الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

تحذير الخلق من كتمان العلم والحق

16-03-2009 | عدد المشاهدات 12288 | عدد التنزيلات 1442


[تحذير الخلق من كتمان العلم والحق(131)]

خطبة جمعة: (24/ 11/ 1427هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
=================================
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! لقد أكرم الله هذه الأمة كرامة عظيمة لم تحصل عليها أمة من الأمم، فقال في كتابه الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾[آل عمران:110-111]، ففي هذه الآية مع بيان فضيلة هذه الأمة، فيه توبيخ للذين ما كانوا على هذه الخيرية ولم يحصلوا عليها؛ بسبب بعدهم، وفيه أيضاً إعلام من الله عز وجل أن الحسد سيحملهم على مقاتلة هذه الأمة وأذيتها، ولن يحصل لهذه الأمة ضرر بإذن الله عز وجل، وثبت من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم أكرمها وأبرها عند الله عز وجل}، وثبت من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عند الإمام ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف فثمانون صفاً من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم –من الأمم الأخرى-}، ولهذا فإن هذه الأمة تدخل الجنة أول الأمم، وتحاسب أول الأمم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، وقال: إني فرطكم على الحوض}، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل، والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط، إذ رفع لي سواد عظيم، فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل: هذه أمتك، ومعها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب}، ولم يذكر من سائر الأمم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب من هذه الأمة، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاض الناس في هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فخرج عليهم فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون}، وفي الصحيحين حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولا تزال طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى قيام الساعة}، وهذه الطائفة ليست في أمة من الأمم الماضية، وإنما هي في هذه الأمة المرحومة، الأمة المكرمة من الله، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول له: هل بلغت؟ يجيب: بـ(لبيك وسعديك)، ثم يقول: نعم، يا رب، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا لك من نذير}، أو ينكروا أنه لم يبلغهم، فتشهد هذه الأمة أن نوحاً بلغ قومه تصديقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة:143]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عدلاً خياراً} الوسط: العدل الخيار.
فهذه الأمة تمتاز بالعدالة وبالخيرية على سائر الأمم، والذي جعلها تمتاز بالعدالة والخيرية على هذه الأمم هو بذلها للحق، وإقامتها وإنصافها بالحق، امتثالاً لقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء:135]، وهذا تهديد من الله عز وجل لمن لوى أو عدل، وإنما حصل في هذه الأمة أو في بعضها تقليد للكافرين، خلل ما بهم من الإنصاف والعدل على غير ما هم مجبولون عليه وما أثنى عليه سبحانه وتعالى به عليهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله: اليهود و النصارى ؟ قال: فمن القوم إلا هم..} الحديث، وهذا من دلائل نبوته الأمر الذي حصل مطابقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد علمتم مناهي رب العالمين ورسوله الأمين عن التشبه بالكافرين سواء كان هؤلاء الكافرون من الأعاجم الذين هم فارس والروم، أو كانوا من أهل الكتاب الذين هم اليهود و النصارى أو كانوا من الأميين الجاهلين الذين هم العرب أصحاب الوثنية والشركيات، فكل ذلك منهي عن التشبه بهم: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[الروم:31-32]، وهذا شامل لجميع المشركين، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾[النساء:144]، وهذا تهديد من رب العالمين عز وجل لمن والى الكافرين: أن الله عز وجل سينتقم منه: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾[النساء:144]، ولله عز وجل عظيم السلطان على عباده، فإنه خلهم وأوجدهم من عدم، ويحيهم يميتهم ويفعل ما يشاء في سائر مخلوقاته، ولكن هذا على سياق التهديد، ولقد أبان أهل العلم أن التشبه حصل في هذه الأمة من وجوه –أعني: بالأمم الماضية- ومن تلك الوجوه: كتمان العلم، كتمان العلم حصل في هذه الأمة، إنما هو تشبه بالأمم الماضية فقد