الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

التنبيهات على بعض أحكام الأيام المعدودات

19-03-2009 | عدد المشاهدات 6315 | عدد التنزيلات 1432
[التنبيهات على بعض أحكام الأيام المعدودات(151)]
خطبة جمعة لعام: (27 /ذي القعدة/ 1428هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
================================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فقد أمر الله عز وجل بالمسابقة إلى الخيرات، وبالسعي إلى تكفير الذنوب والزلات، فقال عز من قائل: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الحديد:21]، وقال عز من قائل: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة:148].
فاستباق الخيرات أمر مطلوب، هو صفة المؤمنين الذين قال الله عز وجل في سياق الثناء عليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون:57-61].
هذه صفات المؤمنين مع توحيدهم لله سبحانه وتعالى وبعدهم الشديد عن الشرك به، وشدة خشيتهم لرب العالمين عز وجل؛ يسابقون ويسارعون في الخيرات، هذه صفاتهم، ويقول ربنا سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما أعد الله للمؤمنين، قال: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[المطففين:26]، أي: يسارعون فيه ويستبقون إليه، ألا وإن مما يتنافس فيه ويسارع إليه ويسابق لهو العمل الصالح في سائر الأيام وفي سائر الأوقات والأزمان، فإن الله ما خلق العبد إلا ليعبده، وعبادة الله هي طاعته وهي العمل الصالح، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، وقال الله مبيناً ما أعده لمن عبده ولمن أطاعه بالعمل الصالح: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97] ولا يظلم ربك أحداً، فالله ما يظلم أحداً؛ يحيي عبده المؤمن الصالح حياة طيبة ويجزيه أحسن الجزاء على عمله الصالح، يرزقه الرزق الحسن ويدخر له عمله الصالح إلى يوم القيامة: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الحديد:21]، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾[الأنعام:160].
العمل الصالح هو من أسباب محبة الله للعبد، وليس هناك سبب لمحبة رب العالمين لك غير العمل الصالح الذي تتقرب به إليه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة:35]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[مريم:96]، ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾[مريم:97]، قال الله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾[الأنبياء:94]، سعيه محسوب وعمله حاصل خيره له في الدنيا والآخرة، رب العالمين سبحانه وتعالى قرن رضاه بالعمل الصالح من العبد، قال الله: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[الزمر:7]، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾[يونس:9]، فاعمل صالحاً تزدد صالحاً، واعمل سوءاً تزدد سوءاً: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[الصف:5].
كلما تقرب العبد إلى الله بالعمل الصالح تقرب الله سبحانه وتعالى إليه بالتوفيق والهدى، قال في الحديث القدسي: «من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
كلما تقرب إلى ربه عز وجل بالعمل الصالح زاده من فضله وتوفيقه، وأمده بعونه، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر:97-99]، والعمل الصالح محبوب إلى الله عز وجل في سائر الأوقات، ولكن الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ينص على أن العمل الصالح في هذه الأيام القادمة أحب إلى الله عز وجل منه في سائر الأيام، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما من أيام العمل صالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ إلا من خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»، وهذه فضل عظيم، ما كل إنسان يتيسر له أن يجاهد بجميع ماله وبنفسه، ثم يتلف ماله كله في سبيل الله، ثم يراق دمه وتخرج روحه في سبيل الله وفي إعلاء كلمات الله، ولكن الله سبحانه وتعالى عوض المؤمنين بأعمال صالحة في هذه الأيام تقوم مقام هذا العمل العظيم الذي هو معلوم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضله، ومعلوم