الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

أهم وصايا المسافرين إلى لقاء رب العالمين

26-03-2009 | عدد المشاهدات 5749 | عدد التنزيلات 1507

[أهم وصايا المسافرين إلى لقاء رب العالمين(176)]

خطبة جمعة لعام: (4 شوال/ 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

============================

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! إن حاصل هذه الدنيا سفر، فإن من كان عليها يعتبر مسافراً، فكل يوم يمضي عليه إلا وهو يقطع مرحلة من سفره، وكل شهر كذلك وكل عام كذلك، فهي مراحل يقطعها من سفر إلى الله سبحانه وتعالى، هذه الدنيا سفر، يساق فيها العباد إلى الله سبحانه وإلى لقاء الله، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾[القيامة:26-30]، فالعباد يساقون إلى الله برهم وفاجرهم، وصغيرهم وكبيرهم وجنهم وإنسهم: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن:26-27]، ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافر:16].

ومن ذلك ما ذكر الله سبحانه وتعالى في أحوال الإنسان، وهذا يلاحظه كل شخص في نفسه مع الأدلة المذكورة على ذلك: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾[الروم:54]، مراحل حتى في حياته الدنيا وهو يقطع مراحل، من طفولة إلى صبا إلى مرحلة كونه غلام، إلى شباب، إلى كهولة إلى شيبة إلى شيخوخة إن طال به الأمد، إلى الموت، وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾[يس:68]، أي: من نعمره نجعل خلقه منكساً إلى الأسفل إلى الأدنى، كلما تعمر الإنسان وازداد عمره وطال عمره ضعفت قواه وضعف حاله، قال الله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾[النحل:70]، وقال: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾[فاطر:11]، سواء طال عمره أو نقص عمره، عمر إلى المائة أو إلى الستين أو دون ذلك أو فوق ذلك كله في كتاب، ولا مفر له من الرحلة إلى الله عز وجل، فهذه الدنيا سفر، مراحل مراحل، مرحلة بعد مرحلة يقطعها، وكل مرحلة فيها عدة مراحل أيضاً له، مثلاً: مرحلته في بطن أمه، وهو فيها في تطور، ثم مرحلته الدنيوية، وهو فيها في أحوال، ثم مرحلته البرزخية وهو فيها في أحوال، ثم دار القرار إما الجنة وإما النار، ومادام الأمر كذلك، فإن المسافر يحتاج إلى زاد، والمسافر إذا سافر بغير زاد ينقطع، وليس هناك زاد أعظم للعبد من أمور أعظمها تقوى الله عز وجل، وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾[البقرة:197]، أي: لهذه المراحل تزودوا، فإنها مراحل طويلة عظيمة منذ أن يموت وتفارق روحه جسده، وهو في مراحل الآخرة، في مرحلة الموت ليس له إلا هذا الزاد، زاد التقوى وزاد الإيمان وزاد العمل الصالح، في مرحلة حمله إلى القبر ليس له إلا ذلك: « إن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء -صوت تلك الجنازة- إلا الإنسان ولو سمعه لصعق»، كما في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وهكذا في مرحلة القبر واستمداده من هذه الدنيا ومن هذا الزاد على حسب عمله، إما أن يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويصير في حرفة من حفر النار إلى أن يدخل النار، يأتيه من سمومها وحميمها وآلامها، هو في نار يعتبر: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[غافر:46]، وإما أن يكون في نعيم، يأتيه من الجنة من طيبها وريحانها وهو في جنة يعتبر حتى يلقى الله، استمداد تلك المراحل كلها من صراط وميزان وأخذ كتاب وقبر وما عدى ذلك أيضاً على أي حال استمداده من زاد الدنيا، فمن سافر إلى الله عز وجل ورحل إليه بغير زاد يا هول مصيبته! ومن سافر بزاد فهنيئاً له: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾[الحاقة:19-24]، أي: بما أمضيتم من الزاد الطيب، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾[الحاقة:25-29]، ذهب بغير زاد، لا ماله أغنى عنه ولا سلطانه نفعه، فيقال: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾[الحاقة:30] أي: جعل الأغلال في عنقه: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾[الحاقة:31]، أي: احرقوه بالنار بالجحيم: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ﴾[الحاقة:32-35]، ما له صاحب ولا قريب ولا حميم ولا مناصر، من ينصره من الله سبحانه وتعالى؟ هذا ما أخذ زاده، إن هذا لابد منه للمسافر، خذ زادك في سفرك هذا إلى الله عز وجل بتقوى الله عز وجل سبحانه وتعالى، خذ زادك بالإدلاج والتبكير، فالله عز وجل أمر حين حث نبيه على التبكير وعلى الإدلاج أمره بالصبر، قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾[ق:38-40]، أمره بالتسبيح قبل غروب الشمس وقبل طلوع الشمس وهكذا في الليل أمره بالتسبيح والإدلاج، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾[طه:130]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾[الإنسان:24-26]، فهذه ثلاث حالات: قبل الغروب وقبل طلوع الشمس والإدلاج أي: من الليل، والمسافر الفطن له حالات في سفر، من ذلك أنه يأخذ زاده، فإن الزاد أعظم ما يستعين به المسافر على سفره ولابد له منه، ومن ذلك اتخاذ الرفيق الصالح في سفره، وأعظم رفيق تتخذه في سفرك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا أعظم رفيق لك، ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما»، من الذي يحاج لك في ذلك الموضع إلا ذلك الرفيق الطيب.