كانوا يكتمون العلم إما بخلاً به، يكتمون العلم وهكذا أيضاً العطاء، وكل ذلك بخلاً به، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾[النساء:37]، وبين الله أنهم يكتمون فضل الله الذي آتاه إياه، سواء كان علماً أو مالاً أو غير ذلك بخلاً به على الناس، وإما أن يكتموا ذلك اعتياضاً عنه بالدنيا: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾[البقرة:79]، يكتمون العلم ويبرزون الكذب، والقصد من ذلك أن يحصل لهم شيء من نزر الدنيا، ثمناً قليل، وإما أن يكتموا العلم خشية أن يحتج عليهم بذلك العلم، خوفاً من احتجاج الناس عليهم بما علموه منهم، قال الله عز وجل: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾[البقرة:75-77]، وأما أن يكتموا العلم عناداً: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:89]، استحقوا لعنة الله بسبب كتمانهم للعلم، وقد كانوا يستفتحون على المشركين به ويناظرون المشركين: أنه سيخرج نبي وسنقاتلكم نحن وهو، فلما خرج ذلك النبي وبعث من العرب كتموا ذلك العلم الذي عندهم: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:89]، إنما حملهم على ذلك كتمان العلم أنه لم يكن منهم، وإما أن يكون سببه البغي والعدوان والظلم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[النمل:13-14]، هم يعرفون أن هذا هو الحق، ولكن فرعون وقومه حملهم الظلم والعلو على إنكار الحق وجحوده وإما أن يكون ذلك انهزاماً من حيث أنهم لم يهتدوا به، فضعفوا أمامه ولم يوفقوا له، قال الله عز وجل: ﴿.. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾[الأحقاف:11]، وقال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾[الحجر:14- 15]، حتى الحجج والبراهين لم يعبئوا ولم تجد لها وقعاً في قلوبهم.. وهكذا يكتمون العلم ويلعنون بسبب ذلك العلم، بسبب ذلك الكتمان، كل ذلك مصدره إما العناد، حتى إن من منهم من بلغ به الحد أنه يدعو على نفسه ويستفتح على نفسه: إن كان ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق ولم يوفق أن يقول: اللهم اهدنا، فقالوا عناداً وغيظاً من قلوبهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الأنفال:32]، كل ذلك للعناد، وللشدة التي حصلت عليهم، فلم يوفقوا لدعاء الله سبحانه وتعالى بالهداية، نعم؛ وبسبب ذلك فإن الله مقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مبيناً ذلك: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة:13]، فبالخيانة وبكتمان العلم لعنوا قال الله في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة:159-160]، كل لاعن، كل ناطق من الموجدات يلعنهم؛ لأن بكتمان الحق تضرر الأمة، تضرر البشرية، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار}، الحديث عند الحاكم، نعم.
فيا أيها الناس! هذه الأمة عظمها الله، شرفها الله، ميزها الله في بيان الحق والصدع به، وما من رسول أرسله الله، ولا كتابه أنزله الله إلا لإقامة الحجة على الأمم: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، هكذا يقول الله سبحانه، ثبت عند البخاري في خلق أفعال العباد، من حديث مالك بن نضلة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاه مالك فقال: إلى ما تدعو وعما تنهى؟ قال: ليس إلا الله والرحم، أتتني رسالة من ربي فضقت بها ذرعاً، فقيل: إما أن تفعل أو يفعل بك} إما أن تبلغ وإما أن يفعل بك، لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لنبي من الأنبياء بدٌ من أن يبلغ كل ما آتاه الله عز وجل وكل ما جاء عن الله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة:67]، وثبت من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا أن يأمر قومه بخمس كلمات فأبطأ عليهم فأتاه عيسى فقال: إما أن تبلغهم وإما أن أبلغهم، قال: إني أخشى أن أبلغهم أن يخسف بي أو أعذب}، الحديث، فنعم، هذا أمر قد يحتاج إلى مشقة، تبليغ العلم ليس بالأمر اليسير لا بد من صبر عليه: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:1-3]، فقد يحمل الإنسان ضعف إيمانه على كتمان العلم فيهلك كما هلكت تلك الأمم الذين أخبرنا الله عنهم ولقمان عليه السلام يوصي ولده بوصايا عظيمة، ومن تلك الوصايا: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾[لقمان:17]، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم}، وثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول حقاً رآه أو سمعه أو شهده}، كل هذا يدل على تبليغ العلم وأن كتمان العلم ليس من هذه الأمة، وإنما هو تأثر بالأمم الماضية الذين ذمهم الله على ما صنعوا.