في كتاب الله وجوبه، ولما لم يكن لكل إنسان التيسر له ذلك فإنه بإمكانه أن يتيسر العمل الصالح في سائر الأيام وبالأخص في هذه الأيام للرجال والنساء والكبار والصغار والقادرين وغير القادرين على الجهاد في سبيل الله، العمل الصالح في هذه الأيام ينبغي الحرص عليه أشد الحرص، فإنها أيام معلومات، أيام تعتبر الأيام التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، أيام هي أفضل أشهر الحرم التي يقول رب العالمين سبحانه وتعالى فيها: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة:36]، هذا تحذير من الله سبحانه وتعالى عن أن يظلم الإنسان نفسه على الأبد حتى يلقى الله والظلم على نفسه أو على غيره محرم، ولكنه في هذه الأيام آكد والذنب فيها أشد أيام الحرم؛ ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ومضر الذي بين جمادى وشعبان، هذه الأشهر الحرم، وآكدها الأيام المعلومات التي هي العشر التي يقول ربنا سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾[الفجر:1-5]؟ بلى يا رب، إنه فيه قسم وفيه أيضاً عظة وعبرة لكل إنسان عنده حجر وعنده لب وعنده عقل يفهم به أوامر الله ونواهيه، هذه أيام حرم، لا يجوز فيها قتال المشركين ابتداء أبداً، وإنما يجوز للدفع إذا اعتدوا: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[البقرة:194]، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:191]، وكما في الآية المذكورة في أشهر الحرم، روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خطبهم يوم النحر وفي الشهر الحرام وفي البلد الحرام، قال: «أي يوم هذا؟ -ظنوا أنه سيسميه بغير ما يعلمون فسكتوا- قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه» بغير اسمه المعلوم المعروف عندهم وعند من قبلهم حتى في الجاهلية، أشهر الحرم محترمة، وأيام الحرم محترمة، حتى أهل مضر الذين كانوا قطاع طريق في ذلك الزمن كانوا يحترمون أشهر الحرم وبالأخص رجب.
ولما جاء وفد مضر قالوا: يا رسول الله! إنا لا نخلص إليك إلا في شهر حرام، أي: لا يستطيعون من مضر، يعترضون الناس، ولكن إذا جاء مضر ألقوا السلاح احتراماً لهذا الشهر وتعظيماً له، والمسلمون أجدر بتعظيم دين الله وشعائره، وأجدر بالعمل الصالح في هذه الأيام الحرم التي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام أيا العشر، فهي الأيام المعلومات الأيام العشر، التي قال الله عز وجل في كتابه الكريم لنبيه إبراهيم: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾[الحج:27] أي: يأتون مشاة وركباناً على الجمال والضامر هو البعير المهزول من السفر: ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحج:27]، أي: يأتي جماعات الأمة، جماعات المسلمين، فقوله: يأتين للجماعات: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾[الحج:28]، قال أهل العلم: تلك المنافع منها تكفير الذنوب، أعظمها تكفير الذنوب، ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾[الحج:28]، وهذا الذكر هو شكر لنعمة الله عز وجل على إقامة شعيرة من شعائره: ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج:28-29]، هذه كلها أيام معلومات، وتتصل بالأيام المعدودات التي هي أيام التشريق، فلا يزال الإنسان من أيام فاضلة إلى أيام فاضلة، ومن عمل صالح إلى عمل صالح.
هذه الأيام أيام العشر التي أقسم الله عز وجل بها في كتابه الكريم تعظيماً لها، هي أيام لا شك أنه معلوم عند كل مسلم إقبال القلوب على الله سبحانه وتعالى فيها وعلى بيته العتيق، قال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[البقرة:197]، وغالب ما يكون الوفد على بيت الله عز وجل في الأيام المعلومات، في هذه العشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحجاج والعمار وفد الله»، أي: ضيوف الرحمن كما يقال، «سألوه فأعطاهم ودعوه فأجابهم»، الحديث بمجموع طرقه يصلح للاحتجاج، وجاء من حديث أبي هريرة وهو حسن لذاته بنحو هذا، أو صحيح لذاته بنحو هذا.
وكل ذلك حاصل في هذه الأيام التي فيها إقبال القلوب على بيت الله الحرام، وعلى إقامة شعيرة من شعائر الله وركن من أركان الإسلام.
