الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

التأسيس لبيان أحكام وآداب المجالس والجليس

14-03-2009 | عدد المشاهدات 10713 | عدد التنزيلات 1318

بسم الله الرحمن الرحيم

[التأسيس لبيان أحكام وآداب المجالس والجليس]
خطبة جمعة بتاريخ: (17 محرم 1429هـ)
للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-
===============================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! إن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[البقرة:208].
في هذه الآية خاطب الله المؤمنين بالإيمان، وأمرهم بالدخول في السلم كافة جميعاً، أي: أنهم يأخذون الدين أخذاً كما أراد الله عز وجل، وأن من فرط في ذلك عمداً أنه متبع لخطوات الشيطان، وأنه متجاري مع أعدى الأعداء له، وأوضح الأعداء له: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[البقرة:208]، وهكذا ربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3].
ومما أتمه الله سبحانه وتعالى لنا هو آداب المجالس، بينه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران:191:190].. الآيات.
فأبان الله عز وجل ثناء عظيماً في هذه الآيات على من أعطى المجلس حقه، وهو أعظم حقوق المجالس ذكر الله عز وجل، فمن جلس يذكر الله فإنه جلس في مجلس يباهي الله سبحانه وتعالى به ملائكته، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قوم في مجلس فقال: « ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما من علينا به من الإسلام وهدانا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل، فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة»، هذا مجلس ذكر، هذا مجلس فيه تذكر نعم الله سبحانه وتعالى، هذا مجلس يباهي به الله الملائكة، هذا خير المجالس.
إن المجالس لا شك أن منها ما هو خير ومنها ما هو شر، ومنها بين ذلك من الأمور المباحة، وخير المجالس ما استغل في ذكر الله وطاعته، وخير المجالس ما كان على التفقه في دين الله فإنه مجلس ذكر، قال عطاء بن أبي رباح وغيره من أهل العلم: مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، والذاكرون الله كثيراً هم أهل هذه المجالس الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:35]، هكذا يقول النووي رحمه الله وغيره: أن الذاكرين الله كثيراً تشمل مجالس الذكر.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».
وله لفظ آخر بنحوه عن أبي سعيد و أبي هريرة بلفظ: «وما جلس قوم مجلساً يذكرون الله إلا نزلت عليهم السكينة».. الحديث.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ملائكة في الأرض سيارة تلتمس أماكن الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا من الأرض ومن ذلك المجلس إلى السماء الدنيا حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا..»، وهذا عدد كبير، وربما يكون المجلس يسيراً، ولكن فضل الله سبحانه وتعالى، يتنادى ملائكة الله الذين هيأهم الله عز وجل لهذا الشأن إلى ذلك المجلس ويملئون الأفق، وكلهم يستمع ذلك الذكر: «فإذا تفرقوا صعدت الملائكة إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: كيف تركتم عبادي أو من أين جئتم؟ فيقولون: جئننا من عند عباد لك يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: ماذا يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة ويستعيذونك من النار، ويقولون: فيهم فلان مر لحاجة، فيقول: غفرت لهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»، وإن كان مر لحاجة، لكن ذلك مجلس رحمة، ذلك مجلس فوز لا يشقى بهم جليسهم.
إن مثل هذه المجالس مجالس ترضي الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيحين من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حلقة مع أصحابه فجاء ثلاثة نفر، أما أحدهم فإنه رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس وراء الحلقة، وأما الثالث فولى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى حديثه مع أصحابه: ألا أنبئكم عن النفر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه»، وشاهدنا من الحديث أن مجالس الذكر مجالس إيواء الله سبحانه وتعالى للعبد، وإذا آواك الله لا ينفرك أحد، وإذا سكنك الله لا ينفرك أحد، وأنت مع الملائكة، وأنت في مجلس ذكر.
أيها الناس! إن هذه المجالس زهد فيها كثير من الناس والله لو كان يقسم في مثل هذه المجالس؛ في المجلس مائة ريال لكل من حضر المجلس ما اتسعت، ولكنه زهد في مجالس العلم والذكر، فإنها مجالس رحمة الله سبحانه وتعالى، ومجالس سكينته، ومجالس العلم والفقه في دينه.
