الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

الوقوف على أدلة وجوب التعامل بالمعرف

02-02-2008 | عدد المشاهدات 3010 | عدد التنزيلات 1015

[الوقوف على أدلة وجوب التعامل بالمعروف(154)]

خطبة جمعة بتاريخ: (23/محرم/ 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

=================================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء:114].

هذه الآية العظيمة نفى الله سبحانه وتعالى فيها الخيرية عن كثير من الناس، إلا من اتصف بهذه الصفات: وهو أن يأمر بصدقة أو بمعروف أو إصلاح بين الناس، فدلت على أن الأمر بالمعروف خير وأن أهل الخير هم أهل المعروف، وأهل الشر هم أهل المنكر، لمفهوم هذه الدليل ولأدلة في الباب، ومما يدل على ذلك أيضاً أن المعروف صدقة، أي: معروف يقوله الإنسان أو يعمله أو يأمر به فإن هذا صدقة، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل معروف صدقة»، وهذا حديث عظيم، كما أن الآية المذكورة أيضاً عامة ونافية لكل خير إلا ما استثني فيها، فكذلك الحديث دال على أن من أراد أن يتصدق على نفسه فليكن ذلك فيما هو معروف، فإنه لا يتعارف شرعاً إلا على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولهذا أمر الله عز وجل نبيه أن يأخذ الشيء المعروف الذي عرف بالشرع والوحي، قال له: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾[الأعراف:199]، وروى مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وهلل الله وسبح الله وحمد الله واستغفر الله وعزل حجراً أو شوكاً أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فيكون زحزح نفسه من النار»، أي: يكون تصدق على نفسه بقدر أعضائه الستين والثلاثمائة مفصل، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة، قالوا: يا رسول الله! فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطيع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو قال: بالخير، قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: يكف شره عن الناس فإن ذلك صدقة منه على نفسه».

وهذا الحديث مع ما قبله مشتمل على أن المعروف صدقة، الشيء المعروف أمراً كان به أو فعلاً له أو قولاً له، من سلكه فإنه يكون تصدق على نفسه وعلى المسلمين به، وإن إنكار المعروف أو إجحاف المعروف المشهور المتعارف عليه بين الناس أو ما كان مسدى إلى شخص من الأشخاص أو غير ذلك هذا من أسباب لعنة الله، فقد أخرج ابن إسحاق بسند حسن من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: «إن مما دعانا إلى الإسلام بعد رحمة الله عز وجل وهداه لنا أنا كنا مشركين أصحاب أوثان، وكان بيننا وبين يهود شر، وكانوا أهل كتاب ليس لنا، فكنا إذا اقتتلنا معهم، قالوا: إنه اقترب زمان نبي يخرج نقتلكم -هكذا في الرواية: نقتلكم معه، أي: نقاتلكم معه فنقتلكم-، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفنا ما كانوا يقولون فبادرناهم إليه لما دعانا فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:89]».

اليهود استحقوا لعنة الله من أنهم كفروا شيئاً معروفاً عندهم وفي كتبهم ومتقرر عندهم، كما يعرف أحدهم ولده، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾[البقرة:146-147]، أي: ليس منهم، الذي خلقهم هو الذي جعل هذا الحق: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾[البقرة:147]، إن عناد الشيء الواضح المعروف ليعتبر إجراماً كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه قائلاً: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾[الحجر:12-15]، الله سماهم مجرمين ووصفهم بالإجرام من أنهم كلما جاءتهم حجة قابلوها بالإعراض والإجرام.

