السبت ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

النصح والتحذير من الاغترار بأفكار التفرق والتشطير

16-03-2009 | عدد المشاهدات 7970 | عدد التنزيلات 1236

 [النصح والتحذير من الاغترار بأفكار التفرق والتشطير(155)]

خطبة جمعة بتاريخ: (1 /صفر/ 1429هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
================================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! لقد امتن الله سبحانه وتعالى علينا بنعم عظيمة من أجلها هي نعمة الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فقال عز من قائل: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الجمعة:2]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
اشتملت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه الله عز وجل إلى هذه الأمة الأمية وإلى سائر هذه الأمم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ:28]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار».
بعثه الله عز وجل بالهدى ودين الحق، فما من هدى إلا وقد أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وما من حق إلا وكان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله؛ فقد زكى الله عز وجل هذا النبي الكريم بقوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:3-4]، وزكاه بقوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:1-4]، وزكى الله عز وجل حرصه علينا، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128].
أرسل الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل خير، فهو القائل: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، لهذا هذه النعمة حملها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حملاً عظيماً؛ شاعرين بها شاكرين الله عز وجل عليها، ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقاتل المشركين على أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكان ممن ذهب إلى بلدة كسرى النعمان بن المقرن أميراً على القوم ومع المغيرة بن شعبة فخرج عليهم عامل كسرى معه أربعون ألفاً من الناس، فقال: ليكلمني واحد منكم، فقال له المغيرة بن شعبة: سل عما شئت -رضي الله عنه- فقال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، قوم من العرب كنا نمص الجلد والنوى من الجوع، وكنا نلبس الشعر والوبر ونأكل الميتة، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات والأرضيين -تعالى ملكه وعز جبروته- إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا أن نقاتلكم على دين الله، وأخبرنا أن من قتل منا أنه في جنة نعيمها عظيم أو قال: ليس له مثيل قط، وإن بقينا ملكنا رقابكم، هذا خطاب يوجهه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى عامل كسرى، ومعه أربعون ألفاً، فلا شك أن هذا الخطاب له موقع عظيم، وهو يشرح فيه عزة الإسلام ونعمة الإسلام التي أسداها رب العالمين إلى المسلمين.
ونظير ذلك قول جعفر رضي الله عنه: أيها الملك -يقول للنجاشي- إنه جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وجعل يشرح ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ عليه صدراً من سورة ﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾[مريم:1-2]، ولما كان الحق واضحاً فيما قاله جعفر وما أبرزه من الحجة وما أثنى عليه على الله عز وجل من النعمة، أخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: والله ما جاوز عيسى ما ذكرتم هذه، يعني: كل ما ذكرتموه حق في عيسى عليه الصلاة والسلام، وقام أولئك الجلساء ونخروا، قال: وإن نخرتم.
الشاهد من هذا: أن هذه نعمة أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك النعمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حنين ومعه المغانم، ومعه المسلمون الجدد المؤلفة قلوبهم، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثرهم بالعطاء تثبيتاً للإسلام في قلوبهم، وربما ترك أناساً لا يعطيهم لما في قلبهم من الغنى، كما في حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه في الصحيح، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم من تلك المغانم أناساً يتألفهم من قريش، فعتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ووجدوا في أنفسهم؛ إذ لم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك اللعاعة من الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الأنصار ويكرمهم، ولكن الدنيا ليست ميزاناً عنده؛ أن من أحبه أعطاه الدنيا، ومن لم يحبه لم يعطه، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ -كل ذلك يقولون-: الله ورسوله أمن»، وجاء في حديث آخر غير حديث عبد الله بن زيد: «أنهم غطوا رءوسهم ولهم خنين من هذه الموعظة البليغة، فلقنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حجتهم، قال: لو شئتم قلتم: جئتنا فآويناك.. وذكر لهم من تلك الحجج التي يقولونها، ثم قال: الناس دثار والأنصار شعار، لو سلك الناس فجاً أو شعباً لسلكت فج الأنصار وشعبهم، لولا الهجرة لكنت امرئً من الأنصار، وستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، كان هذا مهوناً عليهم جداً، وجعل هذا الخطاب العظيم في قلوبهم عظيم النفع، والشاهد من هذا: (كنتم متفرقين فجمعكم الله بي).
