الاربعاء ، ٠٨ مايو ٢٠٢٤ -
الصوتيات

لفت النظر إلى أن الشريعة مبنية على جلب المنافع ودفع الضرر(1)

27-03-2009 | عدد المشاهدات 5112 | عدد التنزيلات 1367

[لفت النظر إلى أن الشريعة مبنية على جلب المنافع ودفع الضرر(138)]

خطبة جمعة: (26/ربيع الأول/1428هـ)

(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

==================================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! لقد أكرمنا الله عز وجل بدين كامل شامل، وجعلنا على شريعة من الأمر؛ أمرنا بتباعها، فقال: عز من قائل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3], وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18-19], وسمى الله عز وجل ما أبانه الله عز وجل في هذه الآيات بصائر، قال: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ[الجاثية:20], والبصيرة: هي ما يستبصر بها الإنسان، وسلوك هذه الشريعة بصيرة لكل مؤمن.

وإن مما أتمه الله سبحانه وتعالى لنا وبينه لنا وقامت عليه هذه الشريعة الغراء هو جلب المصالح ودفع المضار، ولا يتأتى ذلك لإنسان إلا أن يسلك سبيل ما أبانه الله عز وجل، فالله أعلم بعباده وأحكم، سواء أبانه في كتابيه، أو أبانه بوحيه على رسوله عليهم الصلاة والسلام: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[النساء:26-28], ومن المعلوم أن النفع محبوب إلى النفس، وأن الضر مبغوض إليها، وهذه فطرة وجبله إنسانيه، ما من إنسان إلا ويبغض ما يضره، بل حتى الحيوانات، ويفر كل الفرار مما يسبب له الضرر في أحواله ومعايشه ودينه ودنياه, يقول الله عز وجل,مرشداً إلى المخلص من الأضرار: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾[الأنعام:17-18], ويقول سبحانه: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[الزمر:38]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾[الإسراء:67], وقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾[يونس:12].

هذا شأن الإنسان أنه يضرع إلى ربه عند البأساء والضراء، ولله في خلقه شئون وحكمه، أنه يصبه بالبأساء والضراء ليلجأ إليه: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ﴾[يونس:12] الضر..

أبان الله سبحانه وتعالى أنه بعد ذلك لا يلتفت إلى ما كان عليه من قبل، فعلم من ذلك أن الضر مدفوع في هذه الشريعة، وأن الضر مبغوض إلى النفوس، سواء كان هذا الضر في الدين أو في الدنيا، فقد قامت الشريعة على المنافع ودفع المضار، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد وغيره، وهذا عليه مدار الفقه وهو قاعدة إسلامية عظيمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار», نفى الضرر في هذه الشريعة، ونفى الضرار، وكل ما كان ضرراً وضراراً ترى الشريعة تحرمه، وهذه نماذج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيان ذلك في دفع الضرر عن الإنسان وهو جنين في بطن أمه، فقد ثبت عن عائشة وابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الحية وذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يسقطان الحامل ويلمعان البصر», وفي لفظ: «ويلتمسان البصر», فعلل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بقتل هذين الحيوانيين بما يحصل فيهما من الضرر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس من الدواب في الحل والحرم: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور، وزيد والحية، وليس على سبيل الحصر، فكلما سبب للإنسان الضرر في دينه ودنياه فإنه يجوز له دفع ذلك الصائل عليه الذي يضر بدينه أو بدنياه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحامل والمرضع أن يفطران، قال في حديث أنس بن مالك الكعبي: «إن الله وضع الصيام عن الحامل والمرضع، ووضع شطر الصلاة عن المسافر»، وما هذا إلا لدفع الضرر عن ذلك الجنين في بطن أمه، فإن المرأة إذا صامت وهي حامل تضرر جنينها وقد يتلف، لهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحامل أن تصوم إذا كان يتضرر جنينها، وهكذا وضع عز وجل عن المسافر شطر الصلاة، قالت عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرة في السفر وزيدت في الحضر» أخرجاه.

