِغَ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ كَالنَّبِيِّ، وَيُثِيبُ الْعَاصِيَ طُولَ عُمْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَأَبْلَغِهَا كَإِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ».

فَهَذَا فِرْيَةٌ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ نَبِيًّا وَلَا مُطِيعًا، وَلَا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ بَلْ وَلَا يُثِيبُ عَاصِيًا عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمُذْنِبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ فَلَا يُخَلِّدُ فِيهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَيُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ. وَالْإِمَامِيَّةُ تُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِنَفْسِهِ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ شَيْئًا لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثِيبَ الْمُطِيعِينَ كَمَا وَعَدَ، فَإِنَّهُ صَادِقٌ فِي وَعْدِهِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الثَّوَابَ يَقَعُ لِإِخْبَارِهِ لَنَا بِذَلِكَ. وَأَمَّا إِيجَابُهُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِمْكَانُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .

فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُطِيعَ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابًا: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ هُوَ لَا يُوجِبُ بِنَفْسِهِ عَلَى رَبِّهِ ثَوَابًا  وَلَا أَوْجَبَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَهَكَذَا تَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ لَيْسَ أَمْرًا ثَابِتًا مَعْلُومًا وَحَقًّا وَاقِعًا، فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ هُوَ سبحانه وتعالى لَا يُحِقُّهُ بِخَبَرِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُحِقَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَجْعَلْهُ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ تَقَدَّمَ.

وَهُوَ بَعْدَ أَنْ وَعَدَ بِالثَّوَابِ، أَوْ أَوْجَبَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ الثَّوَابَ، يَمْتَنِعُ مِنْهُ خِلَافُ خَبَرِهِ، وَخِلَافُ حُكْمِهِ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَخِلَافُ مُوجَبِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى.

وَلَكِنْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَذَّبَ مَنْ يَشَاءُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: ١٧] .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ نَاقَشَ مَنْ نَاقَشَهُ مِنْ خَلْقِهِ يُعَذِّبُهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - «أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [سُورَةُ الِانْشِقَاقِ: ٧، ٨] فَقَالَ: "ذَلِكَ الْعَرْضُ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ». قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ»

وَهَذَا قَدْ يُقَالُ لِأَجْلِ الْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِيقَةِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الظُّلْمَ مَقْدُورًا غَيْرَ وَاقِعٍ، وَقَدْ يُقَالُ بِأَنَّ الظُّلْمَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَهْمَا قُدِّرَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا بِحَقٍّ، لَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ ظَالِمٌ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ يَكُونُ ظُلْمًا يَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ» فَهَذَا الْإِطْلَاقُ نَقْلٌ بَاطِلٌ عَنْهُمْ.

فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَطَأِ.

وَتَنَازَعُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبَيِّنُهُ لَهُ بِحَيْثُ لَا يُقِرُّهُ عَلَى الْخَطَأِ. كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى؛ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ إِذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [سُورَةُ الْحَجِّ: ٥٣]

وَأَمَّا قَوْلُهُ بَلْ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمُ الْخَطَأُ فَيُقَالُ لَهُ: هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى خَطَأٍ فِي الدِّينِ أَصْلًا وَلَا عَلَى فُسُوقٍ وَلَا كَذِبٍ، فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ وَتَبْلِيغِهِمْ عَنِ اللَّهِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْهُ. وَعَامَّةُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا، فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ.

كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: كَانَ دَاوُدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ٢٢٢]، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَفْعَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ.

وَأَمَّا النِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ فِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ، وَفِي وُقُوعِهِ حِكْمَةُ اسْتِنَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ كَمَا رُوِيَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: «إِنَّمَا أُنَسَّى أَوْ أَنْسَى لِأَسُنَّ» وَقَدْ قَالَ - ﷺ - «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «وَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالُوا: لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا»، فَقَالَ الْحَدِيثَ.

وَأَمَّا الرَّافِضَةُ فَأَشْبَهُوا النَّصَارَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ النَّاسَ بِطَاعَةِ الرُّسُلِ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ، وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَنَهَى الْخَلْقَ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، فَبَدَّلَتِ النَّصَارَى دِينَ اللَّهِ، فَغَلَوْا فِي الْمَسِيحِ فَأَشْرَكُوا بِهِ، وَبَدَّلُوا دِينَهُ فَعَصَوْهُ وَعَظَّمُوهُ فَصَارُوا عُصَاةً بِمَعْصِيَتِهِ، وَبَالَغُوا فِيهِ خَارِجِينَ عَنْ أَصْلَيِ الدِّينِ وَهُمَا الْإِقْرَارُ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِرُسُلِهِ بِالرِّسَالَةِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَالْغُلُوُّ أَخْرَجَهُمْ عَنِ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالُوا بِالتَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ، وَأَخْرَجَهُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَتَصْدِيقِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّهُ وَرَبَّهُمْ، فَكَذَّبُوهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَعَصَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ.

وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ غَلَوْا فِي الرُّسُلِ، بَلْ فِي الْأَئِمَّةِ، حَتَّى اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَتَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا الرُّسُلُ، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ، فَتَجِدُهُمْ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، فَلَا يُصَلُّونَ فِيهَا جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً، وَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُمْ كَبِيرُ حُرْمَةٍ، وَإِنْ صَلَّوْا فِيهَا صَلَّوْا فِيهَا وُحْدَانًا، وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْقُبُورِ فَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا مُشَابَهَةً لِلْمُشْرِكِينَ، وَيَحُجُّونَ إِلَيْهَا كَمَا يَحُجُّ الْحَاجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْحَجَّ إِلَيْهَا أَعْظَمَ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْكَعْبَةِ، بَلْ يَسُبُّونَ مَنْ لَا يَسْتَغْنِي بِالْحَجِّ إِلَيْهَا عَنِ الْحَجِّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَنْ لَا يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.

وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُهُمُ ابْنُ النُّعْمَانِ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْمُفِيدِ وَهُوَ شَيْخُ الْمُوسَوِيِّ وَالطُّوسِيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: «مَنَاسِكُ الْمَشَاهِدِ» جَعَلَ قُبُورَ الْمَخْلُوقِينَ تُحَجُّ كَمَا تُحَجُّ الْكَعْبَةُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ، وَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَلَا يُطَافُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُصَلَّى إِلَّا إِلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ إِلَّا بِحَجِّهِ .

وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - لَمْ يَأْمُرْ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْرِ الْمَشَاهِدِ، وَلَا شَرَعَ لِأُمَّتِهِ مَنَاسِكَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، بَلْ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [سُورَةُ نُوحٍ: ٢٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - «أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا». وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ» . فَقَرَنَ بَيْنَ طَمْسِ التَّمَاثِيلِ وَتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا ذَرِيعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ ذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ - ﷺ - كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَاللَّهُ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَشَاهِدَ، فَالرَّافِضَةُ بَدَّلُوا دِينَ اللَّهِ فَعَمَرُوا الْمَشَاهِدَ، وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ، مُضَاهَاةً لِلْمُشْرِكِينَ، وَمُخَالَفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: ٢٩] لَمْ يَقُلْ: عِنْدَ كُلِّ مَشْهَدٍ. وَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ - إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [سُورَةُ التَّوْبَةِ: ١٧، ١٨] وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَشَاهِدَ اللَّهِ، بَلْ عُمَّارُ الْمَشَاهِدِ يَخْشَوْنَ بِهَا غَيْرَ اللَّهِ وَيَرْجُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [سُورَةُ الْجِنِّ: ١٨] وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنَّ الْمَشَاهِدَ [لِلَّهِ. وَقَالَ: ﴿وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [سُورَةُ الْحَجِّ: ٤٠] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَشَاهِدُ. وَقَالَ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ [سُورَةُ النُّورِ ٣٦، ٣٧]

وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، بَلْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - شَرَّعَ لِأُمَّتِهِ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَوَاتِ، وَالِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُشَرِّعْ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَبْنُوا عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ لَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا غَيْرِهِمْ، لَا مَسْجِدًا وَلَا مَشْهَدًا. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ - ﷺ - فِي الْإِسْلَامِ مَشْهَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبْرٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةَ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِمْ مَشْهَدٌ  مَبْنِيٌّ لَا عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، لَا عَلَى قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ.

بَلْ لَمَّا قَدِمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الشَّامِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ لِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُشَارَطَتِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ إِلَى سَرْغٍ ، فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَرَّاتِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ يَقْصِدُ السَّفَرَ إِلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ، وَلَا كَانَ هُنَاكَ مَشْهَدٌ، بَلْ كَانَ هُنَاكَ الْبِنَاءُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْمَغَارَةِ، وَكَانَ مَسْدُودًا بِلَا بَابٍ لَهُ مِثْلَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ - ﷺ -.

ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ هَكَذَا فِي خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، إِلَى أَنْ مَلَكَ النَّصَّارَى تِلْكَ الْبِلَادِ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، فَبَنَوْا ذَلِكَ الْبِنَاءَ وَاتَّخَذُوهُ كَنِيسَةً وَنَقَبُوا بَابَ الْبِنَاءِ؛ فَلِهَذَا تَجِدُ الْبَابَ مَنْقُوبًا لَا مَبْنِيًّا، ثُمَّ لَمَّا اسْتَنْقَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ تِلْكَ الْأَرْضَ اتَّخَذَهَا مَنِ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا.

بَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا رَأَوْا أَحَدًا بَنَى مَسْجِدًا عَلَى قَبْرٍ نَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بِتُسْتَرَ كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنه -

إِلَى عُمَرَ - رضي الله عنه -، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ تَحْفُرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا، وَتَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لِئَلَّا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بِهِ .

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا رَآهُمْ يَتَنَاوَبُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَوْضِعَ نَبِيٍّ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاتِّخَاذِ آثَارِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ.

فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا كَانُوا يُحَقِّقُونَ بِهِ التَّوْحِيدَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ سُنَّتَهُ - ﷺ -.

وَالْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ لَا تَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ.

فَالنَّصَارَى خَرَجُوا عَنِ الْأَصْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ رُسُلٌ شَافَهَهُمُ اللَّهُ بِالْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ.

وَالرَّافِضَةُ تَجْعَلُ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَفْضَلَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَغَالِيَتُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ كَمَا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ.

وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ الدِّينَ مُسَلَّمٌ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلُوهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمُوهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَّعُوهُ.

وَالرَّافِضَةُ تَزْعُمُ أَنَّ الدِّينَ مُسَلَّمٌ إِلَى الْأَئِمَّةِ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلُوهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمُوهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَّعُوهُ.

وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ فِي غُلُوَّةِ الشِّيعَةِ كَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ الْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَقَالَاتِ الْغَالِيَةِ مِنَ الرَّافِضَةِ، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الشِّيعَةِ يَتَظَاهَرُونَ بِمَذَاهِبِهِمْ.

اعتراض: الغلو موجود في كثير من المنتسبين إلى السنة والرد عليه

فَإِنْ قِيلَ: مَا وَصَفْتَ بِهِ الرَّافِضَةَ مِنَ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ مِنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ غُلُوًّا فِي مَشَايِخِهِمْ وَإِشْرَاكًا بِهِمْ وَابْتِدَاعًا لِعِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقْصِدُ قَبْرَ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ: إِمَّا لِيَسْأَلَهُ حَاجَاتِهِ وَإِمَّا لِيَسْأَلَ اللَّهَ بِهِ حَاجَةً، وَإِمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَجْوَبُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ زِيَارَةَ قُبُورِ شُيُوخِهِمْ عَلَى الْحَجِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجِدُ عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ مَا لَا يَجِدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي الشِّيعَةِ.

وَيَرْوُونَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً مِنْ جِنْسِ أَكَاذِيبِ الرَّافِضَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرٍ نَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ. وَقَوْلِهِمْ: إِذَا أَعْيَتْكُمُ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْقُبُورِ. وَقَوْلِهِمْ: قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ.

وَيَرْوُونَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِهِ: إِذَا كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَتَعَالَ إِلَى قَبْرِي وَاسْتَغِثْ بِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْمَشَايِخِ مَنْ يَفْعَلُ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ. وَقَدْ يَسْتَغِيثُ الشَّخْصُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ: إِمَّا حَيًّا وَإِمَّا مَيِّتًا، وَرُبَّمَا قَضَى حَاجَتَهُ أَوْ قَضَى بَعْضَ حَاجَتِهِ، كَمَا يَجْرِي نَحْوُ ذَلِكَ لِلنَّصَارَى مَعَ شُيُوخِهِمْ، وَلِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ.

قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلُهُ مُنْتَسِبًا إِلَى السُّنَّةِ أَوْ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَلَكِنَّ الْأُمُورَ الْمَذْمُومَةَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ هِيَ فِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الشَّرِّ فَفِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَا يُوجَدُ فِي الرَّافِضَةِ مِنَ الْخَيْرِ فَفِي أَهْلِ السُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ.

وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ: فَمَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ شَرٌّ إِلَّا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَيْرٌ إِلَّا وَفِي الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْهُ.

وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ مُنَاظَرَةَ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْعَدْلِ، فَإِنْ ذَكَرُوا عَيْبًا فِي الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُبَرِّئْهُمْ مِنْهُ، لَكِنْ يُبَيِّنُ أَنَّ عُيُوبَ الْكُفَّارِ أَعْظَمُ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ٢١٧] .

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ لِأَنَّ سَرِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَعَابَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ - قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: ٥٩، ٦٠]، أَيْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمَمْسُوخِينَ وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ، جَعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعَن، لَيْسَ الْمُرَادُ: وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ ذَمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ، إِذْ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِهَذَا لَا ذَمَّ فِيهِ لَهُمْ، بِخِلَافِ جَعْلِهِ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ فَإِنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَذَلِكَ خِزْيٌ لَهُمْ، فَعَابَهُمْ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ بِالشِّرْكِ الَّذِي فِيهِمْ وَهُوَ عِبَادَةُ الطَّاغُوتِ.


يوم الاثنين 24 جمادى الآخرة 1447 هجرية

مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون