الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

خوف ذوي الألباب من نقاش يوم الحساب

26-03-2009 | عدد المشاهدات 6739 | عدد التنزيلات 1537

[خوف ذوي الألباب من نقاش يوم الحساب(166)]

خطبة جمعة: (8/رجب/ 1429هـ)

(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

================================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف:179].

فأبان الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن الغفلة شأن الكافرين، لاسيما الغفلة السحيقة، وقال الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق:19-22].

هؤلاء الغافلون لا يفيقون إلا إذا هجمت عليهم سكرات الموت، تنكشف عنهم الغطاءات، وتنجلي عن قلوبهم الغفلات.

أيها الناس! إن أعظم غفلة لهي الغفلة عن الحساب، من أجل ذلك ترتكب المحرمات، ومن أجل ذلك تقطع الأرحام، وبسبب ذلك تحصل الجرائم والموبقات، لذا قال رب العالمين سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾[الأنبياء:1-3].

كل هذه الآيات تبين أن الغفلة سبب محق كل خير في هذه الأرض، فبسبب الغفلة كل ما جاء ذكر من الله عز وجل قابلوه باللعب، وكلما جاء ذكر من الله عز وجل قابلوه باللهو، وكلما جاء ذكر من الله عز وجل قابلوه بالمناجاة على أن هذا إنما هو بشر، ويغطون على حقائق دين الله عز وجل: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾[الأنبياء:3]، فكان ما حصل لأولئك المشركين هو بسبب غفلة قلوبهم عن لقاء الله سبحانه، لهذا قال سبحانه في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾[النبأ:21-28]، بسبب أنهم لا يؤمنون بالحساب كذبوا بآيات الله عز وجل، وكانوا مستحقين لعذابه كما أخبر.

وقال الله في كتابه الكريم: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[ص:26].

أيها الناس! الحساب شديد على كل صغيرة وكبيرة، يجب الخوف منه -والله- فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾[الطلاق:8-10].. الآيات.

الشاهد من ذلك: أن عذاب الله شديد، وأن حساب رب العالمين من نوقش الحساب هلك، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها قرأت قول الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[الانشقاق:7-8].. الآيات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ذلك العرض من نوقش الحساب هلك، أشكل عليها ذلك، فقالت: أليس يقول الله عز وجل: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾[الانشقاق:8]؟ قال: ذلك العرض»، والعرض: هو أن يدني الله عز وجل كنفه على عبده المؤمن، فيسأله: ألم تفعل ذنب كذا، ألم تفعل ذنب كذا، ألم تفعل ذنب كذا؟ حتى يظن أنه هالك، ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم.

هذا ستر الله سبحانه وتعالى على هذا العبد، أما من نوقش الحساب وحوسب فإنه هالك، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[الرعد:18]، هذه هي شدة الحساب وهذا هو النقاش؛ أنه يكون له سوء الحساب، حساب مشدد عليه في كل صغيرة وكبيرة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء:47]، مثاقيل الذكر ومثاقيل حبة الخردل، يؤتى بها، فإذا نوقش على ذلك الإنسان هلك، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لما أنزل الله عز وجل قوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة:284]، أتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفين وجلين من هذه الآية، قالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، وقد نزلت عليك آية لا نطيقها»، كلفنا الجهاد كلفنا كذا، كلفنا كذا، خافوا أن يكون قد شدد عليهم في الحساب على ما في نفوسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا! قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا»، أذعنوا وخضعوا واستسلموا لأوامر الله وشرعه، «فأنزل الله في إثرها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة:285]».

شاهدنا أن أولئك العقلاء الألباء عليهم رضوان الله شعروا أن الحساب شديد وأنه إذا حوسب الإنسان على الأعمال يهلك، فإن الإنسان يقترف السيئات ليل نهار إلا من عصم الله: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».

فلولا ستر الله سبحانه وتعالى عليه يوم القيامة إذا نوقش ذلك هلك، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[الكهف:49]، إنه ربما حوسب الإنسان في هرة فيهلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»، إنه ربما حوسب الإنسان في قضيب من أراك فيهلك، ففي الصحيح عن إياس بن ثعلبة الحارثي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ حق امرئ مسلم بغير حق أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك».