ورب العزة يقول في كتابه: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾[النساء:101], ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185], خفف الله سبحانه وتعالى ذلك مبيناً أنه يريد التيسير ولا يريد العسر، وهكذا يسترسل حال الإنسان من حال إلى حال، وهو محفوف بعناية الله سبحانه وتعالى دون أي ضرر عليه، حتى ولو كان بعد ولادته، فإنه تجب حضانته ورعايته في أحضان والديه، قال عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت», ثبت من حديث عبد الله بن عمر، ويقول الله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾[البقرة:233], هذه الرضاع، سواء كانت المرأة في عصمة زوجها أو بعد فراقه لا تزال لازمة لابنها عليها، وللولد على أبيه، كل ذلك لا يحصل الضرر لا على الابن، ولا على المرأة بسلب ولدها منها، ولا على الوالد ببكاء ولده وتألم ولده، فشريعة كاملة ضامنة للسلامة من الفتن ومن الأضرار لمن التزم بها، وإذا حصل الفرق فإن الحضانة أيضاً لازمة للطفل حتى لا يتضرر، والحضانة مرعية بمصالح المولود، فإذا حصل ضرر على المولود عند أحد الأبوين إما في دينه وإما في دنياه، وجب انتقال ذلك الصبي إلى من يرعاه رعاية حسنة، وعلى ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاءه والد وولد وأمه في هذه المسألة بالذات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت أحق به ما لم تنكحي», وفي حديث أبي هريرة: «أنه أتي بصبي وبوالديه فارق أحدهما الآخر، فخيره بين أبيه وأمه».

والجمع بين حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة، أن حديث عبد لله بن عمرو فيما إن كان صبياً صغيراً فإنها أحق بحضانته ورعايته وتلبيسه وتنظيفه وتغسيله والقيام على شئونه حفاظاً عليه، وفي ذلك السن الصغير، فإن التربية، إنما هي دائرة في هذا الحال وفي هذا الشأن، فإذا تزوجت شغلت بشئون الزوج، وشغلت بأوامره، وقد تشغل عن حضانة الصبي تنتقل بمجرد العقد المفضي إلى الزواج والتماس شئون الزوج إلى الوالد، وهناك يقوم الوالد برعاية ابنه، وإذا كان مميزاً يخير بين من له حسن الرعاية فيه من الأب أو الأم، فإنه لا يختار إلا من هو أصح له، ومن هو أنفع له وأحسن رعاية له، فإذا علم بعد هذا الاختيار أن أحدهما يفسد عقله ويفسد عقيدته، ويفسد دينه، وجب انتقاله إلى من يصلحه.

وعلى ذلك فإن الحضانة أصل من أصول دفع المضار ومن أصول جلب المصالح للصبي، وهكذا تستمر أمور الولد عند ولديه وهو مرعي بين أيديهما بكفالتهما وتربيتهما: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع», فإن التقاء الولد مع أخته في المضجع، وهو قد يكون مميزاً يفضي إلى الضرر بين البنات والأبناء بما يفسد دينهما، وما يفسد أخلاقهما، لذا مع الأمر بالصلاة أيضاً يجب التفريق بين الذكور والإناث، حتى لا يحصل الضرر الديني على أحد الأولاد، هذا وإن كانوا أولاداً من أب وأم، فكيف إذا كانوا غير إخوة في مدرسة واحدة، في فصل واحد، في مخرج ومدخل واحد، في سيارة واحدة؟ هذا لا شك أن الضرر يحصل بين الأبناء، والفساد الديني يحصل بين الأبناء بما لا يحصل بين الأخ وأخيه، فإن أمر الأخوة يجعل هناك احتراماً في النفوس، وشيمة وحشمة أن تندفع إلى هذا الفساد، ولكن سداً لذريعة الضرر.

أيها الناس! شريعة كاملة من تنكب عنها مثقال ذرة ناله من الضرر بقدر تنكبه عنها قليلاً كان أو كثيراً، في دينه ودنياه، استدلاً بقول ربنا سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[النور:63], وهكذا المرأة لا تضار في الطلاق، كان الجاهلية أو بعد الجاهلية أيضاً الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت عدتها تنتهي راجعها، وهكذا لا يزال التكرار في هذا الأمر، فجاءت هذه الشريعة برفع الضرر عن المرأة بإنهاء هذا الأمر بثلاث تطليقات: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾[البقرة:229].. إلى آخر الآيات، وقال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾[البقرة:231], نفى الضرر عن هذا، وهكذا نفى الضرر عنها وحرم الضرر عنها في عدم السكنى وعدم الرعاية: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾[الطلاق:6], وهكذا نفى الضرر عنها في الإيلاء: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:227], ثلاثة أشهر وبعد الثلاثة الأشهر ليس له أن يجعلها كالمعلقة، إما أن يعاشرها ليرتفع الضرر عنها، وإما أن يفارقها لتتزوج ولتعايش زوجاً يرعاها ويقوم على شئونها.

