الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

التقرب إلى المعبود بكثرة السجود

15-03-2009 | عدد المشاهدات 16393 | عدد التنزيلات 1504
[التقرب إلى المعبود بكثرة السجود]
خطبة جمعة بتاريخ: (2/ 5/ 1428هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
======================================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أيها الناس! إن أعظم ما يكتسبه الإنسان في هذه الحياة وأجل ما يدخره، هو تعبده لرب العالمين سبحانه وتعالى، وليس هناك أي فائدة يستفيدها في هذه الحياة إن لم يحقق التعبد والتذلل والخضوع لله عز وجل؛ بل لا تكون حياته ولا يكون عمره عليه إلا وبالاً وخزياً: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾[آل عمران:192]، فليس هناك حياة طيبة ولا سعادة دنيوية ولا أخروية إلا بالتذلل لله سبحانه وتعالى والتعبد له، والخضوع له عز وجل والانقياد والاطراح بين يديه سبحانه والاستسلام وتفويض الأمر لله عز وجل، هذا هو الدين، هذه هي العبادة، غاية: غاية حب الله سبحانه وتعالى مع غاية الذل لله عز وجل ومدار ذلك على الأمر والنهي، وليس على الذوق، ولا على الاستحسان ولكن على ما أمر الله عز وجل به في كتابه أو في سنة نبيه، وما نهى الله عز وجل عنه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن حقق ذلك وجد سعادة على أي حال يكون لا شك أنه في نعمة، وإن أعظم العبادة وأعظم التذلل وأجل ذلك بعد توحيد الله عز وجل: هو السجود لله سبحانه وتعالى والخضوع لله، فالسجود تذلل لله، تعبد لله، خضوع لله، إذعان لله سبحانه وتعالى، انطراح بين يديه، يقول الله سبحانه وتعالى مبيناً في كتابه: أن السجود تذلل لله عز وجل، والله عز وجل يعز ويرفع العبد بقدر ذله وخضوعه وطاعته وانطراحه له سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[فصلت:37]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾[الأعراف:206]، إن استكبر أناس عن السجود لله عز وجل فإن لله خلقاً لا يحصي عددهم إلا هو وهم سجود لله، خاضعون لله سبحانه وتعالى، ذليلون لله سبحانه وتعالى: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر –أو قال: قدم- إلا وملك خاضع لله سبحانه وتعالى ساجد له»، فالله غني عنا، إن لم تسجد أنت أيها المؤمن، إن لم تذل أنت أيها العبد فالله غني عنك، وله من خلقه ما يسجد ويركع ليلاً ونهاراً، وليس محتاجاً إلى أحد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾[فاطر:15-17]، السجود لله سبحانه وتعالى يرفع به عباداً ويذل له آخرين، من تواضع لله وخضع له وامتثل وذل وسجد لله رفعه الله، ومن امتنع وأبى أذله الله، وكانت هلكة إبليس عليه لعائن الله؛ بسبب امتناعه عن هذا التذلل لله عز وجل، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:34]، وقال عز وجل: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾[الكهف:50]، وقال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾[طه:116-117]، كل هذه الآيات تدل على أن إبليس طرده الله عز وجل من الجنة، وأهبطه منها، وحكم عليه بالكفر، ولعنه، وأذله وجعله من أهل النار؛ بسبب عدم سجوده لله سبحانه وتعالى، وبنو إسرائيل أراد الله منهم على لسان نبيهم أن يسجدوا لله فيتوب الله عليهم فأبوا، فكانوا من الكافرين الذين أولئك الذين ذكر الله عز وجل عنهم: ﴿.. ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾[البقرة:58-59]، السجود لله سبحانه وتعالى راحة، السجود لله سبحانه وتعالى عز، هو دأب الصالحين، هو شأن الأنبياء والمرسلين، ذكر الله عز وجل في سورة مريم عدداً من أنبياء الله ورسله ثم قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[مريم:58]، يسمعون الآيات تتلى عليهم ما يقابلونها بالإعراض، ولكنها تؤثر فيهم خشية ويخرون سجداً لله، وقال عز وجل: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[الإسراء:107-109]، هذا دليل على أن سجود التلاوة، أو السجود بشكل عام أنه كان في الشرع الماضي، وأن الله سبحانه وتعالى أثنى على أولئك الصالحين به، وبسجودهم لله سبحانه وتعالى، وأثنى الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29]، هذه مزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أنهم على الكفار أسود شرع، وأنهم فيما بينهم رحماء: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح:29]، وقال سبحانه: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[التوبة:112]، هذا هو شأن المؤمنين: السجود لله سبحانه وتعالى والخضوع له، السجود لله عز وجل، والخضوع لله سبحانه وتعالى، خلق الله الكون من أجله، من أجل أن يخضعوا له سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[النحل:48-50]، كل شيء وظله يسجد لله سبحانه وتعالى، كل مخلوق وكل ظل لمخلوق يسجد لله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾[الرعد:15]، فمنهم من يسجد طوعاً ويستفيد أجوراً، ومنهم من هو مجبول على ذلك من الحيوانات والأشجار والأحجار سجد لله سبحانه وتعالى تسجد لله، طائعة ذليلة خاضعة لله عز وجل، ومن هم من لا يسجد لله طوعاً ولكن هو ساجد ذليل لله شاء أم أبى، ومعذب على إبائه للسجود الطوعي، نعم.
