الدرس السادس والعشرون: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ_ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الدرس السادس والعشرون: من التعليق على كتابِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيْعَة الْقَدَرِيَّةِ _ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَرَّانِي رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ
يَقُولُونَ : إِنَّ خِلَافَتَهُ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، وَهُمْ يُسْنِدُونَ ذَلِكَ
إِلَى أَحَادِيثَ مَعْرُوفَةٍ صَحِيحَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ
أَوْجَهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ خِلَافَةَ عَلِيٍّ أَوِ الْعَبَّاسِ
ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ
الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، الَّذِي يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ بِالضَّرُورَةِ كُلُّ
مَنْ كَانَ عَارِفًا بِأَحْوَالِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِدْلَالٌ بِأَلْفَاظٍ لَا
تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَحَدِيثِ اسْتِخْلَافِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهِ
مِمَّا سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَيُقَالُ لِهَذَا: إِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ
مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَانَ الْقَوْلُ بِهَذَا النَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ
بِذَاكَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَذَا، بَطَلَ ذَاكَ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - دَلَّ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِأُمُورٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْبَرَ بِخِلَافَتِهِ
إِخْبَارَ رَاضٍ بِذَلِكَ حَامِدٍ لَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ
عَهْدًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَتَرَكَ
الْكِتَابَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ شَكٌّ: هَلْ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ
جِهَةِ الْمَرَضِ، أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ؟ تَرَكَ الْكِتَابَةَ
اكْتِفَاءً بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَخْتَارُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ
خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
فَلَوْ كَانَ التَّعْيِينُ مِمَّا يُشْتَبَهُ عَلَى
الْأُمَّةِ، لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - ﷺ - بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، لَكِنْ
لَمَّا دَلَّتْهُمْ دِلَالَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ
الْمُتَعَيَّنُ وَفَهِمُوا ذَلِكَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالْأَحْكَامُ
يُبَيِّنُهَا - ﷺ - تَارَةً بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ وَتَارَةً بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا
بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: «وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تُقْطَعُ
إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ
السَّقِيفَةِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: «أَنْتَ خَيْرُنَا
وَسَيِّدُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - » وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ
مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ غَيْرَ أَبِي
بَكْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَلَمْ يُنَازِعْ
أَحَدٌ فِي خِلَافَتِهِ إِلَّا بَعْضَ الْأَنْصَارِ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنَ
الْأَنْصَارِ أَمِيرٌ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمِيرٌ، وَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ
بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - بُطْلَانُهُ، ثُمَّ
الْأَنْصَارُ جَمِيعُهُمْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ إِلَّا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ.
وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ
النَّبِيَّ - ﷺ - نَصَّ عَلَى غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه -: لَا عَلَى
الْعَبَّاسِ وَلَا عَلَى عَلِيٍّ وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَلَا ادَّعَى
الْعَبَّاسُ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ يُحِبُّهُمَا الْخِلَافَةَ
لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ
مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ فِي قُرَيْشٍ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَبِي
بَكْرٍ: لَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا مِنْ غَيْرِ بَنِي هَاشِمٍ. وَهَذَا
كُلُّهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِالْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَالْحَدِيثِ،
وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ بِالِاضْطِرَارِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مِثْلِ أَبِي
سُفْيَانَ وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ لَا تَكُونَ
الْخِلَافَةُ إِلَّا فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ
لِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَلَمْ يَلْتَفِتَا إِلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمَا
وَعِلْمِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مِثْلُ أَبِي
بَكْرٍ.
فَفِي الْجُمْلَةِ جَمِيعُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِنَ
الْأَنْصَارِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنَّهُ طَلَبَ تَوْلِيَةَ غَيْرِ أَبِي
بَكْرٍ، لَمْ يَذْكُرْ حُجَّةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وَلَا ذَكَرَ أَنَّ غَيْرَ
أَبِي بَكْرٍ أَحَقُّ وَأَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا نَشَأَ كَلَامُهُ
عَنْ حُبٍّ لِقَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَإِرَادَةٍ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ
الْإِمَامَةُ فِي قَبِيلَتِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الطُّرُقِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِهِ، بَلْ هُوَ شُعْبَةٌ جَاهِلِيَّةٌ،
وَنَوْعُ عَصَبِيَّةٍ لِلْأَنْسَابِ وَالْقَبَائِلِ. وَهَذَا مِمَّا بَعَثَ
اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِهَجْرِهِ وَإِبْطَالِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدَعُوهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ،
وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِقَاءُ
بِالنُّجُومِ».
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أُمِّهِ وَلَا تَكْنُوا»".
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ».
وَأَمَّا كَوْنُ الْخِلَافَةِ فِي قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ
هَذَا مِنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ ، كَانَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةً مَنْقُولَةً مَأْثُورَةً
يَذْكُرُهَا الصَّحَابَةُ. بِخِلَافِ كَوْنِ الْخِلَافَةِ فِي بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ
أَوْ غَيْرِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ
نَصًّا، بَلْ وَلَا قَالَ أَحَدٌ: إِنَّهُ كَانَ فِي قُرَيْشٍ مَنْ هُوَ أَحَقُّ
بِالْخِلَافَةِ فِي دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ كُلَّمَا تَدَبَّرَهَا الْعَالِمُ،
وَتَدَبَّرَ النُّصُوصَ الثَّابِتَةَ وَسِيَرَ الصَّحَابَةِ، حَصَلَ لَهُ عُلُومٌ
ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مُقَدَّمٌ
عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ أَحَقَّ بِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ،
وَأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ عِنْدَهُمْ، لَيْسَ فِيهِ
اشْتِبَاهٌ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: ««يَأْبَى اللَّهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»».
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَهُمْ
بِفَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ، إِنَّمَا اسْتَفَادُوهُ مِنَ النَّبِيِّ - ﷺ -
بِأُمُورٍ سَمِعُوهَا وَعَايَنُوهَا، وَ حَصَلَ بِهَا لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا
عَلِمُوا بِهِ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَحَقُّ الْأُمَّةِ بِخِلَافَةِ نَبِيِّهِمْ،
وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَ نَبِيِّهِمْ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُشَابِهُهُ
حَتَّى يَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إِلَى مُنَاظَرَةٍ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ: إِنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ عُثْمَانَ، أَوْ عَلِيًّا، أَوْ غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ
أَبِي بَكْرٍ، أَوْ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ. وَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ،
وَهُمْ دَائِمًا يَرَوْنَ مِنْ تَقْدِيمِ النَّبِيِّ - ﷺ - لِأَبِي بَكْرٍ عَلَى
غَيْرِهِ، وَتَفْضِيلِهِ لَهُ، وَتَخْصِيصِهِ بِالتَّعْظِيمِ، مَا قَدْ ظَهَرَ
لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ؟ ! حَتَّى أَنَّ أَعْدَاءَ النَّبِيِّ - ﷺ - مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ، يَعْلَمُونَ أَنَّ لِأَبِي
بَكْرٍ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ.
كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ.
قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثًا. ثُمَّ
قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثُمَّ قَالَ أَفِي الْقَوْمِ
ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ
الْخَطَّابِ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُمُ النَّبِيُّ - ﷺ - : «لَا تُجِيبُوهُ»
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
حَتَّى إِنِّي أَعْلَمُ طَائِفَةً مِنْ حُذَّاقِ
الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - كَانَ رَجُلًا عَاقِلًا
أَقَامَ الرِّيَاسَةَ بِعَقْلِهِ وَحِذْقِهِ، يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ مُبَاطِنًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ
عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.
فَقَدْ ظَهَرَ لِعَامَّةِ الْخَلَائِقِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي
الله عنه كَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِمُحَمَّدٍ - ﷺ - فَهَذَا النَّبِيُّ وَهَذَا
صِدِّيقُهُ، فَإِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ النَّبِيِّينَ فَصِدِّيقُهُ
أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ.
فَخِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دَلَّتِ النُّصُوصُ
الصَّحِيحَةُ عَلَى صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا وَرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِ اللَّهِ ﷺ
لَهُ بِهَا، وَانْعَقَدَتْ بِمُبَايَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَاخْتِيَارِهِمْ
إِيَّاهُ اخْتِيَارًا اسْتَنَدُوا فِيهِ إِلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، فَصَارَتْ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ جَمِيعًا.
وَلَكِنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ
بِهَا، وَأَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا وَقَدَّرَهَا، وَأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ يَخْتَارُونَهَا، وَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعَهْدِ
بِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ يَكُونُ طَرِيقُ ثُبُوتِهَا مُجَرَّدَ
الْعَهْدِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدِ اخْتَارُوهُ مِنْ
غَيْرِ عَهْدٍ، وَدَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى صَوَابِهِمْ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَرِضَا
اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى
أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي
بَانَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، مَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ أَنَّهُ أَحَقُّهُمْ
بِالْخِلَافَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى عَهْدٍ خَاصٍّ.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ
لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ: ««ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى
أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ،
وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا
أَبَا بَكْرٍ»». أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: ««لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ
الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، وَيَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى
الْمُؤْمِنُونَ».
فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا خَوْفًا،
ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ مِمَّا يُقْبَلُ النِّزَاعُ
فِيهِ، وَالْأُمَّةُ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنَبِيِّهَا، وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَفْضَلُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَا
يَتَنَازَعُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّ النِّزَاعَ
إِنَّمَا يَكُونُ لِخَفَاءِ الْعِلْمِ أَوْ لِسُوءِ الْقَصْدِ، وَكِلَا
الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِفَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ جَلِيٌّ،
وَسُوءَ الْقَصْدِ لَا يَقَعُ مِنْ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ
الْقُرُونِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ««يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا
بَكْرٍ»»، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ظُهُورَ فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِهَذَا الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ الْعَهْدِ فَلَا
يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَتَرَكَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَظُهُورِ فَضِيلَةِ
الصِّدِّيقِ وَاسْتِحْقَاقِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَهْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ .
إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ - ﷺ - أَبُو بَكْرٍ، بِمُبَايَعَةِ عُمَرَ، بِرِضَا أَرْبَعَةٍ .
فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَئِمَّةِ أَهْلِ
السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: إِنَّ
الْإِمَامَةَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَةِ أَرْبَعَةٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
تَنْعَقِدُ بِبَيْعَةِ اثْنَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَنْعَقِدُ بِبَيْعَةِ
وَاحِدٍ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ أَقْوَالَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ .
بَلِ الْإِمَامَةُ عِنْدَهُمْ تَثْبُتُ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ
الشَّوْكَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ إِمَامًا حَتَّى يُوَافِقَهُ
أَهْلُ الشَّوْكَةِ عَلَيْهَا الَّذِينَ يَحْصُلُ بِطَاعَتِهِمْ لَهُ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ،
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِمَامَةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ
وَالسُّلْطَانِ، فَإِذَا بُويِعَ بَيْعَةً حَصَلَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ
وَالسُّلْطَانُ صَارَ إِمَامًا.
وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ: مَنْ صَارَ لَهُ
قُدْرَةٌ وَسُلْطَانٌ يَفْعَلُ بِهِمَا مَقْصُودَ الْوِلَايَةِ، فَهُوَ مِنْ
أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا
بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَالْإِمَامَةُ مُلْكٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْمُلْكُ لَا
يَصِيرُ مُلْكًا بِمُوَافَقَةِ وَاحِدٍ وَلَا اثْنَيْنِ وَلَا أَرْبَعَةٍ، إِلَّا
أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةُ هَؤُلَاءِ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ غَيْرِهِمْ بِحَيْثُ
يَصِيرُ مُلْكًا بِذَلِكَ. وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ يَفْتَقِرُ إِلَى
الْمُعَاوَنَةِ عَلَيْهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ مَنْ يُمْكِنُهُمُ
التَّعَاوُنُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُويِعَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -
وَصَارَ مَعَهُ شَوْكَةٌ صَارَ إِمَامًا.
وَلَوْ كَانَ جَمَاعَةٌ فِي سَفَرٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ
يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: "«لَا يَحِلُّ
لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ فِي سَفَرٍ إِلَّا أَنْ يُؤَمِّرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ»
«فَإِذَا أَمَّرَهُ أَهْلُ الْقُدْرَةِ مِنْهُمْ صَارَ أَمِيرًا. فَكَوْنُ
الرَّجُلِ أَمِيرًا وَقَاضِيًا وَوَالِيًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي
مَبْنَاهَا عَلَى الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ، مَتَى حَصَلَ مَا يَحْصُلُ بِهِ
مِنَ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ حَصَلَتْ وَإِلَّا فَلَا؛ إِذِ الْمَقْصُودُ
بِهَا عَمَلُ أَعْمَالٍ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ، فَمَتَى حَصَلَتِ
الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ تِلْكَ الْأَعْمَالُ كَانَتْ حَاصِلَةً
وَإِلَّا فَلَا.
وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِ الرَّجُلِ رَاعِيًا لِلْمَاشِيَةِ،
مَتَى سُلِّمَتْ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ أَنْ يَرْعَاهَا، كَانَ رَاعِيًا
لَهَا وَإِلَّا فَلَا، فَلَا عَمَلَ إِلَّا بِقُدْرَةٍ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَمْ
يَحْصُلْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا.
وَالْقُدْرَةُ عَلَى سِيَاسَةِ النَّاسِ إِمَّا بِطَاعَتِهِمْ
لَهُ، وَإِمَّا بِقَهْرِهِ لَهُمْ، فَمَتَى صَارَ قَادِرًا عَلَى سِيَاسَتِهِمْ
بِطَاعَتِهِمْ أَوْ بِقَهْرِهِ، فَهُوَ ذُو سُلْطَانٍ مُطَاعٍ، إِذَا أَمَرَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عُبْدُوسِ بْنِ
مَالِكٍ الْعَطَّارِ: «أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ
عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَمَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ
فَأَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَرَضُوا بِهِ، وَمَنْ غَلَبَهُمْ بِالسَّيْفِ
حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَفْعُ الصَّدَقَاتِ
إِلَيْهِ جَائِزٌ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا».
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ ، وَقَدْ
سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - ﷺ - «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مَاتَ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: تَدْرِي مَا الْإِمَامُ؟
الْإِمَامُ الَّذِي يُجْمِعُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: هَذَا
إِمَامٌ؛ فَهَذَا مَعْنَاهُ وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي
كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِمَامَةِ، وَأَنَّ
مُبَايَعَتَهُمْ لَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهَذَا ثَابِتٌ
بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى صَارَ إِمَامًا، فَذَلِكَ
بِمُبَايَعَةِ أَهْلِ الْقُدْرَةِ لَهُ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ لَمَّا عَهِدَ إِلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ، إِنَّمَا صَارَ إِمَامًا لَمَّا بَايَعُوهُ وَأَطَاعُوهُ، وَلَوْ
قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُنَفِّذُوا عَهْدَ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ لَمْ
يَصِرْ إِمَامًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا أَوْ غَيْرَ جَائِزٍ.
فَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَفْعَالِ،
وَأَمَّا نَفْسُ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ
الْحَاصِلَةِ، ثُمَّ قَدْ تَحْصُلُ عَلَى وَجْهٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،
كَسُلْطَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ تَحْصُلُ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ
مَعْصِيَةٌ، كَسُلْطَانِ الظَّالِمِينَ.
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ عُمَرَ وَطَائِفَةً مَعَهُ بَايَعُوهُ،
وَامْتَنَعَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ، لَمْ يَصِرْ إِمَامًا
بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا صَارَ إِمَامًا بِمُبَايَعَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ،
الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْقُدْرَةِ وَالشَّوْكَةِ. وَلِهَذَا لَمْ يَضُرَّ
تَخَلُّفُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ
الْوِلَايَةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ
اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَحْصُلُ مَصَالِحُ الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ قَدْ حَصَلَ
بِمُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى ذَلِكَ.
فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَصِيرُ إِمَامًا بِمُوَافَقَةِ وَاحِدٍ
أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَلَيْسُوا هُمْ ذَوِي الْقُدْرَةِ
وَالشَّوْكَةِ، فَقَدْ غَلِطَ؛ كَمَا أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ تَخَلُّفَ الْوَاحِدِ
أَوِ الِاثْنَيْنِ وَالْعَشَرَةِ يَضُرُّهُ، فَقَدْ غَلِطَ.
وَأَبُو بَكْرٍ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ،
الَّذِينَ هُمْ بِطَانَةُ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، وَالَّذِينَ بِهِمْ صَارَ
لِلْإِسْلَامِ قُوَّةٌ وَعِزَّةٌ، وَبِهِمْ قَهَرَ الْمُشْرِكُونَ، وَبِهِمْ
فُتِحَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، فَجُمْهُورُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -
ﷺ - هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ. وَأَمَّا كَوْنُ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ
سَبَقَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ بَيْعَةٍ مِنْ سَابِقٍ، وَلَوْ
قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ كَارِهًا لِلْبَيْعَةِ، لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ
فِي مَقْصُودِهَا، فَإِنَّ نَفْسَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهَا ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّهُمْ بِهَا، وَمَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ لَا يَضُرُّ مَنْ خَالَفَهَا، وَنَفْسُ حُصُولِهَا وَوُجُودِهَا
ثَابِتٌ بِحُصُولِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ، بِمُطَاوَعَةِ ذَوِي الشَّوْكَةِ.
فَالدِّينُ الْحَقُّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ
الْهَادِي وَالسَّيْفِ النَّاصِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ﴾ [سُورَةُ الْحَدِيدِ: ٢٥].
فَالْكِتَابُ يُبَيِّنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى
عَنْهُ، وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ.
وَأَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ
اللَّهَ أَمَرَ بِمُبَايَعَتِهِ، وَالَّذِينَ بَايَعُوهُ كَانُوا أَهْلَ السَّيْفِ
الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ، فَانْعَقَدَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ فِي
حَقِّهِ بِالْكِتَابِ وَالْحَدِيدِ.
وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ عَهِدَ إِلَيْهِ
وَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَصَارَ إِمَامًا لَمَّا
حَصَلَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ بِمُبَايَعَتِهِمْ لَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّان بِنَصِّ
عُمَرَ عَلَى سِتَّةٍ هُوَ أَحَدُهُمْ، فَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ .
كانت بيعة عثمان بإجماع المسلمين
فَيُقَالُ أَيْضًا: عُثْمَانُ لَمْ يَصِرْ إِمَامًا
بِاخْتِيَارِ بَعْضِهِمْ، بَلْ بِمُبَايَعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَجَمِيعُ
الْمُسْلِمِينَ بَايَعُوا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ
أَحَدٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَمْدَانَ بْنِ
عَلِيٍّ : "مَا كَانَ فِي الْقَوْمِ أَوْكَدُ بَيْعَةً مِنْ عُثْمَانَ
كَانَتْ بِإِجْمَاعِهِمْ " فَلَمَّا بَايَعَهُ ذَوُو الشَّوْكَةِ
وَالْقُدْرَةِ صَارَ إِمَامًا، وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بَايَعَهُ، وَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَهْلِ
الشَّوْكَةِ لَمْ يَصِرْ إِمَامًا.
وَلَكِنَّ عُمَرَ لَمَّا جَعَلَهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ:
عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطِلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ بِاخْتِيَارِهِمْ،
وَبَقِيَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَاتَّفَقَ
الثَّلَاثَةُ بِاخْتِيَارِهِمْ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَا
يَتَوَلَّى وَيُوَلِّي أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ، وَأَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
ثَلَاثًا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَمِضْ فِيهَا بِكَبِيرِ نَوْمٍ يُشَاوِرُ السَّابِقِينَ
الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَيُشَاوِرُ أُمَرَاءَ
الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا قَدْ حَجُّوا مَعَ عُمَرَ ذَلِكَ الْعَامَ، فَأَشَارَ
عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِوِلَايَةِ عُثْمَانَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ
قَدَّمُوا عُثْمَانَ فَبَايَعُوهُ، لَا عَنْ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا،
وَلَا عَنْ رَهْبَةٍ أَخَافَهُمْ بِهَا.
وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ
كَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَأَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: مَنْ لَمْ
يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ. وَهَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ
أَفْضَلُ لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَاشْتِوَارِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «ثُمَّ عَلِيٌّ بِمُبَايَعَةِ الْخَلْقِ
لَهُ».
فَتَخْصِيصُهُ عَلِيًّا بِمُبَايَعَةِ الْخَلْقِ لَهُ، دُونَ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، كَلَامٌ ظَاهِرُ الْبَطَلَانِ. وَذَلِكَ
أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَةَ الْقَوْمِ أَنَّ اتِّفَاقَ
الْخَلْقِ وَمُبَايَعَتَهُمْ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، أَعْظَمُ مِنِ
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ
عُثْمَانَ أَعْظَمَ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ. وَالَّذِينَ بَايَعُوا
عُثْمَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلِيًّا،
فَإِنَّهُ بَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَمْثَالُهُمْ، مَعَ سَكِينَةٍ
وَطُمَأْنِينَةٍ، بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ بُويِعَ عَقِيبَ
قَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَالْقُلُوبُ مُضْطَرِبَةٌ مُخْتَلِفَةٌ،
وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مُتَفَرِّقُونَ، وَأُحْضِرَ طَلْحَةُ إِحْضَارًا حَتَّى
قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ جَاءُوا بِهِ مُكْرَهًا، وَأَنَّهُ قَالَ، بَايَعْتُ
وَاللُّجُّ أَيِ السَّيْفُ عَلَى قَفَيَّ.