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله»، هذا رفيق العمل الصالح رفيق، فاتخذ في سفرك هذا الرفيق، فإنه ليس هناك نظير له، ولا ينفعك دونه نافع -دون عملك الصالح- فإن رافقك العمل الصالح فنعم الرفيق، وإن رافقك العمل البطال فبئس الرفيق، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: « يأتيه على صورة شخص شاحب اللون، على صورة شخص يكفهر في وجهه ويؤذيه، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ، والآخر يأتيه على صورة شاب حسن اللون ويؤانسه، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الحسن، فيقول: أنا عملك الطيب»، هذا رفيق تلقاه في أي موضع من مواضع الآخرة وهو معك، ويتخذ المسافر أيضاً مع ذلك الزاد حيطة مع رفيقه أي: في التبكير حتى يبلغ والتهجير والإدلاج حتى يبلغ وحتى يصل منتهى سفره أو ما أراد من سفره قبل أن يرهق وقبل أن يتعب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا سافرتم فألجوا فإن الأرض تطوى بليل»، وقال صلى الله عليه وسلم: « بارك الله لأمتي في بكورها»، حثهم على التبكير والإدلاج في أسفارهم، وجاء عن صخر بن وداعة أنه إذا كان سافر لتجارته بكر، فأثرى إذا ذهب لتجارته، فهذه نماذج تعتبر من سفر الدنيا إلى سفر الآخرة، وأن التبكير والإدلاج فيه بركة، فالمسافر يحتاج أن يبكر في سفره.

وأنت مسافر أيها العبد إلى الله عز وجل فبكر بطاعتك لله ولا تمهل، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، وشاهدنا من هذا الحديث العظيم، شاب نشأ في عبادة الله، أي: بكر في الطاعة فاستمر عليها، نشأ فيها، وداوم عليها، فإذا إدلاج، هذا سير هذا تبكير بالطاعة لله عز وجل، لهذا أمن في ذلك اليوم من ذلك الحر وبقي في ظل عرش رب العالمين سبحانه؛ ذلك لأنه بكر لأنه أدلج، وأضح من هذا ما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه مما يدل على أن هذا المسافر إذا أدلج وبكر إلى الله سبحانه وتعالى وسارع، فإن ذلك نجاة له من الهلكة، ثبت من حديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان»، والعرب كانوا إذا رأى رجل ينذر قومه الجيش قد دنا منهم أخذ ثوبه ولوح به، حتى ولو بقي عرياناً، هذا يدل على أن العدو قد دنا ليهلكهم فيأخذون حيطتهم وحذرهم: « وإني أنا النذير العريان، فالنجاة النجاة، فأطاعه قوم فأدلجوا فمضوا على مهلهم فنجوا، وكذبه آخرون فأصبحوا في مكانهم فأدركهم العدو فأهلكهم، فذلك مثل من أطاعني ومثل من كذب ما جئت به من الحق».. الحديث.

الشاهد من هذا على أن الإدلاج يحتاجه المسافر، أنت تحتاج إلى تبكير سواء كان في عملك الصالح أو كان في صدقتك، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: « يا رسول الله! أي: الصدقة أعظم؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان»، معنى ذلك: أن الصدقة في ذلك الحين إذا أبطأ بها وتأخر بها فإنها لا تقبل ولا تنفع، وإنما تنفعه ونفعها أعظم حين أن يبكر بها وحين أن يعجل بها.

ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، القصد القصد تبلغوا»، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم العباد في سفرهم إلى الله عز وجل أن يستعينوا بثلاثة أحوال:

الحال الأولى: الغدوة أي في أول النهار وقت نشاطك.

والثانية: الروحة، أي: في آخر النهار.

والثالثة: الدلجة في الليل السير في الليل.

فهذه ثلاث مراحل للمسافر إلى الله عز وجل سبب نجاته وسبب وصوله إلى الله سبحانه، وجاء حديث فيه ضعف وهو في الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة»، صححه العلامة الألباني رحمه الله بطرقه وشواهده.

الشاهد من ذلك ما تسمعون؛ أن المسافر إلى الله عز وجل -كما هو شأن عباده- أنه يحتاج إلى أمور: منها تقوى الله عز وجل، ومنها التبكير والإدلاج أي: إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.

هكذا أمر التبكير والإدلاج في الأعمال له شأنه، فالله سبحانه قد وصف عباده السابقين بالخير والثناء الحسن عليهم، قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾[الواقعة:10-15]؛ وما سبقوا إلا باجتهادهم وتبكيرهم وهكذا إدلاجهم وسيرهم الحسن إلى الله سبحانه وتعالى.

قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[التوبة:100]، فأمر الإدلاج والتبكير له شأنه، أبو بكر الصديق تغاضب مع بعض الصحابة وتخاصم مع بعض الصحابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فإنني جئتكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت».

الشأن في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء وإلى حيث شاء من العلا، رجع فأمره الله عز وجل أن يبلغ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾[الإسراء:60]، ليختبرهم، فأمره أن يبلغ قومه فجمعهم، ثم جعل يصف لهم على أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة إلى البيت الحرام، فجعلوا يتضاحكون ويتعجبون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لهم بيت المقدس وقد مثل له؛ يصفه أمامه ينظر إليه، مع أنه قد رآه هناك، لكن لدقة الوصف أيضاً مثل له يصفه، والذين قد ذهبوا إلى بيت المقدس للتجارة يعرفونه وعرفوا ذلك الوصف ودقته، ولكن مع ذلك لم تطب أنفسهم بالتصديق، وقال أبو بكر صدقت يا رسول الله، ثقة بالله عز وجل، ثم برسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذا كان له فضل السابقية: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾[التوبة:40].. الآية، فكان من توفيق الله له بعد هذا كله، أن جعله الله صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً وحضراً، ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاناً إلا خرج معه، أبو بكر وعمر، ذهب أبو بكر وعمر وجاء أبو بكر وعمر، كما في الرواية.

الشاهد من ذلك أمر التبكير حتى في طلب العلم، حتى في الإسلام، حتى في التفقه، كلما كان الإنسان مبكراً في ذلك مع مداومته على ذلك كان ذلك له فضل على غيره بقدر تبكيره واستمراره على ذلك الخير، ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله»، أي: لكونه سابق في ذلك: « فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة»، أي: لكونه أسبق في ذلك، أقدم في ذلك وأقوى في ذلك: « فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة»، وفي لفظ: « فأقدمهم سلماً» أي: إسلاماً، وفي لفظ: « فأكبرهم سناً»، كلما استووا كانت السابقية لها فضلها، كانت السابقية والتبكير في الشأن والإدلاج فيه له شأنه.

هذا أمر مهم عباد الله؛ أن المسافر يجتهد في سفره، أيضاً المسافر يحتاج إلى أن يجتهد في سفره، مادام السير ماشياً فإنه يمشي ولا ينقطع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد في سيره، وربما سار بليل، وكم قطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيافي والقفار من مكة، بل من المدينة إلى تبوك، إلى أماكن كثيرة وبلغوا السند والهند؛ وما ذلك إلا بجد واجتهاد، حتى جاء من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير بليل، وربما مال عن راحلته من شدة النوم، من شدة النوم وهو لا يزال سائراً، في عشر سنين بلغت دعوته كثيراً من الأماكن وفتح الله سبحانه وتعالى عليه لجده، حتى صار لونه ينقلب الأدمة، وهو وجهه أبيض، وما ذلك إلا لشدة السير والتعب والجد فيه من أجل أن يبلغ دين الله أكثر، وتصل الفتوحات أكثر، وما قبضه الله عز وجل حتى أقام به الدين الملة العوجاء: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3].

