الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

فضل الأمناء وبيان ما لهم من المناقب والثناء

15-03-2009 | عدد المشاهدات 7937 | عدد التنزيلات 1193

[فضل الأمناء وبيان ما لهم من المناقب والثناء(136)]

خطبة جمعة: (11/ربيع الأول/1428هـ)
(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
=============================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! إن الذي خلق هذه البرية، إن الذي خلق هذا الإنسان سبحانه وتعالى هو الذي حمله أمانة لم تطق حملها الجبال، بل ولا السماوات ولا الأرض, وكان هذا الحمل الذي حمله الإنسان فعلاً أنه حمل ثقيل، ولكن الجزاء عليه عظيم لمن قام به، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[الأحزاب:72], ثم أتبع هذه الآية بمن علمت خيانتهم في الدين، فقال: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الأحزاب:73], فهذا حمل ثقيل جداً، يحتاج من المسلم الذي قد ابتلي بهذه البلوى أن يصبر على ذلك حتى ينال الدرجات العظيمة، يقول الله سبحانه في كتابه الكريم آمراً بأداء الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[النساء:58].
وقد اشتملت هذه الآية على أن من أدى الأمانة سواء كان فيما عنده من الديون والأمانات والودائع أو كان في حكمه فيما بينه وبين الله، وبينه وبين عباد الله، يكون حكماً قسطاً على نفسه، ملزماً لها بتوحيد الله عز وجل، مؤدباً لها بأداء الواجبات والفرائض، مبعداً لها عن المنكرات والمحرمات، هذا هو امتثال أمر الله بأداء الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾[النساء:58], هذه موعظة من ربنا سبحانه وتعالى ونعمة الموعظة، وعقب ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[النساء:58], فهو سميع سبحانه وتعالى لمن قال بغير أمانة، وبصير سبحانه وتعالى لمن فعل مخالفاً للأمانة، ولهذا فأمر الناس بالأمانة من قديم إلى قسمين ذكر الله ذلك في كتابه الكريم، فقال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾[آل عمران:75], وأبان أن هذا الصنف الأخير يستبيح ذلك بتأويلات من تأولات اليهود، قال الله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾[آل عمران:75], وأكذبهم في ذلك فقال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[آل عمران:75], ومعنى ذلك: أنه لا حرج علينا في أخذ أموال الأميين والاحتيال عليهم وخيانتهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾[آل عمران:75], وبقي تكذيبهم مدوناً في كتاب الله يقرأه كل من قرأ ذلك: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[آل عمران:75].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, بيان فضل الأمانة، وأن الأمانة توفر على الإنسان راحة الصدر وطمأنينة في القلب، والرضا بأقدار الله عز وجل، ففيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشترى رجل عقاراً من رجل آخر فوجد في ذلك العقار ذهباً، فجاء إلى صاحب الأرض وقال: خذ ذهبك، إنما اشتريت منك الأرض، وقال البائع: إنما بعتك الأرض ومن فيها», الكل عنده زهد، والكل عنده أمانة، تلك الأمانة جعلت في صدورهم الراحة وعدم التهالك على ذلك المال والمشاجرة وربما المقاتلة.
«فتحاكما إلى رجل فقضى بينهما، قال لأحدهما: ألك ولد؟ قال: نعم، وقال للآخر: ألك جارية؟ قال: نعم، فقال: أنكحا الغلام الجارية وأنفقا عليهما وتصدقا من ذلك الكنز», واستراح الرجلان، صاح البائع والمشتري من ذلك الكنز؛ بسبب الأمانة التي كانت عندهما.