وَكَانَ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ بِالْمَدِينَةِ شَوْكَةٌ لَمَّا
قَتَلُوا عُثْمَانَ، وَمَاجَ النَّاسُ لِقَتْلِهِ مَوْجًا عَظِيمًا. وَكَثِيرٌ
مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
وَأَمْثَالِهِ، وَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ قَاتَلُوا
مَعَهُ، وَصِنْفٌ قَاتَلُوهُ، وَصِنْفٌ لَمْ يُقَاتِلُوهُ وَلَمْ يُقَاتِلُوا
مَعَهُ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي عَلِيٍّ: بِمُبَايَعَةِ الْخَلْقِ لَهُ،
وَلَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُبَايَعَةِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ
عَلَيْهِمْ أَحَدٌ؟ بَلْ بَايَعَهُمُ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَا سِيَّمَا عُثْمَانُ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَتَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ سَعْدٌ؛
لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَيَّنُوهُ لِلْإِمَارَةِ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مَا
يَبْقَى فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ. وَلَكِنْ هُوَ مَعَ هَذَا - رضي الله عنه - لَمْ
يُعَارِضْ، وَلَمْ يَدْفَعْ حَقًّا وَلَا أَعَانَ عَلَى بَاطِلٍ. بَلْ قَدْ رَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله فِي مُسْنَدِ الصِّدِّيقِ، عَنْ
عَفَّانَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ،
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - هُوَ الْحِمْيَرِيُّ - فَذَكَرَ حَدِيثَ
السَّقِيفَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: «قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا
الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ
لِفَاجِرِهِمْ» قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ
وَأَنْتُمُ الْأُمَرَاءُ. فَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ وَلَعَلَّ حُمَيْدًا أَخَذَهُ
عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا ذَلِكَ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ
جِدًّا، وَهِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ نَزَلَ عَنْ مَقَامِهِ الْأَوَّلِ فِي
دَعْوَى الْإِمَارَةِ، وَأَذْعَنَ لِلصِّدِّيقِ بِالْإِمَارَةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَلِهَذَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ عَلَى
أَقْوَالٍ:فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ إِمَامٌ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ إِمَامٌ،
وَإِنَّهُ يَجُوزُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي وَقْتٍ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ
الِاجْتِمَاعُ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُحْكَى عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
إِمَامٌ عَامٌّ، بَلْ كَانَ زَمَانَ فِتْنَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِ الْحَدِيثِ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا أَظْهَرَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ التَّرْبِيعَ بِعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ وَقَالَ: مَنْ لَمْ
يُرَبِّعْ بِعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ،
أَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَالُوا: قَدْ أَنْكَرَ خِلَافَتَهُ
مَنْ لَا يُقَالُ: هُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، يُرِيدُونَ مَنْ تَخَلَّفَ
عَنْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى خِلَافَةِ
عَلِيٍّ بِحَدِيثِ سَفِينَةَ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -: ««تَكُونُ خِلَافَةُ
النُّبُوَّةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا»وَ هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ
رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ عَلِيٌّ هُوَ الْإِمَامُ،
وَهُوَ مُصِيبٌ فِي قِتَالِهِ لِمَنْ قَاتَلَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ
الصَّحَابَةِ كَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ كُلُّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ.
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، كَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ
مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ،
وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ: كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي
حَامِدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ [أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهَؤُلَاءِ
أَيْضًا يَجْعَلُونَ مُعَاوِيَةَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا فِي قِتَالِهِ، كَمَا أَنَّ
عَلِيًّا مُصِيبٌ.
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ
أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، ذَكَرَ
لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي الْمُقْتَتِلِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ ثَلَاثَةَ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: كِلَاهُمَا مُصِيبٌ، وَالثَّانِي: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا
بِعَيْنِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْمُصِيبُ وَمَنْ خَالَفَهُ
مُخْطِئٌ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا
يُذَمُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَأَنَّ عَلِيًّا أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ . أَمَّا
تَصْوِيبُ الْقِتَالِ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، بَلْ هُمْ
يَقُولُونَ إِنَّ تَرْكَهُ كَانَ أَوْلَى.
وَطَائِفَةٌ رَابِعَةٌ تَجْعَلُ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامَ،
وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا فِي الْقِتَالِ، وَمَنْ قَاتَلَهُ كَانُوا
مُجْتَهِدِينَ مُخْطِئِينَ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ
وَالْكَلَامِ، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ.
وَطَائِفَةٌ خَامِسَةٌ تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا مَعَ كَوْنِهِ
كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ تَرْكُ
الْقِتَالِ أَوْلَى، وَيَنْبَغِي الْإِمْسَاكُ عَنِ الْقِتَالِ لِهَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: ««سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ
فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي».
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ عَنِ الْحَسَنِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا
سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ» ". فَأَثْنَى عَلَى الْحَسَنِ بِالْإِصْلَاحِ، وَلَوْ كَانَ
الْقِتَالُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، لَمَا مُدِحَ تَارِكُهُ.
قَالُوا: وَقِتَالُ الْبُغَاةِ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ
ابْتِدَاءً، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ كُلِّ بَاغٍ، بَلْ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: ٩]، فَأَمَرَ إِذَا اقْتَتَلَ
الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى قُوتِلَتْ.