هذا الجد في السير يحتاجه المسافر أن يكون جاداً دون متململ اللهم إلا أن يحصل له شيء يقف عنده، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سار في الخصب جعل الإبل تأخذ حقها، وإذا سار في الجدب أسرع عليها، وتأخذ حقها من أجل السير أيضاً أكثر، فالمسافر إلى الله عز وجل يحتاج إلى جد في السير: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[آل عمران:133-134]، « بادروا بالأعمال»، هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في مسلم عن أبي هريرة: « فادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا».

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[المطففين:22-26]، قال: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الحديد:21]، وقال سبحانه مبيناً حال المسابقين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون:57-61]، وشأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم في المسارعة في سفرهم هذا، فقد ثبت في الصحيحين: « أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء أتوا رسول الله، قالوا: يا رسول الله! سبق أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموالهم يتصدقون ويحجون ويعتمرون، -فدلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسابقتهم أيضاً-، فقال ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم إلا إذا صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول، قال: تسبحون دبر كل صلاة، تسبحون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، فسمع إخوانهم -من الأثرياء- بذلك ففعلوا كما فعلوا، فجاءوا أيضاً يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلالة إلى أن يصل الحق بأولئك ويسيروا معهم في الركب، قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

وكم ترى في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرجل يأتي يقول: يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة، أي: أسير فيه حتى ألقاه به، أعتصم به، يقول: « قل ربي الله ثم استقم»، والآخر يقول: دلني على عمل أدخل به الجنة، يقول: « أمسك عليك هذا».. وهكذا، الآخر يقول: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بعمل أتشبث به أدخل به الجنة، قال: « لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله».

وهذا كله من مسابقتهم ومسارعتهم في هذا السير وفي هذه الحياة الدنيا.

ألا فإن هذه هي المسارعة حقاً، وإن هذه هي المسابقة حقاً في هذا السير وفي هذا السفر، فمن سبق في هذا السفر إلى الله فهو الناجي، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، نسبه لا ينفعه، ماله لا ينفعه: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾[سبأ:37]، والله ما نفع أبا جهل نسبه، ولا أبا لهب نسبه، ولا أبا طالب نسبه ولا قربه ولا نفاحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بطأ به عمله وتأخر به عمله، ولم يكن ذلك العمل دافعاً به إلى الله في هذا السفر وفي هذه المراحل الدنيوية.

ألا فعليكم عباد الله، وعلينا وعلى سائر المسلمين أن نعرف حقاً أن هذه الدنيا هي سفر مراحل، كل يوم وكل لحظة وأنت راحل في سفرك، فليتخذ امرؤ زاده إلى الله سبحانه وتعالى، وليعمل بوسائل السفر، وليست أمور الدنيا بأجدر من أن يعمل بوسائل السفر فيها العظام الجسام التي هي شقاوة أو سعادة، قال الله سبحانه: ﴿يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود:105-108]، كل ذلك بسبب مراحلهم، كل يبطأ في هذه.

غاديان الناس، ينقسمان إلى قسمين: « كل الناس يغدو»، كلهم مسافر، كلهم راحل: « فبائع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها»، هكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن هذا السفر في هذه الحياة الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى يتفاوت فيه الناس من واحد إلى آخر، وكلما كان الإنسان جاداً في سفره إلى الله سبحانه كان أرفع رتبة في هذه الدنيا والآخرة: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾[آل عمران:163]، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾[الأنعام:132]، فهي درجات: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾[الإسراء:21]، وما هذه الدرجات إلا بالمسارعة إلى الخيرات، إن هذا المسافر يحتاج أن يتجنب أماكن الهلاك والطرق الملتوية، والمختلفة، ويسير طريق الجادة، لا شك أنه إن تشتت به الطرق ضل وهلك، ولقد كان العرب في أزمنة ماضية يجعلون منارات للذي يريد مكة أو طريق بلد كذا وكذا، فإذا وصل إلى ذلك المكان نظر إلى تلك العلامة الأخرى، وهاهم الناس الآن في هذه الأزمنة في الطرق المعبدة، كذلك يجعلون لوحات؛ لوحة إلى طريق فلان إلى مكان فلان، حتى لا تتشعب بك في هذه الدنيا ولو على راحلة وتشعبت بك ما تصل، وربما تهلك وينقطع بك الطريق، ويتخطفك اللصوص، ويتخطفك كذلك الأشرار وأولاد الشر والفتن فتضيع وتهلك، وهذا معروف، وكم من إنسان هلك في الطرق؛ طرق دوية مهلكة.