وقال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾[الأحقاف:11]، شيء معروف، كتاب منزل، وإذا لم يهتدوا به قابلوه أيضاً بالإعراض، وقابلوه بإنكار الشيء المعروف، إن هذا إجرام، والله سبحانه وتعالى قد أوجب على عباده أن يأخذوا المعروف وأن يعرفوا المعروف ويتعاملون بالشيء المعروف شرعاً، وما لا يتعارض عرفاً، سواء كان ذلك بالقول أو كان ذلك بغيره، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾[الأحزاب:32]؛ القول الذي لا ليونة فيه، والقول الذي لا يفتن القلوب لا ضرر فيه على الناس، القول المعروف، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾[الأحزاب:6]، وأوجب أن يكون المعروف في سائر حياة الناس، سواء كان ذلك في النكاح أو كان في الطلاق أو غيره، فقد ثبت عن معقل رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه أتي بامرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً، فقال: سأقول فيها برأيي فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، الحديث.. أصله: سأقول فيها برأيي، ثم قال: لها المهر كاملاً وعليها العدة ولها الميراث، فجاء رجال من أشجع، فقالوا: هكذا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق، والشاهد من ذلك: أنه قضى بالمقارنة، وأنها لها مهر نسائها لا شطط ولا وكس، كما جاء في الرواية الأخرى لها مهر نسائها.

والله عز وجل يقول: ﴿يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾[الطلاق:1]، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء:19]، فالله أمر بالعشرة أن تكون على ما يتعارف عليه شرعاً وعلى ما هو سائر الناس المسلمين الآخذين بالدليل الواضح، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾[الطلاق:6]، أي: على حسب المعروف، وقال: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق:7]، أي: على حسب يسره ومعروفه، وجعل العدة حسب المعروف أيضاً بعد نهاية العدة، فإن تجمل المرأة للخطاب لا يكون في خارج المعروف، بل هو في إطار الحق والانضباط بالمعروف شرعاً: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة:234]، وهكذا سائر شئون الناس منضبطة فيما كان معروفاً، مما يدل على أن إنكار الشيء المعروف أو أن جحود المعروف يعتبر جرماً وجهلاً فاضحاً، يعتبر عناداً للحق.

..(انقطاع في التسجيل هنا)...

وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه ما يدل على أن من لم يعرف المعروف أن قلبه منكوس وأن فكره مطموس قال رضوان الله عليه في سياق حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه».

شاهدنا أن من لم يعترف بالمعروف ولم يقره ولم يميز المعروف من غيره أن هذا قلبه منكوس.

إن أمر المعروف أمر معروف ووضوحه واضح -أي: بين- أمره واضح، ولهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعنه المجوسي، بعد أن جاءه قبل ذلك وكان المجوسي يصنع الأرحاء، فخفف عنه من خراجه، إذ أن المشركين كانوا يتركونهم يعلمون في بلاد المسلمين وفي خيرات المسلمين مقابل أن من كان صانعاً أو له حرفة يؤتي خراجاً من ذلك ويكتسب، وذلك المكتسب كان يصنع الأرحاء التي يصنع عليها الطعام يطحن عليها الطعام، فأتى إلى عمر وعمل فيه معروفاً، وجازى هذا المعروف أنه تركه حتى دخل في الصلاة ثم طعنه، فلما أفاق من الطعنة، قال: من صنع هذا؟ قالوا: فلان المجوسي العلج، قال: قاتله الله، لقد علم أني صنعت فيه معروفاً.

إن أمر المعروف ليجعل الإنسان محبوباً إذا أخذ بالمعروف وينفر الناس عمن ابتعد عن المعروف وعن الشيء المعروف، وقد ثبت في سياق قصة بيعة أبي بكر رضي الله عنه أن علياً رضوان الله عليه تأخر في البيعة، ثم إنه أتاه يوماً فقال: موعدك العشي للبيعة، فصعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر وذكر ما اعتذر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تأخره عن البيعة، وعذره بالعذر الذي اعتذر به، واستغفر له، ثم قام علي وذكر عذره في التأخر عن البيعة، ثم بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قال في الحديث: فكان الناس إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقرب حين راجع الأمر المعروف، الأمر المعروف عند الناس: أن أبا بكر له البيعة، فما الذي أخر علياً رضي الله عنه؟ هذا سبب للناس انقباضاً، ولما بايع أبا بكر رضي الله عنه مد يده وبايعه الناس ذهب ما في نفوسهم على علي رضي الله عنه ورجعوا إليه حين راجع الأمر المعروف.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم تسليماً كثراً.