فالاجتماع على الحق والهدى يعتبر نعمة عظيمة من الله عز وجل، ولو كان هذا الاجتماع على فقر؛ الاجتماع وعدم التفرق نعمة بينها رب العالمين سبحانه وتعالى وحذر من ضدها، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103]، المتدبر لهذه الآيات يجد لها عظيم الوقع في نفسه، وبيان عظيم النعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده باجتماع كلمة المسلمين، واعتصامهم على الهدى، وقال الله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[الأنفال:26]، وقال في سياق قصة خطاب شعيب لقومه: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾[الأعراف:86-87]، خطاب نبوي لقومه يذكرهم نعمة الله؛ نعمة اجتماعهم وقوة شوكتهم، فإن التفرق سنة الجاهلية لا يزيد إلا وهناً وضعفاً: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[الأنفال:46] هكذا يقول الله سبحانه وتعالى.
التفرق سنة الجاهلية: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:4-5].
التفرق هو سنة وأهداف المشركين، قال الله في كتابه الكريم: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:105-106] الآيات..
وأخبر الله أن الذين تفرقوا ليسو في شيء؛ لضعفهم ولعدم عملهم بأدلة ربهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[الأنعام:159]، هذا وعيد شديد من رب العالمين عز وجل، وقال الله سبحانه وتعالى محذراً من ذلك ومبيناً فضل الاعتصام: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾[المؤمنون:52]، ولهذا كان من مساعي المشركين واليهود والنصارى شدة الحرص على تفريق المسلمين وعلى تمزيقهم شذر مذر؛ دويلات وفرق وأحزاب وكتلات ومذهبيات.. وغير ذلك، كل ذلك لقضاء مآربهم الخبيثة السيئة: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:120] أي: في التفرق وفي غيره، يقول الله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾[الشورى:13] هذا عظيم عليهم أن تجتمع الأمة على إمام واحد، عظيم عليهم أن يجتمع أهل العلم على كلمة واحدة، عظيم عليهم أن يدعوا إلى كتاب واحد وسنة واحدة هذا كبير عليهم، فهم سعاة بأموالهم وأحوالهم وأقوالهم ليل نهار إلى أن يفترق كل طرف منهم، ولأن يصيروا شذر مذر كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم، التفرق سنة نفاقية والتشطير أيضاً هم من دعاته وسعاته، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن المنافقين أنهم كانوا من أجد الناس وأشد الناس فعلاً في التشطير بين كلمة المسلمين في ذلك الزمن، رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية حرصه لما قدم المدينة جمع الكلمة وتآلف القلوب والتآخي، إن من أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وإلغاء العصبية وإلغاء الحمية حمية الجاهلية، وجعلها كلها في خطبة الوداع تحت قدمه؛ إلغاء لما قد يتوقع بعد ذلك مما يحصل في النفوس من أنه حصل دم عند فلان وفلان قتل وفلان فعل ويريد أن يقتص منه، قال: «كل دماء الجاهلية تحت قدمي»؛ حرصاً على بقاء الأخوة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم مرتين، المؤاخاة الأولى والثانية، وممن آخى بينهم سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، عبد الرحمن مهاجري وسعد أنصاري، ولما آخى بينهما قال سعد: تعال، إني لمن أكثر الأنصار مالاً، تعال أشاطرك مالي، وعندي زوجتان أطلق إحداهما، فإذا انتهت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمن بن عوف مقابلاً لذلك الكرم العظيم بعفة عظيمة جليلة: بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق، فباع واشترى وربح وتزوج، وصار من أغنى المهاجرين من أغنى الصحابة رضوان الله عليهم بعد ذلك؛ بسبب عفته، وذلك أيضاً صار كرمه في ميزان حسناته، وصار مدوناً في تاريخه، إنها الشهامة، إنها الأخوة الصادقة التي حثهم رب العالمين وأمرهم بها، إنها الرابطة الإسلامية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات:10]، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[التوبة:71-72].. إلى آخر ما ذكره الله عز وجل في سياق مدح المؤمنين على تآلفهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم من الطعام فاقتسموه بينهم بالسوية أو قل زادهم حتى في البلد، جمعوا ما عندهم من الطعام فاقتسموه بينهم في السوية، فهم مني وأنا منهم»، قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد».
وتعالوا فانظروا تصدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشطير من طريق المنافقين أو من طريق المناوئين المضادين، كيف وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاداً له وداعياً الأمة إلى دين واحد: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:64].