إنه ربما يحاسب الإنسان فتذهب حسناته وتثقل سيئاته، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كذا وكذا، ثم يأتي وقد لطم هذا وسفك دم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه».

إنه ربما يحاسب في قطعة من الأرض يسيرة ولو كان مقدار شبر، فيطوق بذلك المقدار من سبع أراضين: «فمن كان له مظلمة لأخيه فليتحلل منه في هذه الدنيا قبل ألا يكون درهم ولا دينار»، كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الحساب شديد، وأشد ما يكون النقاش على دماء الناس، دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»، فليحاسب امرؤ نفسه قبل أن يحاسب، وليزنها قبل أن توزن أعماله، «فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»، كما في الصحيح.

أيها الناس! يقول الله سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾[الأنبياء:47]، ذلك اليوم ما فيه ظلم؛ لأن المحاسب هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو حساب دقيق: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾[الغاشية:25-26]، قال الله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، وهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الكافرين حساباً شديداً، ويحاسب المؤمنين حساباً يسيراً، أي: نقاشاً على ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها.

ومع هذا فإن حساب الله عز وجل ليس مبطئاً، فربما يكون الحساب في الدنيا على العبد حساباً مقدماً من ضيقه؛ من التضييق عليه فيه هذه الدنيا بسبب ذنوبه، بالمصائب والفتن، وهذا عاجل من آجل، يقول الله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30]، «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، هذا بالنسبة للآخرة، أما حال الكافر فإنه في ضيق: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر:22]، وأخبر أنه: ﴿فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31]، قد يعاقب في هذه الدنيا بشيء من العقاب والحساب على ذلك، ولكن الحساب الحقيقي عليه يوم القيامة سريع، سرعة الحساب عليه يوم القيامة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء:13-14]، كفى به حسيباً، كفى بأعضائه ولسانه وجوارحه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يس:65]، قال الله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[فصلت:19-23]، حتى إنهم يتمنون شدة العذاب قبل الحساب: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾[ص:16-17]، يقول الله لنبيه: اصبر على ما يقولون، فإن شأنهم يوم القيامة كذلك، لخوفهم من الحساب أشد من العذاب، وما ذلك الحساب إلا مصيرهم لعذاب الله سبحانه وتعالى: من نوقش الحساب هلك، إن حساب الله شديد على العبد، حتى على الصغيرة والكبيرة: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه»، هذا سؤال، ولو دقق على العبد في هذه الأمور لهلك: «وعن علمه ماذا عمل به»، إلا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾[الصافات:24]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عامة»؛ وما ذلك إلا أن هذا مخف الحساب عليه يسير، وذاك مثقل الحساب عليه شديد، هذا ولو كان مؤمناً فكيف إذا كان كافراً؟

إن عذاب الله شديد: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[غافر:16-17]، ليس في حسابه بطء ولا تأخر، فلا يحصل يوم القيامة للمظلومين من الظالمين تأخر ولا بطء، فإن الدنيا ربما يكون مظلوماً أمام البشر وأمام الناس، ومن حين إلى آخر وهو يماطل في إنصافه بمظلمته يماطل، من محكمة إلى محكمة ومن قاض إلى قاض، وما إلى ذلك، وأما يوم القيامة فإنها سرعة الحساب.

أفمن يعلم إن هذا الحساب أخاف المؤمنين، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون:57-61]، قلوبهم وجلة ولا يزالون خائفين مع تلك الأعمال الحسنة، فكيف بأصحاب الأعمال السيئة، قال الله سبحانه وتعالى واصفاً من نجاهم الله عز وجل بسبب خوفهم من حساب الله وعذابه: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾[الرعد:19-21]، يخافون يوم الحساب، يوم مخيف، والحساب فيه دقيق، رب إنسان يأتي يوم القيامة فيحاسب على أعماله صغيرها وكبيرها فلا يزن عند الله مثقال حبة: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾[الكهف:105]، «يؤتى بالرجل السمين البطين لا يزن عند الله جناح بعوضة»، يحاسب بأعمالهم ويوقف عليها فتصير هباء منثوراً، هذا شأن الكافرين، ولخيف المؤمن من ذلك كما خاف السلف رضوان الله عليهم.