إن أمر الأمانة أمر عظيم جداً، في صحيح البخاري تعليقاً، واتصل عند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً أراد من رجل ديناً ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء، وائتني بالكفيل، قال: كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً، فرضي بذلك, ودفع إليه الألف الدينار، ثم انطلق الرجل إلى موعد يأتي به صاحب المال، فلما حان الأجل التمس مركباً يركبه في البحر ليذهب بالمال إلى صاحبه فلم يجده، فقال: اللهم إني قلت لذلك الرجل: اقرضني ألف دينار، فقال: ائتني بالكفيل والشهيد، فقلت: كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً فرضي بذلك، وإني لم أجد مركباً لأؤدي إليه ماله في الأجل، ثم نقر خشبة وجعل فيها الألف الدينار، وجعل فيها كتاباً إلى صاحب المال، وزج بها في البحر، فحملها البحر إلى صاحبها، وذهب ذلك على شاطئ البحر ينتظر الأجل، وينظر مركباً يقدم عل صاحبه صاحب الألف يقدم بماله، فلم يرَ شيئاً ووجد خشبة فحملها إلى أهله حطباً، ولما شقها وجد فيها الألف الدينار والرسالة من صاحبه, -ذلك الرجل الأمين أدى الله عنه-، والتمس الرجل مركباً أيضاً فوجد المركب وسافر بالمال إلى صاحبه، ثم قال: إني لم أجد مركباً إلا الآن، وقد جئتك بالألف الدينار, وجاءت الأمانة أيضاً من صاحب المال، قال: هل كنت أرسلت مالاً في خشبة؟ قال: أقول لك إني لم أجد مركباً إلا هذا الوقت من ذلك الوقت من حين الأجل، فقال: إن الله قد أدى عنك، وإن المال الذي أرسلته في الخشبة مع ذلك الكتاب قد وصل -وقد أدى الله عنك-».
شاهدنا: أن من كان مع الله ولازم الأمانة أنه يفلح فعلاً أنه يفلح، فيسير بذلك من المفلحين ومن الممكنين، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾[المؤمنون:1].. إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[المؤمنون:8].
هؤلاء هم المفلحون الذي يرعى أمانته ويرعى عهده في كل صغيرة وكبيرة؛ في غسله من الجنابة أمانة، في وضوئه أمانة، في صلاته أمانة، في زكاته أمانة، بين جيرانه وأهله أمانة، مع الناس أمانة، في ديونه أمانة، لا تنفك الحياة عن الأمانة أبداً, ومن تخلخلت أمانته تخلخل دينه, لذا اختار الله عز وجل لحمل دينه الأمناء الذين يوصلون إلى الناس الدين صافياً نقياً سليماً من شوائب المخالفات مبلغين عن رب العالمين سبحانه وتعالى ما أراد, ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أنه قسم مالاً بين الناس، فقال بعضهم: والله لكنا أحق بهذا منهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء».
وهكذا فيهما من حديث أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه: أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم» أي: لا تتبعوا دين أبائكم الباطل، شركيات «ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة وأداء الأمانة».
من أول يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه ويهذب أخلاقهم على الأمانة، ما إن يسلم الإنسان إلا وهو يدعوه إلى هذه الأمور ومنها أداء الأمانة, فمن استقامت أمانته صلح حاله، ومن ذهبت أمانته ذهب دينه، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر الرجل من عنده يستودع الله أمانته، يقول: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك»، لتعلموا أن الإنسان في سفره وحضره لو ضعفت أمانته ضعف دينه لهذا الحديث العظيم.
ولو قرأت سورة الشعراء مع التأمل والتدبر ترى أن الله عز وجل قد ذكر عن كل نبي، وأن كل نبي يأتي قومه، يقول كما أخبر الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الشعراء:105-109], يذكر لهم ثلاثة أمور تمهيدية لدعوته حتى يعلم لهم الثقة في ذلك، فإن الناس لا يثقون بإنسان ليس بأمين، يذكر لهم ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تذكيرهم بالله سبحانه، وتقواه سبحانه وتعالى والتخويف به: ﴿أَلا تَتَّقُونَ﴾[الشعراء:106].
الأمر الثاني: أنه رسول أمين، وأنه جاءهم بأمانة، ومبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: أنه ما يريد ما في أيديهم، ولا يتطلع إلى أموالهم، ولا يسألهم أجراً على دعوته، وليس بحاجة إليهم، هم بحاجة إليه أكثر من حاجته إليهم في دنياهم.
﴿أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾[الشعراء:106-108], وإذا أطاعوه هل المقصود من ذلك العطايا، هل المقصود من ذلك ما يهدف إليه الكثير من ملوكهم من الدنيا؟ أبداً:﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الشعراء: -109], وكذا قال هود: قال الله: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الشعراء: 123-127], ثم شرع في دعوته بعد أن مهد لهم وأخبرهم أن هذه هي دعوته، وأن هذا هو خلقه: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾[الشعراء:128-129].
الناس لا يقبلون من الخونة، إنما يقبلون من الأمناء, ومع ذلك جابهوا هؤلاء الأمناء بالمخالفات، بل قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾[الأعراف:66-68].
وهكذا يوسف عليه الصلاة والسلام, وقصته والله لهي عبرة بليغة، وفيها غاية وقمة في الأمانة في ذلك الزمن، وقد نجى الله يوسف عليه الصلاة والسلام من مضايق شديدة بسبب أمانته التي مكنه الله منها، وجعله بعد ذلك السجن كله، وبعد ذلك الابتلاء كله على خزائن الملك, ومعلوم ما ذكره الله عز وجل عنه من الابتلاء وأذية النساء، ومراودة تلك المرأة؛ امرأة العزيز له، وهو يقول: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[يوسف:23], وليس المقصود إلا أن ذلك العزيز أكرمه وأحسن إليه، فلا أقابل هذا الإحسان بالخيانة في أهله: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[يوسف:23], وبعد ذلك لا يزال الكيد والمكر بيوسف حتى تمالأ عليه نسوة: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾[يوسف:30-32], ولا تزال بعده هي، ويساندنها تلك النسوة التي فتن به أيضاً، حتى دخل السجن: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾[يوسف:42], وبعد ذلك تقول المرأة: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾[يوسف:51-52], والله ما هو إلا فرج من الله وإلا فقد خانت، ولكن الله أبى إلا أن يفرج عن يوسف، ولما جاء هذا الاعتراف وبرئت ساحة يوسف عن تلك الخيانة، وعلم أنه قمة في الأمانة، ما كان من الملك إلا أن يقربه: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾[يوسف:54-55], وإلا فهو أراد أن يكون أرفع من ذلك الموضع: ﴿مَكِينٌ أَمِينٌ﴾[يوسف:54].
نعم عباد الله! أنبياء الله اختارهم الله سبحانه وتعالى ذروة الأمناء، موسى عليه الصلاة والسلام خرج هارباً إلى مصر، ولما وصل إلى مصر: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ[القصص:23], شيخ كبير لا يستطيع إيراد الغنم، والمرأتان عفيفتان عزيزتان لا تريد المخالطة بين الرجال، ولهذا يبقيان معتزلتان حتى يصدر الناس: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[القصص:24-25], ثم رأت منه تلك المرأة أمانة وعفة، أمانة وعزة، وعدم تطلع إلى النساء، قالت: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾[القصص:26].. إلى آخر ما ذكره الله في كتابه من أمانة موسى عليه الصلاة والسلام.
عباد الله! هذا هو سر عز الإنسان، الأمانة سر عز الإنسان، الأمانة في المشورة، فإن من استشاره أخوه فأشاره بغير رشد فقد خانه، هذا ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, الأمانة في الأولاد والأهل وفي المال، فقد ثبت من حديث جابر الطويل في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأوصيكم بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله», «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته», والله ما تظهر الفتن والقلاقل والخلافات والزعزعة والقلقلة بين الناس والشحناء والبغضاء إلا ولقلة الأمانة في ذلك أعظم مدخل، وهل تقوم الانقلابات بين الدول، وهل تقوم أيضاً الخيانات في بيع الشعوب، وهل تقوم كل هذه المضرات إلا بزعزعة الأمانة وبإبعاد الأمناء عن مواطنهم الحقيقية، في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في أصحابه، فجاء رجل من الأعراب، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأقبل على كلامه، فلما فرغ من كلامه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة», هذه علامة من علامة تدمير الدنيا، وزوال الدنيا إذا ضيعت الأمانة: «قال: ومتى إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة», هذه آية من آيات قيام الساعة، علامة من علامتها، وعند الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قبل الساعة سنوات خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويؤتمن الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة», هذا الذي شاهدناه نحن الآن في السنوات الخداعة، الذي يقول فيها قال الله قال رسوله، ينصح فيها، يبين الحق من الباطل، يدل على الهدى والرشد، يدعو إلى التوحيد، إلى السنة، قام عليه الخونة من كل حدب وصوب يتهمونه في أقواله أفعاله ودينه.