ثم تليها الأيام المعدودات التي هي الثلاثة الأيام أيام التشريق، والتي أمر الله عز وجل بكثرة الذكر فيها، وما خصها بالذكر إلا بياناً أنه يجب كثرة الذكر فيها: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة:203]، وذكر الله مطلوب في سائر الأيام؛ ولكنه خصها بالذكر لمزيد الحث على كثرة الذكر فيها، ولأن الذكر لا شك أنه كلما كثر مع العبد كلما كان سبباً لفلاحه، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الجمعة:9-10]، هذا من أعظم العمل الصالح الذي تقدمه إلى الله عز وجل في هذه الأيام، هو من أسباب مغفرة ذنوبك وتكفير سيئاتك، ومن أسباب الأجر العظيم: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:35]، هذا هو العمل الصالح الذي يجب على الإنسان أن يلازمه في سائر الأيام، وبالأخص وللمزيد في هذه الأيام من أجل أن يفلح، إن العمل الصالح هو ذكر الله المتضمن لتلاوة القرآن، المتضمن لإقامة الصلاة، قال الله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[البقرة:45]، المتضمن للصدقة، المتضمن للعمرة، المتضمن للحج، المتضمن لسائر شعائر دين الله عز وجل، كل ذلك داخل في ذكر الله ومجالس العلم، حتى ولو كان في علوم الآلة، فإنها مجالس الذكر التي تحفها الملائكة وتنزل عليها السكينة وتغشاها الرحمة يتنافس في ذلك: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام»، الأيام المعلومات ثم المعدودات التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق».. وهي ثلاثة أيام بعد العيد، لحديث جبير رضي الله عنه: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله»، وهي عيد للمسلمين، ثبت في مسند أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام»، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد الهدي، والرخصة لا تكون إلا من شيء منهي عنه، دل على تحريم صيام أيام التشريق إلا للمتمتع ويشمل القارن أيضاً لم يجد الهدي فرخص له في ذلك للحاجة رخص له في ذلك.
أيام التشريق قيها ذكر الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك إقامة شعائره بنحر البدن، ومن ذلك إقامة شعائره برمي الجمار، ومن ذلك إقامة شعائره بالتكبير: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة:203]، هذا أول ما ينصب على الحجاج الذين هم في ذلك المكان، كان أبو هريرة وابن عمر يكبران الله عز وجل في الأسواق وفي أماكنهما -أي: دبر الصلوات وبعد ذلك- حتى يسمع الناس ارتجاج منى بالتكبير، وهكذا في سائر البلدان كل تلك الأيام ذكر لله عز وجل للحاج ولغيره، للأمر المذكور في هذه الآية: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾[البقرة:203]، أي: لا إثم عليه إذا أدى الحج مبروراً لا رفث في ولا فسوق ولا جدال، لا إثم عليه إذا تعجل، فإن حجه كامل وهو مأجور على ذلك، ولا إثم عليه في أنه ما رمى إلا في يومين، وترك يوماً وتعجل فيه، فإن الذي يتأخر يرمي بسبعين حصاة، يرمي الجمرات بسبعين حصاة، بما في ذلك جمرة العقبة، جمرة يوم العقبة بسبع حصيات، والذي يتعجل يرمي الجمرات بتسع وأربعين حصاة فلا إثم عليه إذا تعجل في ذلك ولا ينقص حجه: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، أي: لمن لم يعمل زوراً ولا فجوراً: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[البقرة:197]، فمن لم يرفث ولم يفسق ولم يجادل في الحج جدالاً باطلاً فلا إثم عليه أن يتعجل وحجه كامل وأجره كامل، ويرجع من حجه كيوم ولدته أمه بهذا الشرط: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، وتقوى الله يتنافى معها الفسوق ويتنافى معها الرفث، وهو قول الزور -الفسوق- الشامل لجميع المعاصي كل المعاصي فسوق: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾[الكهف:50]، والرفث شامل لقول الزور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخاً لكم لا يقول الرفث»، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يفسق»، قال