الخطبـة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فكتمان العلم ظلم، كتمان العلم والحق ظلم، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ[البقرة:283]، وأخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من الخيانة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة:106-107]، كتمان ما يعلم من الحق شهادة أو علماً كل ذلك يعتبر ظلماً للعباد، لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تحدث معهم في المجامع الكبيرة، يقول: «هل بلغت}، كما في الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه: أنه خطب تلك الخطبة البليغة: «أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم..-الحديث- ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم، فأشار بإصبعه إلى السماء ونكتها إلى الأرض: اللهم اشهد}، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته وهو في غاية الحرص على تبليغ العلم، كان يضع خرقة على وجهه فإذا اغتم كشفها وهو يبين العلم ويقول: «لعنة الله على اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد -يحذر ما صنعوا-}، يحذر ويبين العلم، و معاذ بن جبل رضي الله عنه عند موته يأتيه طلبة العلم يسألونه عن علم عن من يتعلمون؟ فيقول: أجلسوني، فيجلسونه فيقول: العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، ثم يحث على العلم وأهله بياناً للعلم.
ولما حدث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث في فضل التوحيد وأن: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة..} الحديث، قال بعضهم: لا تحدث الناس به فيتكلون، و أبو هريرة أيضاً يقول: (لو وضعوا الصمصامة على هذه وعلمت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلته) خوفاً من كتمان العلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ العلم حتى بالإشارة، وقد بوب على هذا شيخنا رحمة الله عليه في جامعه الصحيح بالإشارة، إذا استطاع الإنسان أن يبلغ ولو بالإشارة: إن عجز عن تبليغه بالفم فإن ذلك مما يلزمه، قال أسامة بن زيد : «لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هبط وهبط الناس -أي: كانوا في مكان بعيد-، فأتيت وقد أصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يرفع يديه إلى السماء ويصبها عليّ -أي: يدعو لـأسامة بن زيد -} يبلغ الناس أنه يدعو له، وأن هذه منقبة لـأسامة، لا ينبغي أن تخفى، ولا ينبغي أن تكتم، فبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصمت بعد أن عجز عن الكلام، إن أمر إبلاغ العلم وعدم كتمانه أمر لا يشعر به إلا ذوي الدين والصلاح أينما كان، قامت عليه الشريعة، قام عليه دين الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فإنك ترى أن كتمان العلم يعتبر من ضياعه، ففي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من ضلالة أهل الكتابين، قال: «هذا أوان العلم أن يرفع، فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله كيف يرفع، وقد علمناه أبناءنا ونساءنا.. وذكر من ذلك، قال: كنت أظنك من أفقه أهل المدينة، هؤلاء أهل الكتابين –أي: عندهم من الكتاب كذا وكذا – وقد رفع العلم؛ لأنهم لم يعتنوا به ولم يبينوه للناس}.
شاهدنا من الحديث: ما ذكر، وهكذا ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب أخرى أمسكت الماء نفع الله بها الناس وسقوا وزرعوا، وأصاب أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من نفعه الله ما بعثني من الهدى والعلم فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به}، وهذا الحديث مثل عظيم فيمن علم وعلم ونشر العلم وبلغه، وأنه كالأرض المثمرة، وانظر ما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بمن لم يعتنِ بالعلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحيتان في الماء ليصلون على معلم الناس الخير}، وهل يتعلم الناس إلا من أجل النشر، من أجل نشر العلم وتبليغ العلم، أما أن يكتم فإنها تذهب بركته سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن صلاح الأمة وديانة الأمة إبراز العلم النافع للناس ينتفع به الأحياء والأموات، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له}، وبالله التوفيق.