قَالُوا: وَلِهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِالْقِتَالِ مَصْلَحَةٌ،
وَالْأَمْرُ الَّذِي يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ
رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ يَعْنِي
ابْنَ سِيرِينَ، قَالَ: «قَالَ حُذَيْفَةُ: مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تُدْرِكُهُ
الْفِتْنَةُ إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ،
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: «لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ»
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ
ثَعْلَبَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: إِنِّي
لَأَعْرِفُ رَجُلًا لَا تَضُرُّهُ الْفِتَنُ شَيْئًا. قَالَ: فَخَرَجْنَا فَإِذَا
فُسْطَاطٌ مَضْرُوبٌ، فَدَخَلْنَا فَإِذَا فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ،
فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ
مِنْ أَمْصَارِكُمْ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - أَخْبَرَ
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لَا تَضُرُّهُ الْفِتْنَةُ، وَهُوَ مِمَّنِ
اعْتَزَلَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُقَاتِلْ لَا مَعَ عَلِيٍّ وَلَا مَعَ
مُعَاوِيَةَ، كَمَا اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَعِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ، وَأَكْثَرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ قِتَالٌ وَاجِبٌ
وَلَا مُسْتَحَبٌّ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ ذَلِكَ مِمَّا
يُمْدَحُ بِهِ الرَّجُلُ، بَلْ كَانَ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَوِ الْمُسْتَحَبَّ
أَفْضَلَ مِمَّنْ تَرَكَهُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ قِتَالُ
فِتْنَةٍ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ
قَالَ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ،
وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي،
وَالسَّاعِي خَيْرٌ مِنَ الْمُوضِعِ»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ خَيْرًا مِنْ
فِعْلِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ أَئِمَّةِ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ
وَغَيْرِهِمْ وَهَذِهِ أَقْوَالُ مَنْ يُحْسِنُ الْقَوْلَ فِي عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ
وَالزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةَ، وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْخَوَارِجِ
وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَمَقَالَاتُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ لَوْنٌ
آخَرُ، فَالْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَمَنْ وَالَاهُمَا؛
وَالرَّوَافِضُ تُكَفِّرُ جُمْهُورَ، الصَّحَابَةِ كَالثَّلَاثَةِ وَمَنْ
وَالَاهُمْ وَتُفَسِّقُهُمْ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وَيَقُولُونَ:
هُوَ إِمَامٌ مَعْصُومٌ ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَرْوَانِيَّةِ تُفَسِّقُهُ وَتَقُولُ:
إِنَّهُ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ تَقُولُ: قَدْ فَسَقَ
إِمَّا هُوَ وَإِمَّا مَنْ قَاتَلَهُ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ عَيْنُهُ، وَطَائِفَةٌ
أُخْرَى مِنْهُمْ تُفَسِّقُ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا دُونَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ
وَعَائِشَةَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ
وَحُرُوبِهِ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَكَيْفَ تَكُونُ
مُبَايَعَةُ الْخَلْقِ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ مُبَايَعَتِهِمْ لِلثَّلَاثَةِ
قَبْلَهُ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ؟ .
فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ
يَقُولُونَ: إِنَّ خِلَافَتَهُ انْعَقَدَتْ بِمُبَايَعَةِ الْخَلْقِ لَهُ لَا
بِالنَّصِّ.
فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا
يَقُولُونَ: إِنَّ النَّصَّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا مِنَ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ، لِقَوْلِهِ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً»، فَهُمْ
يَرْوُونَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ فِي صِحَّةِ خِلَافَةِ غَيْرِهِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالْحَدِيثِ، يَرْوُونَ فِي صِحَّةِ خِلَافَةِ الثَّلَاثَةِ نُصُوصًا كَثِيرَةً،
بِخِلَافِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ فَإِنَّ نُصُوصَهَا قَلِيلَةٌ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ
اجْتَمَعَت الْأُمَّةُ عَلَيْهِمْ فَحَصَلَ بِهِمْ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ،
وَقُوتِلَ بِهِمُ الْكُفَّارُ، وَفُتِحَتْ بِهِمُ الْأَمْصَارُ. وَخِلَافَةُ
عَلِيٍّ لَمْ يُقَاتَلْ فِيهَا كُفَّارٌ، وَلَا فُتِحَ مِصْرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ
السَّيْفُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَأَمَّا النَّصُّ الَّذِي تَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ، فَهُوَ
كَالنَّصِّ الَّذِي تَدَّعِيهِ الرَّاوَنْدِيَّةُ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَكِلَاهُمَا
مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
فِي إِثْبَاتِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ إِلَّا هَذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ إِمَامَةٌ
قَطُّ، كَمَا لَمْ تَثْبُتْ لِلْعَبَّاسِ إِمَامَةٌ بِنَظِيرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ الْإِمَامَ بَعْدَهُ الْحَسَنُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّهُ مُعَاوِيَةُ».
فَيُقَالُ:. أَهْلُ السُّنَّةِ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي هَذَا،
بَلْ هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَسَنَ بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ مَكَانَ
أَبِيهِ، وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ سَاقُوا الْإِمَامَةَ فِي بَنِي أُمَيَّةَ
ثُمَّ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ ».