والذي ما يسجد طوعاً في هذه الحياة الدنيا من المكلفين يتمنى يوم القيامة أن يسجد فلا يستطيع، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[القلم:42-45]، انظر على تهديد من رب العالمين سبحانه وتعالى للذي لا يسجد لله سبحانه.
أيها الناس! إن أمر السجود لله سبحانه وتعالى رفعة، عزة، طمأنينة للعبد، يرفع الله العبد بقدر سجوده وتذللـه، كما ثبت ذلك عن ثوبان بن بجدد عند الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» أي سجدة تسجدها، سواء كانت تلك السجدة فرضاً أو نفلاً سواء كانت تلك السجدة لتلاوة أو لسهوٍ، سواء كانت تلك السجدة في أي حالة لشكر.. إلى غير ذلك.
وثبت عند الإمام مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: «كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم بوضوئه وحاجته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سلني يا ربيعة ! قال: قلت يا رسول الله: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أَوَ غير ذلك؟ قال: قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود»، وأنت أيها المسلم إذا أردت مرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ بهذه النصيحة، أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسك بكثرة السجود حتى تكون رفيقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء:69]، السجود لله سبحانه وتعالى يرضي الرحمن ويبكي الشيطان، فقد ثبت عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار»، يبكي ويعلم أن مآله وأنه راجع إلى النار؛ لأنه أبى السجود، ويعلم أن ابن آدم هو الفائز المفلح؛ لأنه سجد وخضع لله سبحانه وتعالى.
السجود لله سبحانه وتعالى قربة إلى الله، ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم»، كلما سجد الإنسان كان قريباً إلى ربه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، هذا كله لفضل السجود، وهذا الحديث يدل على أن السجود لا ينبغي أن يكون قصيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فاجتهدوا فيه في الدعاء»، والاجتهاد في الدعاء لا يسعه الوقت القصير، يحتاج إلى أن الإنسان يكثر من الدعاء في ذلك الوقت؛ لأن الله عز وجل قريب منه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فقمن -أي: فجدير وحري- أن يستجاب لكم»، فأكثر من ذكر الله عز وجل ومن دعائه في السجود الدعاء الذي لا اعتداء فيه ولا بغي فيه، ولا جرم فيه، بذلك تكون إن شاء الله مقبولاً ودعاؤك مقبول.
السجود لله سبحانه وتعالى مرغمة للشيطان، فقد ثبت عند أبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «سمى سجدتي السهو المرغمتين»؛ لأنها ترغم الشيطان، وقال: «إذا سها أحدكم فليتحر الصواب، وليسجد سجدتي السهو»، لا يملك إلا ذلك، إذا تسلط الشيطان على الإنسان فجعله يسهو في صلاته بذلك الحال يستطيع أن يرغم الشيطان بسجدتين لله عز وجل يجبر بها صلاته ويرغم بها الشيطان ولا يضره الشيطان بإذن الله عز وجل؛ لأنه خضع لله، وفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، السجود لله حتى وإن كان خفيفاً فإنه محسوب عند الله، ثبت من حديث الأحنف بن قيس عند الإمام أحمد رحمة الله عليه: «أنه دخل بيت المقدس فرأى رجلاً يكثر السجود، فلما انصرف قال: أيها الرجل انصرفت على شفع أم وتر؟» بمعنى: أنه يسرع في سجوده ولكن لا يخل: «.. قال: أتدري انصرفت على شفع أو وتر، قال: إن كنت لا أدري فالله يدري؟ حدثني حبي ثم بكى، ثم قال: حدثني حبي ثم بكى، ثم قال: حدثني حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة، ثم قال له الأحنف: من أنت أيها الرجل؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فتقاصرت لي نفسي»، يعني: بعد أن علم أنه أبو ذر تقاصرت نفس الأحنف رحمة الله عليه بجانب أبي ذر ، بجانب ذلك الرجل العابد.. ذلك الرجل الزاهد.. ذلك الرجل الورع عليه رضوان الله وعلى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم، هذا هو شأن السجود لله سبحانه وتعالى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير السجود، كثير الركوع، قال الله عز وجل لمريم عليها السلام: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[آل عمران:43]، أمرها الله أن تكثر السجود، هذا الدليل تضمن كثرة السجود، فإن ذلك هو التعبد لله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثراً.