هذا ومن أسوأ المجالس مجالس الكذب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه: «ويل للذي يكذب ليضحك الناس ويل له ثم ويل له»، فإن مجالس الكذب ربما تكلف فيها الكذب من أجل إضحاك الناس وتقسية قلوبهم، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي، وإن أسوأ المجالس مجالس الأهواء، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة)، وثبت عن أبي قلابة أنه قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء فإني أخشى أن يغمسوكم في البدعة أو يلبسوا عليكم دينكم)، مجالس الأهواء ومجالس أهل البدع مجالس سوء، مجالس شر، ولأن يبتعد الإنسان منها يكون قد ابتعد عن الفتن، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من استشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به»، هذه مجالس يستعاذ منها، وتتجنب؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة»، هذا مجلس شر، هذا مجلس حرق، هذا مجلس نار إي والله مجالس السوء، فقد ثبت أصله في سنن الترمذي و أبي داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن أحدهم كان يلقى الرجل على المنكر فينهاه، ثم يأتيه من الغد على الحال الذي وجده عليه فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وجليسه، فلما رأى الله عز وجل منهم ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم وقرأ ابن مسعود : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[المائدة:78-79]».
ومن أسوأ المجالس مجالس الزور، فقد نهى الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾[الفرقان:73:72]، هذا ثناء من الله على الذين لا يشهدون أماكن الزور ومجالس الزور ومجالس الفتن ومجالس قسوة القلوب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما يغضب الله سبحانه وتعالى.
مجالس الزور يجب البعد عنها، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة »، وما ذلك إلا لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولهذا لم يحضروا مجلساً فيه كلب ولا مجلساً فيه صورة، كل ذلك بعداً منهم عن مجالس الزور التي فيها الفتنة.
ومن أسوأ المجالس مجالس التناجي بالباطل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11]، وما ذكر العلم في سياق المجالس إلا لأن أماكن العلم هي أفضل مجلس على وجه الأرض، أماكن العلم أماكن الملائكة عليهم سلام الله، وهكذا أماكن العلم وأماكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله آداب عظيمة لهذه المجالس؛ ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله مجالسنا ما لنا منها بد، قال: إن أبيتم إلا الجلوس، فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكفى الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، هذه آداب من آداب المجالس لا ينبغي أن تهمل، من أهملها ضيع حقاً من حقوق الشريعة، ضيع حقاً بقدر تضييعه له يخسر وبقدر التزامه به يفلح، هذا من آداب المجالس، الذي يريد أن يجلس مجلساً يعطيه حقه.
رد السلام: فيفشي السلام إذا دخل وهكذا إذا قام من المجلس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم فليسلم ثم إذا انصرف فليسلم فليست الأولى بأحق من الثانية»، وفي الصحيحين: «أن رجلاً دخل المسجد فصلى ركعتين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، قال: ارجع فصل فإنك لم تصل».. الحديث شاهدنا منه: السلام وإفشاء السلام في المجالس، وأن يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتخطى رقاب الناس، ثبت عن سلمان في الصحيح أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تطهر الرجل يوم الجمعة ما استطاع من طهره، ثم ادهن ما استطاع من دهنه ثم أتى الجمعة لا يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين الجمعة».. الحديث، شاهدنا منه أدب من آداب المجالس، وأنه لا يفرق رأس هذا ولا يتخطى رقبة هذا، وإنما تخطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاب الناس في ذلك المجلس حتى فزعوا من سرعته لأمر مهم جلل: «صلى العصر عليه الصلاة والسلام، ثم انصرف يتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزعوا من سرعته، فلما رجع سألوه عن ذلك، فقال: ذكرت شيئاً من تبر فخشيت أن أقبض قبل أن أقسمه، فخرجت فأمرت بقسمته»، (شيء من تبر) من ذهب، لم يكن قد صنع ولا صلح، خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه الموت ولم يكن قد أوصاهم وأمرهم بتقسيم ذلك الشيء لمستحقيه، هذا أمر مهم خرج من أجله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تخطى الرقاب لمثل هذا الأمر المهم.