أعمال الناجين من الحساب أعمال مبرورة: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾[النبأ:31]، شأن المتقين هكذا خوفهم من الله عز وجل؛ بسبب ذلك الخوف صاروا ناجين من حساب الله: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا﴾[النبأ:32-35]، حتى مجرد اللغو والصخب والأذية ورفع الصوت ما هناك في الجنة أبداً ولا تكذيب ولا كذاب: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾[النبأ:35-36].

هذا حساب المؤمنين بجزاء أعمالهم وبفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه عليهم، قال الله سبحانه وتعالى في شأن المؤمنين مبيناً ما أعده الله سبحانه وتعالى لهم بسبب أنه حاسبهم وأكرمهم: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:54-55]، هذا حسابهم الذي أعطاهم الله وأكرمهم: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف:72]، نظير قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾[الحاقة:19-24].

الذي يحاسب نفسه يكون في غاية المراقبة لرب العالمين، لا يلفظ قولة إلا ويحسب لها حساباً عند الله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق:18]، الذي يحاسب نفسه يدفع به ذلك الحساب إلى العمل الصالح: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه الزلزلة:7] * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8].

حاسب نفسك أيها المسلم في أقوالك، في أفعالك، فيما تأتي وتذر، في ليلك ونهارك، في رعايتك: «كل راع ومسئول عن رعيته»، هذا هو الحساب الذي ينفع الإنسان ينفع الله سبحانه وتعالى به العبد يوم القيامة؛ أن يحاسب نفسه على طاعة الله في كل صغيرة وكبيرة، وأن يتدبر ما يقدم عليه يوم القيامة، هذا هو الواجب على المسلم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فمن صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله، فخاض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء، قال بعضهم: إنهم الذين صحبوا رسول الله، وقال آخرون: هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يعملوا شراً قط، -أي: أنهم ولدوا في الإسلام فصاروا على الإسلام ما أشركوا قبل ذلك- فخرج عليهم، فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، قال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون».

هذا هو مناط نجاحهم وفوزهم ودخولهم الجنة بغير حساب، قوة اعتمادهم على الله سبحانه وتعالى وتوكلهم عليه، وثقتهم به، فإن التوكل على الله توحيد، هو صفة للأنبياء، قال: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[إبراهيم:12]، التوكل على الله أمره عظيم، هذه نماذج من شأن الناجين من عذاب الله، وهكذا نماذج من شأن الحساب الشديد وسرعة الحساب والغفلة عن الحساب، والأمر خطير جداً عباد الله.

على المسلم أن يتقي الله في نفسه، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، لا تجعل الناس يحاسبونك، حاسب نفسك أنت بنفسك: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾[الإسراء:25]، فإذا حصل منك زلل أو خطل أو حصل منك شيء من الشطح عن الصواب، حاسب نفسك أنت، قف مع نفسك وقفة تنجو بها عند الله سبحانه وتعالى، فإن هذه هي المراقبة حقيقة، وهو اللب حقيقة: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[غافر:38-40]، اجعل هذه الآيات نصب عينيك، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[البقرة:200-202]، أي: أن نصيبهم ليس مؤخراً، بل هو معجل، ما بينه وبين أن يأخذ نصيبه إلا أن يموت، كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار كذلك»، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[الأنعام:60-62]، هو أسرع الحاسبين بين الظالم والمظلوم، هو أسرع الحاسبين بين من يستحق الجنة والنار، فيقضي لهذا بالجنة ويقضي لهذا بالنار سبحانه وتعالى، هو أسرع الحاسبين حتى بين البهائم، حتى الناطحة والمنطوحة: يؤخذ للجماء من القرناء حقها، هو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى، فهذا أمر لابد من تدبره، ومن غفل عنه هلك، «إن الغفلة عن الحساب هلكة»، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والحمد لله رب العالمين.