الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

تذكير الورى بأسباب أخذ القرى

22-03-2009 | عدد المشاهدات 3423 | عدد التنزيلات 1261

[تذكير الورى بأسباب أخذ القرى(162)]

خطبة جمعة بتاريخ: (3 جماد الثاني 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

=================================

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! علمنا فيما مضى أن الله عز وجل أكرم هذا الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأن الله سخر له ما في السموات وما في الأرض: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[لقمان:20].

وأن الله من إكرامه لهذا العبد خلق له ما في الأرض جميعاً: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة:29].

وأنه لا يخرج عن هذه الكرامة وعن هذه الرتبة العالية إلا من تسبب في سفوله وفي إذلاله بمعصية الله عز وجل، قال الله عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾[التين:4-6].

وأخبر الله عز وجل أن الذنوب هي التي تذل العبد المكرم المعزز تذله الذنوب مهما كانت كرامته ومهما كان شرفه الذي أمده الله عز وجل به وأكرمه به إذا هو تلطخ بالذنوب ذل وأصيب بالبلاء، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس:27]، لشدة إذلالهم تسود وجوههم كالليل المظلم، وهذا شامل لإذلالهم في الدنيا والآخرة.

وأخبر الله سبحانه أن الذنوب هي التي تجلب المصائب على العباد، فقال سبحانه: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة:49-50].

فلا شك أن ما يصاب به العباد في دينهم ودنياهم وأرزاقهم ومعايشهم وأمنهم وحياتهم وسائر شئونهم أن ذلك بعض مما عوقبوا به وليس الكل، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾[فاطر:45].

الذنوب عباد الله هي التي تسبب العذاب على العباد، سواء كان هذا العذاب العاجل أو الآجل، قال الله عز وجل في كتابه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾[المائدة:18].

وتأمل قول الله عز وجل: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾[المائدة:18] الذنوب هي الجالبة للعذاب، فإذا عذب الله عبداً فإنما يعذبه بذنبه، وانظروا إلى الأمم الماضية الذين حثنا الله عز وجل على تأمل أحوالهم: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[غافر:21-22]، انظر بماذا أخذهم الله؟ بذنوبهم.

وقد فصل الله سبحانه وتعالى قصص عدد من الأمم في سورة العنكبوت الذين أخذهم بذنوبهم وبأنواع من العذاب، وكل بحسب ما يستحق، قال الله: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾[العنكبوت:38]، تبين لكم أحوالهم من مساكنهم، فأنت لو ذهبت إلى ديار سبأ يقولون: هذا مكان ملكة سبأ وهذه بناياتهم وهذا كذا وهذا كذا، ولو ذهبت إلى ديار ثمود تبين لك أيضاً من أحوالهم ومساكنهم، «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم».

وهكذا سائر الذين أخذهم الله سبحانه وتعالى، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾[يوسف:111]، ولكن الله عز وجل قص على عباده ما فيه العبرة والعظة، ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس:91-92].

انظر: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾[العنكبوت:38]، جرفهم الشيطان وتزينت الأعمال في أعينهم، وأنهم على هدى، وأنهم على خلود في هذه الدنيا.

﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ لها عدة معاني، ومن أحسن معانيها: أنها قامت عليهم الحجة، بصرهم أنبياؤهم، ووضحوا لهم الحجج، فما أخذوا على غرة، ما أخذوا عن جهل بالحكم أبداً، وإنما بعد تبصرهم وبعد أن قامت عليهم الحجة.

والمعنى الثاني: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ أي: كانوا فاهمين لذنوبهم، وكانوا سالكين المعاصي وهم يعلمونها.

﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾[العنكبوت:40]، ولله في ذلك حكمة، ولو تأملت قوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾[العنكبوت:40] ترى أن كلاً عاقبه الله وعذبه بما يستحق مقابل ذنوبه.

﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾[العنكبوت:40] وهم عاد قوم هود، أرسل الله عز وجل عليهم الريح الصرصر تثير عليهم الحصباء فأهلكتهم، قال الله: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾[الحاقة:1-8].

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾[الأحقاف:21-25].

كل هذا يبين أن الله عز وجل أخذهم بالريح، ومع تلك الريح الحاصب، معها حصى حاصب تصفعهم فتقتلهم، حتى أصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية.

كذبت عاد بالنذر، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر:19-21] أي: كيف كان عذابي لهم؟ وكيف كانت نذارتي لهم؟ مع تجرؤهم على المعاصي والذنوب، هذا أخذ ربك سبحانه وتعالى لعاد، أخذهم بريح سلطها عليهم، وأخذهم بريح وفيها الحاصب.