أما بعد:

في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جابياً فجاء فقال: منع فلان وفلان وفلان، -يعني: ابن جميل وخالداً والعباس، ذكرهم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله بي» أو معنى الحديث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضوان الله عليهم بما يسره الله لهم من المعروف: «لو شئتم لقتم كذا وكذا وكذا، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي» وذكرهم المعروف الذي يسره الله سبحانه وتعالى لهم، وكان يعرف لخديجة معروفها، وهي امرأة عجوز تزوج عليها ابنة أربعين سنة، ولكن المعروف مؤثر عند ذويه، فكان بعد موت خديجة رضي الله عنها إذا ذبح شاة يأمر بها تقسم في صدائق خديجة، وقدمت هالة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اللهم هالة»، أي: ارحم هالة كذا قال بعض الشراح، فغارت عائشة رضي الله عنها من هذا الصنيع، وتكلمت بكلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها كانت وكانت وكانت، وكان لي منها الولد» ويذكر معروفها ومواساتها ومؤانستها، وبسبب ذلك المعروف الذي أسدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك الجميل إلى خير خلق الله، كانت خديجة أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على ما رجحه ابن حجر وابن العربي والسبكي وجماعة آخرون، لاسيما في هذا الجانب جانب النصرة وبلا شك، بل ادعاه ابن العربي إجماعاً.

المعروف ما ينسى، والمعروف يجب أخذه، الشيء المعروف الواضح يجب أن يتعامل به على الواضح، وإنكار المعروف إنكار ما هو مقبول عند الناس أبداً، إنكار المعروف وإنكار الحق وإنكار الواضح فاضح.

نعم عباد الله! وإن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى الناس بأشياء معروفة واضحة بينة جلية، قال هرقل لأبي سفيان: ماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة، هذه أمور معروف، أمور يحترمها الجاهليون، أمور فيها حسن أخلاق ومكارم أخلاق، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم بهذه الأمانة وبهذا الدين، وكان معروفاً عندهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق، حتى لما سأل هرقل أبا سفيان، قال: ما جربنا عليه كذباً، وقال جعفر للنجاشي: أيها الملك إنه بعث فينا نبي نعرف صدقه وأمانته، وذكر بعد ذلك ذلك الحديث الطويل، وهكذا قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لنائب كسرى: إنه جاءنا نبي ونحن نأكل الميتة ونقتل ونئد الأولاد و.. و.. إلى آخره، فجاءنا رجل نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته، وذكر من ذلك هو كلام مفحم لكسرى أو لنائب كسرى أو لغيره، حاجه بشيء معروف بشيء واضح، فإن الأمر المعروف معروف، واضح للناس يجب أخذه والتعامل به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في أمر بر الوالدين: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[لقمان:14-15]، لتكن صحبتك لوالديك وللناس حسب المعروف شرعاً بدون مبالغة، وبدون إنزالهم منزلة الربوبية أو غير ذلك، وبدون أيضاً عقوق بالمعروف شرعاً، فالمعروف في عقوق الوالدين الإكرام وعدم التضجر منهما، قال الله: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾[الإسراء:23] هذا هو المعروف.

المعروف في حق الطاعة لولي الأمر أمر الوالدين أو لمن كان له حق الطاعة أن يكون في حدود الشيء المعروف، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس رجالاً ونساء على المعروف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الممتحنة:12]، يعني: ما فوق وسعهن، وكان يبايع الناس ويقول: بالمعروف كما في حديث جرير رضي الله عنه، قال: «إنما الطاعة في المعروف»، «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فالشيء المعروف مفحم، الشيء المعروف ملزم، الشيء المعروف هذا لا شك على أنه تفسيره وبيانه في كلمة معروف أمراً ونهياً حتى في الدعوة إلى الله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، المعروف هو الذي يؤمر به، والمنكر هو الذي ينهى عنه، وهذا سبب الفلاح أخذ المعروف والأمر به والثبات عليه، وقال: «يوشك أن يأتي زمان يختلف الناس فيصيرون هكذا ثم شبك بين أصابعه، قالوا: ما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون الذي تعرفون وتدعون الذي تنكرون».. الحديث، وأدلة ذلك كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإنما كما أشرنا.

ونسأل الله التوفيق.