فالمسافر إلى الله يحتاج يعرف الطريق، يعرف الطريق التي يسير عليها، ولا معرفة لك للطريق أيها المسلم إلا أن تتفقه في دين الله، حتى تسير في سفرك إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يتخطفك اللصوص ولا الأشرار، ولا ذووا الأغراض الدنيوية.

ومن تلك الطرق المختلفة: المخالفات للسنة، فقد النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً قول الله عز وجل: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام:153]، هذه وصية عظيمة انتبه لها، هذه وصية إن سلكتها صرت الجادة إلى الله عز وجل، وإن تفرقت بك السبل الملتوية المختلفة هلكت ووقعت في الفتن: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[النور:63]، ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[الأحزاب:36].

هذا السفر يحتاج منك معرفة الطريق، طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، طريق الناجين: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء:69]، الذين ساروا قبلك في هذا الطريق نجوا، فإذا سرت خلفهم فإن الله يقول: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[التوبة:100].

فاعرف الطريق: « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة»، فتفقهك في دين الله طريق من طريق الجنة، هو طريق الجادة، هو الصراط المستقيم: « ما من أحد يخرج من بيته إلا ومعه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج في طاعة الله تبعه الملك برايته؛ لأنه خرج على الجادة، وإن خرج في معصية الله تبعه الشيطان براية»؛ لأنه خرج على طريق معوجة وطرق ملتوية، طرق مختلفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ضرب الله صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط أبواب وعلى تلك الأبواب ستور، وعلى تلك الأبواب داع يدعو ويقول: يا عباد الله! ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرقوا»، وفي لفظ: « ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا»، ولفظة: تفرقوا أقوى: « وخط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، قال: هذا صراط الله، وخط خطوطاً أخرى، وقال: هذه خطوط مختلفة» أي: متشعبة، فمن لم يعرف الصراط ويعرف الطريق الذي يسير في سفره يتشعب ويهلك ويقع في أماكن دوية مهلكة ويكون ضحيتها.

إن هذا المسافر أيضاً يحتاج في سفره إلى أن يذكر الله، كما ثبت عن جابر رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طلع مكاناً سبح، وإذا نزل كبر»، وجاء بنحوه عن أبي موسى وعن غيره، وأن يرفق بنفسه، فرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعهم وهم إذا ارتفعوا مكاناً رفعوا أصواتهم بالذكر، وإذا نزلوا كذلك أيضاً رفعوا أصواتهم بالذكر، قال: « أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وأدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجههم إلى الرفق بأنفسهم، أي: أنهم يسيرون على مهل وعلى طاعة الله وفي ذكر الله عز وجل على مهل، فإن الإنسان إذا رفع صوته بح صوته وتعبت قواه، وبعد ذلك ربما انقطع صوته، فأرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعظم إرشاد، وأنت -أيها المسافر إلى الله- يحتاج أن ترفق بنفسك بطاعة الله عز وجل، ولا تعرضها للفتن ولا للمعاصي، ولا تعرضها للضنك: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾[طه:124-127].

المسافر إذا ضل يحتاج أن يسأل في خلال طريقه إلى الطريق الصواب ثم يعود إليها، هذا أمر لابد منه وإلا هلك، ولا شك أنه ما من مسافر يضل الطريق، ثم يقال: إنك ضللت يا فلان، إنك ضللت يا هذا، إلا ويلف راحلته إلى الجادة ولو مسافة طويلة، ويعود.

وأنت في سفرك هذا تحتاج أن تعود إلى الله إذا حصل لك ضلال أو تيه في طريق من الطرق، فإن الله يقبل الراجعين إليه سبحانه وتعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31]، ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر:1-3]، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر:53]، ولكن ينبغي أن يكون هذا العود وهذا الرجوع قبل أن تحيط بك الهلكة، فقد قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[النساء:17-18]، ولما رجع فرعون في حال لا يقبل رجوعه فيه، ولا يستطيع الرجوع في ذلك الحين البتة: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس:90]، قال الله عز وجل: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس:91-92]، فرجوعك يكون قبل الغرغرة، إذا حصل تيه أو حصل زيغ عن الطريق أو ميل عن الجادة، فإن الله عز وجل يقبل الراجعين، يقبل التائبين والآيبين إليه.

فهذا أمر مهم للمسافر، وهناك أيضاً وسائل يعرفها المسافرون، وكل هذه الأسفار تنطبق على هذه الأسفار إلى الله سبحانه وتعالى.

نسال الله التوفيق لما يحبه ويرضاه. والحمد لله.