الشاهد من هذا: على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رب العزة عز وجل بين حال دعاة التشطير بين المسلمين والمفرقين بينهم سواء كانت عن عصيبة أو كانت عن قبلية أو كانت عن شهوات دنيوية.. أو غير ذلك، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك حصل بين بعض المهاجرين والأنصار مضاربة، لطم أحدهما الآخر، فصاح أحدهما: يا للمهاجرين، والآخر يقول: يا للأنصار! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا التشطير بين صف واحد، وبين دعوة واحدة وبين أمة واحدة، وقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها إنها منتنة»، وقام داعي التشطير ابن سلول رئيس المنافقين وعصبته من المنافقين يشيعون ويذيعون هذا بين الناس ويدعون إليه بكل قوة، ويقولون ما فضحهم الله عز وجل به: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾[المنافقون:8]، ويقولون: ﴿لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾[المنافقون:7].. وهكذا، وأنزل الله سورة المنافقين في دعاة التشطير، سورة كاملة تفضحهم وتفضح دعوتهم، وتفضح سعيهم في التفرق والتمزيق، وهكذا تشطيرهم ودعوتهم إلى التشطير حتى في المساجد، وذهبوا يتمسكنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يريدون مسجداً للضعفة وفي الليلة الباردة الشاتية، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد، ونزل القرآن يوبخ هذه الدعوة التشطيرية من السماء: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾[التوبة:107-108] أي: مسجد قباء: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[التوبة:108]، وهكذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل المسجدين، ونزل القرآن ببيان مكرهم وخبثهم، وأنهم إنما أرادوا بناء ذلك المسجد لا لليلية الشاتية والباردة، ولا للضعفة، ولكن أرادوا به التشطير وتقوية شوكتهم، وأيضاً إرصاداً لتجمعاتهم وفتنتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وكادوا أن يشتطروا وأن يفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل أصحابه يوم أحد خذلوهم، كل ذلك سعياً منهم في التشطير شأن المنافقين في هذه الأزمنة من دعاة الاشتراكية أو دعاة البعثية أو دعاة الناصرية أو دعاة العلمانية في كل زمان لا يرضون للمسلمين اجتماعاً على خير ولا يرضون للمسلمين قوة شوكة.
وسلم الله عز وجل المسلمين من فتنتهم والله قد أخبر عنهم وفضحهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾[التوبة:47]، هذا قريبه وهذا من قريته وهذا أخوه وهذا ابن عمه، ولكن هم فتنوا، فلهذا لهم تأثير على بعض الناس، وسلم الله سبحانه وتعالى من دعوتهم التشطيرية في ذلك الزمان، وجاء مسيلمة يحاول أن يأخذ له شيئاً من الناس حتى يريد المشاطرة في القرآن، وانظروا كيف فضحه الله سبحانه وتعالى، رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، ومسيلمة كذاب، رسول الله ينزل عليه القرآن: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:1-3]، سورة عظيمة، شرحها يحتاج إلى جزء مستقل في بيان شرحها، وقد جمع أهل العلم في ذلك.
جاء مسيلمة ويشاطر في ذلك، ويقول: أنزل علي مثلها، وما الذي أنزل عليك؟ قال: يا وبر يا وبر ما أنت إلا أذن وصدر، وبدأ يتفلسف من ذلك الكلام السمج ففضح نفسه، وأيضاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرسل إليه رسله ويطالب: واجعل لي الأمر من بدعك أو أيضاً يريد أن يستقل بشيء مفرد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذا ما أعطيتك، ولئن توليت ليعقرنك الله واجهه عني يا ثابت»، فأجابه ثابت بن قيس وتكلم وذهب، وقال: «رأيت كأن سوارين أهماني فنفختهما فطارا: مسيلمة الكذاب والأسود العنسي»، دعاة التشطير، رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع المسلمين على الإسلام والهدى، وهذا يريد في اليمن يعمل له شطراً، وذاك يريد في اليمامة يعمل له شطراً، هذه هي دعوة التشطير.