آداب عظيمة، ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه»، فإذا حصل مجلس فيه تناجي حصل أن ذلك المجلس لا بركة فيه، وأنه فيه معصية، وإذا حصل مجلس فيه ذكر الله، أو مجلس دبر صلاة إلى صلاة، فإن هذا مجلس خير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى جمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، وقال عليه الصلاة والسلام: «وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط»، أخبر أنه رباط، ويا لها من مثوبات في الرباط، فأنت مرابط وأنت جالس على فراش مسجدك على محل صلاتك، في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع الله بها له درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحسبه، والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه، يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه».
أتزهد أيها المسلم في مثل هذا المجلس في أن الملائكة تستغفر لك؟! ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾[غافر:7]، وهذه المجالس من اتباع سبيل الله، ومن أسباب استغفار الملائكة.
ألا فالبدار البدار أيها الناس، والحذر الحذر من مجالس السوء.. ومن مجالس الفتنة.. ومن مجالس الزور.. ومن مجالس الفراغ التي لا ذكر فيها، ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم يوم القيامة حسرة»، وليس في الجنة، ولكن يوم القيامة يندمون على تضييع الأوقات وعلى كثرة الحسرات، وعلى التفريط فيما حصل منهم في هذه الحياة الدنيا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! إن هذه الحياة هي قيام وقعود واضطجاع وحركات وسكنات، فمن فرط في حركاته وسكناته وقيامه وقعوده فرط في حياته، ومن استغل ذلك في طاعة الله استغل حياته، وإن هذه المجالس التي هي لها آداب وأحكام ولها أمور كثيرة مدونة في أبوابها لينبغي التفقه فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله معطي».
ومن تلك الآداب: أن لا يؤذي الجليس جليسه، سواء برفع صوته عليه بالقراءة أو كان بأكل الثوم والبصل، أو برائحة كريهة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا »، وقال عليه الصلاة والسلام: « إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وهكذا لا يؤذي جليسه برفع صوته عليه، «فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي من الليل فيرد السلام يسمع اليقظان ولا يوقظ نائماً»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن فكلكم يناجي ربه»، والله عز وجل قد أخبر عن أدب من أدب المجالس أوصى به لقمان عليه السلام ولده قال: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾[لقمان:19:17].
اشتملت هذه الوصية على أمرين:
الأمر الأول: أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك.
والأمر الثاني: أنك تخفض صوتك، فإن ذلك -رفع الصوت- من أنكر الأصوات.
فيا لها من وصية عظيمة! ثبت من حديث جابر بن سليم رضي الله عنه: أنه أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بوصايا، ومنها، قال: « وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، فإن ذلك من المعروف»، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجه طليق»، هذا من أدب الجليس والمجالس.
«ولا تفرق بين اثنين»، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهكذا لا يكون الإنسان سيئ الخلق مع جليسه فإن ذلك مجلس سوء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قالوا: يا رسول عرفنا الثرثارون -على الحكاية- والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»، هذا مجلس كبر ليس فيه سكينة وليس فيه خطاب حسن، إن من أدب المجالس حسن الخطاب: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾[الإسراء:53]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة:83]، وأن تأتي إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك، هذا من أدب المجالس.
ومن آدب المجالس أيضاً: أن الإنسان إذا جلس مجلساً يتأسى فيه برسول صلى الله عليه وسلم بملازمة الصمت، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، ولمن يقول الخير إلا لجليسه وإلا سكت عن الشر: (قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم).
أمر بمعروف، نهي عن منكر فعل خير وإلا فالسكوت أسلم عند الجليس، وهل يحصل الزلل وهل يحصل الخطل، وهل يحصل الهفو إلا في المجالس، وسواء كانت في مجالس المبطلين أو في مجالس الصالحين، وأسوأ ما يكون من المجالس مجالس أهل الجدل: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا تجد مجالسهم إلا مجالس جدل: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام:68].
من أدب المجالس السلام حتى على الأخلاط: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط فسلم عليهم»، والقصد من ذلك السلام على المؤمنين هذا باب واسع جميل، باب واسع فقهي طيب يحتاج إلى العناية به، سواء أكنت طالب علم أو غير طالب، فإن هذا من الدين: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». ا.هـ