فَيُقَالُ: أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ إِنَّ الْوَاحِدَ
مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى دُونَ مَنْ سِوَاهُ،
وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، بَلْ
أَهْلُ السُّنَّةِ يُخْبِرُونَ بِالْوَاقِعِ وَيَأْمُرُونَ بِالْوَاجِبِ،
فَيَشْهَدُونَ بِمَا وَقَعَ، وَيَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،
فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وَكَانَ لَهُمْ سُلْطَانٌ
وَقُدْرَةٌ يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مَقَاصِدِ الْوِلَايَةِ: مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ،
وَقَسْمِ الْأَمْوَالِ، وَتَوْلِيَةِ الْوِلَايَاتِ، وَجِهَادِ الْعَدُوِّ،
وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ
الْوِلَايَاتِ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنُوَّابِهِمْ
وَغَيْرِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، بَلْ يُشَارَكُ
فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ: فَيُغْزَى مَعَهُ الْكُفَّارُ،
وَيُصَلَّى مَعَهُ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدَانِ، وَيُحَجُّ مَعَهُ، وَيُعَاوَنُ فِي
إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَيُعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا
يُعَاوَنُونَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ قَدْ تَوَلَّى غَيْرُ هَؤُلَاءِ:
تَوَلَّى بِالْغَرْبِ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
عَلِيٍّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَصْلُحُونَ إِلَّا بِوُلَاةٍ،
وَأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى مَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ
لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ عَدَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: سِتُّونَ سَنَةً مَعَ
إِمَامٍ جَائِرٍ، خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إِمَامٍ.
وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: لَا
بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَارَةٍ بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً. قِيلَ لَهُ:
هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ؟ قَالَ: يُؤَمَّنُ
بِهَا السَّبِيلُ، وَيُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ، وَيُجَاهَدُ بِهِ الْعَدُوُّ،
وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ. ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فِي كِتَابِ
«الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ» .
وَكُلُّ مَنْ تَوَلَّى كَانَ خَيْرًا مِنَ الْمَعْدُومِ
الْمُنْتَظَرِ الَّذِي تَقُولُ الرَّافِضَةُ: إِنَّهُ الْخَلَفُ الْحُجَّةُ،
فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِإِمَامَتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَا فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ أَصْلًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي إِمَامَتِهِ إِلَّا
الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَمَانِيَّ الْكَاذِبَةَ وَالْفِتَنَ بَيْنَ
الْأُمَّةِ وَانْتِظَارَ مَنْ لَا يَجِيءُ، فَتُطْوَى الْأَعْمَارُ وَلَمْ
يَحْصُلْ مِنْ فَائِدَةِ هَذِهِ الْإِمَامَةِ شَيْءٌ.
وَالنَّاسُ لَا يُمْكِنُهُمْ بَقَاءُ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِلَا
وُلَاةِ أُمُورٍ، بَلْ كَانَتْ تَفْسُدُ أُمُورُهُمْ، فَكَيْفَ تَصْلُحُ
أُمُورُهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ وَلَا
يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْإِمَامَةِ بَلْ
هُوَ مَعْدُومٌ؟
وَأَمَّا آبَاؤُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُدْرَةُ وَلَا
سُلْطَانُ الْإِمَامَةِ، بَلْ كَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْهُمْ
إِمَامَةُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ،
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانُ الشَّوْكَةِ؛ فَكَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ
الْإِمَامَةِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا
أَوْلَى.
فَبِكُلِّ حَالٍ مَا مُكِّنُوا وَلَا وُلُّوا وَلَا كَانَ
يَحْصُلُ لَهُمُ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْوِلَايَةِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ
وَالسُّلْطَانِ، وَلَوْ أَطَاعَهُمُ الْمُؤْمِنُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِطَاعَتِهِمُ
الْمَصَالِحُ الَّتِي تَحْصُلُ بِطَاعَةِ الْأَئِمَّةِ: مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ
وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا أَوْ بَعْضِهِمْ وَإِقَامَةِ
الْحُدُودِ.
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ
أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ إِمَامٌ، أَيْ ذُو سُلْطَانٍ وَقُدْرَةٍ يَحْصُلُ بِهِمَا
مَقَاصِدُ الْإِمَامَةِ؛ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً لِلْحِسِّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُتَوَلٍّ يُزَاحِمُهُمْ وَلَا يَسْتَبِدُّ
بِالْأَمْرِ دُونَهُمْ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.
وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ
الَّذِينَ كَانُوا يَجِبُ أَنْ يُوَلَّوْا، وَأَنَّ النَّاسَ عَصَوْا بِتَرْكِ
تَوْلِيَتِهِمْ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ كَانَ يَسْتَحِقُّ
أَنْ يُوَلَّى إِمَامَةَ الصَّلَاةِ وَأَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ، وَلَكِنْ لَمْ
يُوَلَّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
يوم
الأربعاء 26 جمادى الآخرة 1447 هجرية
مسجد إبراهيم _شحوح _ سيئون