نبغ ابن صياد: صبي من المدينة، ويقول: يريد يشاطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يفتنهم من داخل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أوسط الصحابة من بين الصحابة، وليس بصحابي هو دجال، ولكن قام في وسط الصحابة، ويعمل القلقة وينتفخ في الطريق ويملأ الطريق وما إلى ذلك من الفتنة الكهنوتية، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن دعوته هذه دعوة تشطيرية ربما تؤثر ولو في بعض الناس وتفتن بعض الناس، «فأتاه وقال: ما هذا؟ قال: الدخ الدخ، اخسأ فلم تعدو قدرك»، وأبغضه الصحابة رضوان الله عليهم، وأبغضوا دعوته التشطيرية، وفتنته التي قام بها في أوساط الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قال: والله لقد تنكرتني الأرض، إنكم تقولون إني دجال، والدجال لا يدخل المدينة ولا يدخل مكة وهاأنا في المدينة ذاهب إلى مكة، والدجال لا يولد له، وذهب يبرر مواقفه من أجل أن يسكتوا عنه أو من أجل أن يسلموا عليه أو يتكلموا معه، وهو دجال، ولكنه ليس الدجال الأكبر، وإنما السياق في الذي لا يدخل المدينة ولا مكة والدجال أكبر، وإنما ابن صياد من كبار الدجاجلة وليس هو الأكبر على الإطلاق، الدجال الأكبر خروجه من علامات الساعة.
الشاهد من هذا: تصدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشطير، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ما إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كانوا يدسون رءوسهم بالنفاق في زمنه إلا وتحينوا الفرصة للدعوة التشطيرية في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقام أناس من هناك وأناس من هناك ومنعوا الزكاة، ودعوة تشطيرية وردة سحيقة قاموا بها، وكاد أن يعمل هذا العمل وهذه الفتنة قلقلة بين ليوث الإسلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله عنه، وقال: (والله لو معنوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، سواء ارتد كلياً أو منع الزكاة، كله يقاتلهم أبو بكر، وجاء الصحابة واختلفوا، منهم من يقول: نقاتل وهم قد قالوا لا إله إلا الله، وقد عصموا دماءهم وأموالهم بها؟ فأتى عمر إلى أبي بكر وقال: (كيف تقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله، وعصموا دماءهم وأموالهم)، فأبان له أبو بكر جِده، وأبان له أبو بكر عزمه، وأظهر له حجته، قال: فما هو إلا أن الله شرح صدري، وفعلاً وشرح الله صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأتقياء الأزكياء، كادت فتنة المشطرين أن تعمل فتنة بين الصحابة أنفسهم، هذا يقول: لا تفعلوا، وهذا يقول: افعلوا، واجتمعت كلمة أولئك الأخيار على قتال المرتدين، وسلبوهم وغنموا منهم وسبوهم، وكان العرب، بل كان كثير من الناس ينتظر قوة ذلك التشطير ليكون ذلك هزيمة للإسلام كل يستقل له بشطر، هزيمة للإسلام هذا في قطر وهذا في قطر، فلما قام أبو بكر رضي الله عنه، كما قال علي بن المديني رحمة الله عليه: إن الله حفظ هذا الدين بأبي بكر في الردة، وبالإمام أحمد في المحنة بما قام به، واختص واجتمع إليه نصحاء الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، خمدت نارهم وانكسرت شوكة المشطرين -شوكة المرتدين-، وقويت شوكة الإسلام، وصار يهاب الإسلام وصولته وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السند والهند والشرق والغرب، إذا قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلداً ربما فروا خوفاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا من الصولة الإسلامية الدينية، وصار نصراً لدين الله، وفي بعض المعارك يذكر ابن كثير رحمه الله من شدة هيبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزة الإسلام، ربما كانوا يربطون أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا، ويأتون بالفيلة وبالخيول أمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرشقون الفيلة والخيول بالنبال ويقدرون على أولئك فيقتل بعضهم بعضاً، هذا يشرد وهذا يطيح ويدوسون بعضهم بعضاً مسلسلين، كل ذلك من عزة الإسلام ومن قوته.
الشاهد من هذا: على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الفرقة والتشطير بين المسلمين، وحث على الاجتماع، حتى ولو كانوا في سفر، فقد ثبت من حديث أبي ثعلبة الخشني: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه في سفر، وكانوا إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب يجلسون، هذا يذهب إلى مكان وهذا يذهب إلى مكان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تفرقكم هذا من الشيطان، وحثهم على الاجتماع، وبعد هذه النصيحة، كانوا إذا نزلوا منزلاً اجتمع بعضهم إلى بعض».
أيها الناس! إن من فرق بين رجل وزوجته وبين مملوك وسيده، فإنه له وعيد شديد من الله عز وجل وتهديد شديد، ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على مملوكه فليس منا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن من أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأبغضكم إلي أشنأكم أخلاقاً، الذين يفرقون بين الأحبة».. الحديث.