هذه السنوات الخداعة: «ولا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم».
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طبية نفسه أحد المتصدقين»، هو ما بذل من ماله شيئاً، ومع ذلك إذا لازم الأمانة صار كالذي يتصدق بماله وخالص ماله.
وهكذا يقول عليه الصلاة والسلام: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك», ومن المعلوم حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من أهل النار الخمسة الذي هو ضعيف الأمانة لا يظهر له طمع إلا خانه وإن دق»، فهذه ليست صفات المؤمنين، ليست صفات الأمناء، ليست صفات مثل أبي عبيدة رضي الله عنه الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل أمة أمين، وأميننا هذه الأمة أبو عبيدة», وصار هذا الثناء الحسن لا يقرؤه صالح ناصح إلا أحب أبا عبيدة، أي إنسان في قلبه خير وإيمان يقرأ هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دخل حب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في أعماق قلبه؛ لأنه أمين، وأمر الخيانة -عباد الله- مذمومة في هذا الدين في كل زمان ومكان، حتى عند الفجرة وعند الكفرة، ولهذا قريش كانوا يعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة ويقدرون له هذا الخير فيه، ويلقبونه بالصادق الأمين قبل أن يدعوهم وقبل أن يبعث وهو ملقب عندهم بذلك، وذلك الرجل الذي كان يحث قومه على مال صدقة، فإذا جمعت صدقة ادخرها ولم يعط حسبما ائتمن عليه، لما مات.. قال سلمان الفارسي: هذا رجل ليس بأمين، كان يأمركم بالصدقة، فإذا تصدقتم ادخر ذلك وتعالوا أريكم كنزه، ولما أراهم كنزه لم تسمح نفوسهم أن تدفنوه؛ وأحرقوه بالنار أو ألقوه بغير دفن، لم تسمح نفوسهم أن يدفنوه بدلاً من أنهم كانوا يجلونه ويحترمونه، وهو عند ثقتهم في ذلك الزمن.
عباد الله! إن أن أمر الأمانة من أهمه إصلاح العقيدة بينك وبين ربك سبحانه وتعالى، ودعوة الناس إلى هذا الأمر المهم، فلأن يفقد الناس سائر أموالهم أهون عليهم من أن يفقدوا دينهم وعقيدتهم الصحيحة، وإن من أشد الخيانة زعزعة عقيدة المسلمين، وزعزعة إيمان ودين المسلمين، سواء على حساب دنيا أو على غيرها.
هذا أمر يجب على المسلم أن يلحظه وأن يتقي الله سبحانه وتعالى، ولا تتحقق تقوى الإنسان إلا بقدر ما عنده من الأمانة التي يلازمها في أقواله وفي أفعاله؛ فالصدق أمانة، وفي ليلك أمانة وفي نهارك.. من الذي يطلع عليك، من الذي يطلع على صومك، من الذي يطلع على طهورك وغسلك من الجنابة، من الذي يطلع على رعايتك لأبنائك، من الذي يطلع؟ إلا الله سبحانه وتعالى، فقد ركب الله الأمانة في الإنسان بها يعز إن هو قام بها، وبها يذل إن هو أعرض عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين قال يا رسول الله استعملني، قال: «يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى حق الله فيها»، فيا هول المصيبة الذين يتولون الإمارة، ثم تضعف أمانتهم من خزي يوم القيامة، ومن الفتنة التي تقوم عليهم في ذلك اليوم: «ما من غادر إلا وغدرته عند إسته، هذه غدرة فلان ابن فلان»، في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «علامة المنافق ثلاث، وذكر منها:.. إذا اؤتمن خان»، وفيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
فالله الله أيها الناس في الأمانة، من أراد لنفسه الخير فليلزمها، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.