أهل العلم: الرفث هنا، أي: لا يقول كلاماً باطلاً، وشامل للجماع ومقدمات الجماع، للجماع المبطل للحج من أصله، ولمقدمات الجماع، الذي هو من دواعيه، ما كان ذريعة إلى باطل فهو باطل، أما رأي ابن عباس رضي الله عنه فإنه كان يرى أن الرفث لا يكون إلا ذكر الجماع عند النساء، وهذا قد خالفه فيه عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، سواء كان عند النساء أو عند غير النساء فيجتنبه، ليس من صالحه أن يعرض قلبه للمرض، وليس من صالحه أن يعرض لسانه لغير ذكر الله عز وجل، وينبغي أن ينشغل بطاعة الله عز وجل: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، فمن كان متقياً وتعجل لا إثم عليه حجه كامل: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾[البقرة:203]، قال الله عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[البقرة:203]، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[البقرة:203]، باعتبار أن هناك أوامر ونواهي، وكثيراً ما ترى أن الأوامر والنواهي، إما يتقدمها الأمر بتقوى الله، وإما يتأخرها لأهمية ذلك، ففي تلك المواضع وازدحام الناس ولقاءاتهم، وبين المحق والمبطل والصالح والفاسد، وصاحب الخلق السيئ.. وغير ذلك لا شك أنه يحتاج الإنسان إلى مزيد من التقوى يتقي بها الفتن والشبهات، ويغض بها بصره، ويجتنب فيها ما حرم الله عز وجل.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسيلماً كثيراً.
أما بعد:
هنا تنبيه عظيم من رب العالمين في آخر هذه الآية التي أردنا عليها التنبيهات لبيان بعض أحكام الأيام المعدودات، وهذا التنبيه هو قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[البقرة:203].
فينبغي لمن وقف في ذلك المكان وقبل تفرق الناس، أن يتذكر ذلك الجمع العظيم وأنه جمع يذكره بيوم المحشر: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[البقرة:203]، فهذه لفتة عظيمة إلى أن الإنسان يجب ألا يكون غافلاً عما يقف به بين يدي الله عز وجل، قال الله: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾[الكهف:46-47]، وتأمل هذا الموقف العظيم؛ أن الله عز وجل يحشر الناس من أولهم إلى آخرهم، من لدن آدم إلى قيام الساعة إلى من لا يعلمه إلا الله عز وجل، في موقف واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، والشأن في ذلك كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾[القمر:6-7]، وهذا الخروج ليس عسيراً على الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾[ق:44]، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾[الأنعام:128]، الشاهد من هذا: على أنهم يحشرون جميعاً من جن وإنس: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾[الزمر:68]، جن وإنس كلهم قيام ينظرون أنبياؤهم وصالحوهم ومؤمنوهم وكفارهم وفجارهم ورجالهم وإنسهم حفاة عراة غرلاً: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء:104]، موقف عظيم: ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾[القمر:8].
وهكذا يحشر الناس على أحوالهم، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾[طه:102-103] فالمجرمون يحشرون على حالة سيئة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾[مريم:85-86].
هكذا المؤمنون يحشروا إلى الله سبحانه وتعالى على حال حسن، وفوداً زرافات مع الأنس مع الراحة مع الطمأنينة، والكفار يحشرون إلى جهنم ورداً، قال الله في كتابه الكريم، مبيناً أن الناس يردون عليها يوم القيامة ولا ينجو منها أحد إلا من سلمه الله: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[الكهف:49]، وقال: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾[مريم:71-72]، وقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124].
هذا ينبغي أن ينتبه له الإنسان عند تلاوة قول الله عز وجل وحضور ذلك المشهد: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[البقرة:203].