أما بعد:
فإذا حزبك أمر أيها المسلم من هم أو غيره عالج ذلك الهم، عالجه وأعظم ما تعالجه بالسجود لله سبحانه وتعالى، ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إذا حزبه أمر، قال: يا بلال أرحنا بالصلاة»، والصلاة متضمنة للخشوع وتلاوة القرآن والركوع والسجود، وأرشده ربه عز وجل إلى ذلك قائلاً: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر:97-99]، فإذا أنت في مثل هذا الحال –أي: من الضيق- فإنك إذا دخلت في الصلاة وإنك إذا سجدت لربك الله سبحانه وتعالى يقبل عليك، ويفتح عليك من محامده وحسن الثناء عليه، ويفتح عليك من فضله: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[المنافقون:7]، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ..﴾[آل عمران:26] الآيات، إذا استجدت عليك نعمة، وحصلت لك منة من الله سبحانه وتعالى فقابل تلك النعمة بشكره عز وجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه مكة دخل وهو منكس رأسه خاضعاً لله عز وجل، ولما بشر بإسلام همدان سجد لله شكراً: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بشر بأمر يسره سجد لله»، قل من تجد من المسلمين يعمل بهذه السنة الحميدة وهو سجود الشكر لله سبحانه وتعالى، ولا يستكثر ذلك على نفسه، وليس هذا السجود في مسرة دون مسرة، بل كل مسرة وكل بشرى لك من الخير قابلها بالسجود لله سبحانه وتعالى؛ لأن تلك نعمة تحتاج منك إلى شكر، وأعظم ما تشكر به ربك التذلل له والخضعان له، و كعب بن مالك رضي الله عنه حين سمع صوت الصارخ يذكر أن الله قد تاب عليه: (أبشر يا كعب بن مالك بتوبة الله عليك خر ساجداً لله عز وجل) والحديث في الصحيحين.
وعلى هذا: فسجود الشكر لله عز وجل ثابت قطعاً عن كعب بن مالك في الصحيحين في زمن الوحي، اعتبر ذلك عبادة لله عز وجل وشكراً لله عز وجل ولم ينزل الوحي بتخطئته في ذلك؛ بل نزل بتوبة الله عليه، وبالثناء عليه بصبره، وبالثناء عليه بتوبته، وبالثناء عليه بشكره إلى آخر الآيات.
وثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسجد لله شكراً عند أنت تحصل له مسرة أو يبشر بخير، والله سبحانه وتعالى قد أثنى عليه بذلك ودافع الله سبحانه وتعالى عنه حين كان يخرج يؤثر وجهه في الحرم في مكة بجانب الكعبة في زمن الخوف، في زمن الأعداء في الأندية بسيوفهم، برمحاهم وعتادهم، ورجالهم وهو وحيد، ولكن مع ذلك يخرج يعفر وجهه معتمداً على الله سبحانه وتعالى.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا جهل قال: «محمد يعثر وجهه بجانب البيت وأنتم تنظرون، لئن خرج محمد يعثر وجهه لأطأن على رقبته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يصلي فأراد أبو جهل أن يطأ على رقبته، فما إن قرب قليلاً حتى جعل ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قالوا: ما لك؟ قال: لقد رأيت خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله لو دنى مني لتخطفته الملائكة عضواً عضواً، فأنزل الله عز وجل (1): ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾[العلق:9-19]».ا.هـ
_______
(1) قال الشيخ يحيى حفظه الله هنا: ونحن إن شاء الله عند هذه الآيات سنسجد وتسجدون ثم تقام الصلاة، بعد ذلك.ا.هـ (ونهاية الخطبة نهاية هذه الآيات).