الشاهد من ذلك أن الدعوة إلى التشطير بين المؤمنين لا يثق بها إلا من في قلبه مرض، وأنه يجب على المؤمنين أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحكموه في كل صغيرة وكبيرة: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى:10]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء:59].
يجب النصح، يجب تلافي الأخطاء، يجب كذلك أيضاً ما يتعلق بالمطالبة بالحق أو ما إلى ذلك، ويجب البعد عن التشطير، الباطل يحذف ويلغى ويزجر صاحبه وينصح: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:3]، روى مسلم في صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث: أمركم أن تعتصموا بالله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ونهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».. الحديث.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيجب على المسلم أن يكون حريصاً على ما يحبه لنفسه، وما يحبه للمسلمين، فقد ثبت عند الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وشأن المؤمن الناصح أن يحب للمسلمين الاجتماع على الهدى، والتحذير من التفرق والردى، فإن هذا ضرر عليهم في دينهم وفي معايشهم وفي اقتصادهم، وفي دعوتهم وفي سائر شئونهم، وفي تقطيع أرحامهم: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾[محمد:22]، على المسلم أن يحذر ويحذر من دعاة الفرقة ودعاة الفتنة ودعاة الشر ودعاة التشطير، كل هذا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً في حديث الحارث الأشعري: «من دعا بدعوى الجاهلية -فإن هذا من دعوى الجاهلية- ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم مسلمين، المؤمنين عباد الله» حديث الحارث الأشعري طويل ومنه هذه القطعة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة: «حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلزم إمام المسلمين وجماعتهم، قال: فإن لم يكن هناك جماعة وإمام، قال: اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة»، والشاهد من ذلك أننا والله نبغض تفرق المسلمين إلى دويلات وإلى أحزاب وفرق وكتلات وأن هذا ليس من ديننا، وإنما جاء من أعداء الله فصدقهم بعض المسلمين على ذلك، زعماً منهم أن هذا يريد أن ينتصب على مكان وذاك على آخر، وليس هذا من صالحه، وكان حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم ضد ذلك، حتى لما قام الخوارج زعيمهم وأتباع زعيمهم وأرادوا التشطير بين الصحابة، واعتزلوا وعملوا لهم كتلة في حروراء مجموعة من الناس ما تركهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاهم ابن عباس فناظرهم وفند شبههم، وأبان عوارهم وجهلهم، ثم قال: ما تنقمون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نزل فيهم القرآن وهم أعلم به منكم.. إلى آخر ما ذكر، كل ذلك تصدياً من الصحابة رضوان الله عليهم لذلك التشطير، ولما تمكن الخوارج من صولتهم في مصر وفي أماكن أخرى وتجمعوا، أتوا بشبهات أوهى من بيت العنكبوت، كما ذكر ابن العربي رحمة الله عليه في العواصم من القواصم؛ لمن قرأ ذلك يجد العجائب مما صنع الخوارج من تكتلهم وتجمعهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى ذلك إلى إراقة دم عثمان وهو ابن ثمانين سنة، قد تجاوز الثمانين عليه رضوان الله.
كل ذلك أن التشطير وأن دعوة التشطير لا ينبغي أن يسكت عنها، أمور التشطير لا ينبغي أن يسكت عنها وأن هذا خطر، وأنه يجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، وأن من كان له حق يعطى، ومن كان له مظلمة ينصف له، ومن كان له كذلك أيضاً ما هو له فتعالج الأمور بالحكمة، وتعالج بالكتاب والسنة، وتعالج بالتواصي بالحق والصبر، وتعالج بالهدى، وعندنا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلول لكل قضية، ولكن يقول الله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124].
حكام المسلمين! نناديكم إلى التحاكم بالكتاب والسنة، فوالله فيه سلامتكم وفيه عزكم: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾[النور:55]، ولا تركنوا إلى الاشتراكية، ولا إلى اليهود والنصارى، فإن هذا سبب الخذلان: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ﴾[هود:113].
عزكم ونصركم ومجدكم وثباتكم كل ذلك قدره بقدر ما يكون تمسك العبد وتعظيمه لدين الله عز وجل، ولحملة دين الله عز وجل وبعده وذلته وإهانته بقدر بعده عن ذلك: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾[الحج:18]، ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾[يونس:27]، ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾[الحج:41].ا.هـ