والآخرون: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾[العنكبوت:40] ثمود قوم صالح أرسل الله عليهم الصيحة، ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾[فصلت:17] أي: الهوان والذلة، ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[فصلت:17-18]، أخذتهم الصيحة، ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾[هود:65]، ثلاثة أيام أنذرهم نبيهم صالح، وبعد الثلاثة الأيام أخذتهم الصيحة، صيحة واحدة، صعقة واحدة أهلكتهم بذنوبهم، ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾[العنكبوت:40].

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ﴾[العنكبوت:40] وهو قارون، خسف الله به الأرض على بغيه وعدوه وكبره، ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾[القصص:76]، هذه النعم قابلها بالكفران وبالبغي وبالتغطرس أمام الفقراء والمساكين والمغرورين، ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾[القصص:76-78] إلى قوله .. ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ﴾[القصص:81].. الآيات.

شاهدنا من هذا: أنه هلك بذنبه كما في آية العنكبوت: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾[العنكبوت:40]، ﴿وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾[القصص:78] يعني: لا تسأل عن عظمة ذنوبهم وعن شدة ذنوبهم وعن أيضاً عقوبتهم على تلك الذنوب: « .. خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى قيام الساعة ».

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾[العنكبوت:40] أغرق الله فرعون ووزيره وجنودهما إنهم كانوا قوماً خاطئين، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾[القصص:8] أي: كانوا مذنبين بالحنث العظيم والذنب العظيم، أغرقهم الله سبحانه وتعالى وكان ذلك الإغراق أن كانوا يمكرون بنبي الله موسى فمكر الله بهم.

﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾[الشعراء:53-56]، وفي قراءة: (حذرون)، ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ﴾[الشعراء:57-60]، صبيحة أهلكهم الله عن بكرة أبيهم لم يبق منهم معلم، ولم يرجع منهم مخبر، كل فرعون وهامان وجنودهم أهلكهم الله، ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الشعراء:60-68].

جعل الله موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين الذين أحسوا بالخطر أمام البحر المتلاطم وأمام جحافل فرعون من القوم الذين قد هيأهم وجهزهم في تلك الأيام بالمكر والدهاء، نعم ولكن الله سبحانه وتعالى بسبب مكرهم مكر بهم: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[الأنفال:30].

جعل الله موسى يمشي على أرض يبس ﴿لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى﴾[طه:77]، وأتبعه فرعون فغرق، فرعون الذي ادعى الربوبية: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[النازعات:15-26].

هذه أسباب أخذ القرى الذنوب، ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾[هود:102]، نعم، ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾[الحج:45]، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾[الكهف:59].

هذه أسباب أخذ القرى وهي الذنوب، هذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه فيمن تمادى على الذنوب والمعاصي، ولم يتذكر ولم يستفد من المواعظ والنصائح وعظة الكتاب والسنة ورسالات الرسل، ولم يحترمها، ولم يجد لها قدراً، وجعل يتمادى في غيه وبغيه.

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأعراف:96-99].

هذه سنة الله في من لم يعرف للنعمة قدرها، ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ﴾[هود:64-65].. الآيات.

الشاهد: على أن نقمة الله وعذاب الله بسبب ذنوب العباد: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس! إن مكر الذنوب والسيئات ليسبب الفتن والنكبات، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[النحل:46-47]، لولا رحمة الله لأخذهم الله بسبب الذنوب والسيئات.

وقال الله سبحانه وتعالى مبيناً آثار التمادي في الباطل وآثار التقول على الله بغير علم: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾[الحاقة:44- 47]، شاهدنا: ﴿لَأَخَذْنَا﴾ أن الله عز وجل يأخذ من تمادى في الباطل، الله يأخذه، هذا كما سمعت هذه الآية.

قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام:42-45].

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ﴾[القمر:23-25]، انظر على حقد وعلى حسد، ﴿أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾[القمر:25-31]، هشيم المحتظر أي: الهشيم اليابس، ﴿فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾[القمر:31].

هذه سنة الله في أصحاب الذنوب والمعاصي، لا تحقر الذنوب أيها المسلم خفية كانت أو جلية، كفراً كان أو نفاقاً، معاصي دقيقة أو جليلة؛ فإنها أسباب أخذ الله سبحانه وتعالى لمن تمادى فيها.

الواجب على المسلم أن يكون سريع الفيء سريع الرجوع من الذنوب، قال الله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[آل عمران:135-136].

هذا الذين يذنب إنما هي زلة ثم يفيء منها، فإن كان فيما بينه وبين العباد طلب منه العفو والمسامحة، وإن كان فيما بينه وبين ربه تضرع إليه، فإن الله يحب المتضرعين ويعفو عن المتضرعين.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾[المؤمنون:75-76]، فربما أخذ الله العبد بشيء من العذاب من أجل أن يضرع إليه، ومن أجل أن يستكين، ومن أجل أن يؤدبه ربه تأديباً، وذلك في صالحه.

فاضرع إلى الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى عفو كريم.

ونسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.