وما شرع النكاح والطلاق والفسخ والخلع إلا من أجل رفع الضرر: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء», وهكذا: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾[النساء:25], أباح الله الزواج بالإماء مع ما فيه من استرقاق الأبناء لرفع الضرر وخشية الفتنة الدينية: «إن لم يستطع قولاً أن ينكح الحرائر»، وهكذا الطلاق: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة:229], بدون ضرر، بدون مشقة، بدون فتنة، وهكذا الخلع، قالت امرأة ثابت بن قيس: «والله يا رسول الله ما أنقم على ثابت ديناً ولا خلقاً، لكنني أكره الكفر في الإسلام، قال: تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره بفراقها»، وهو رجل صالح لا تنقم عليه شيئاً إلا أنها تبغض البقاء معه، لا تريد أن تبقى معه، فما يضرها ولم يشق عليها ولم يلزمها بالبقاء مع ذلك الرجل الصالح، وقال لها ردي عليه المهر الذي أعطاك, هذا دين ما فيه ضرر: «لا ضرر ولا ضرار».

القصاص والحدود والكفارات كلها لرفع الضرر، دين مبني على دفع المضار وجلب المصالح من أصله وفصله، كله على هذا المعنى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:179], لو أنه سمح بعدم القصاص لحصل الضرر على الناس بحيث أن من اشتهى قتل إنسان قتله، وتراق الدماء، وتفرق الجماعات، ويزعزع الأمن، ولكن القصاص يزجر ذلك الدموي، وذلك الحاقد من أن ينتهك دم إنسان، فإن دمه سيراق، كما أريق دم الآخر كذلك، ومن أجل ذلك يسلم الناس ويدفع الضرر عنهم: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[المائدة:38], هذا من أجل دفع الضرر عن أموال الناس والاعتداء عليها، وإلا فإنه ممكن أن كل إنسان يبغي على مال آخر فيسرقه ويتسلط عليه، ومن أجل ربع دينار فيها تقطع اليد وبها نصف الدية دفعاً للضرر عن الناس على أموالهم.

وهكذا الجلد والتعزير الجلد فيما يتعلق برمي المحصنات، والظلم ورمي الكلام بغير حق يجلد ثمانين جلدة: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾[النور:4], كل ذلك صيانة لأعراض الناس ورفع الضرر عن الأعراض، عن الأموال، عن الدماء من أجل أن الناس يجنبون هذه الأضرار.

وهكذا كما تعلمون ما شرع الله وأوجب الله حاكماً ومحكوماً عالماً مفتياً ومستفتياً: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43], إلا من أجل أن ترفع الأضرار عن العباد وإلا يفشو الفساد ويظهر الفساد، وتمر الحياة.

وشرع الله عز وجل حكاماً أمرهم أن يقوموا بشئون الناس: «كلكم راع ومسئول عن رعيته», لدفع البغاة: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[الحجرات:9], هكذا لا تُضر الطائفة الأخرى، المبغى عليها لا تتضرر؛ فيقيم شئونها ذلك الوالي ويدفع الضرر، وقال في الخوارج: «شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا»؛ وذلك لأنهم يضرون بالمسلمين، يبغون عليهم، يسفكون دماءهم، يستحلون أعراضهم، يكفرونهم، يفسقونهم، يظلمونهم، فلهذا قامت عليهم الأدلة، وقام عليهم أهل العلم تنفيذاً للأدلة؛ لئلا يحصل الضرر على المسلمين من قبلهم، ولو كانوا مسلمين.

وهناك نماذج كثيرة يطول ذكرها في رفع الضرر عن شئون الناس في البيع والشراء: لا نجش، لا غرر في بيع، لا خداع، أمر الحجر والتفليس، كله من رفع الضرر، يحجر على الإنسان لا يضرر ماله، ولا يتلف ماله، وهكذا أمر التفليس إذا فلس الإنسان يدعى الغرماء يأخذون ما بقي من ماله، حتى لا يتلف مالهم، وما بقي من مالهم، وليس لهم إلا ذلك، أمر النجش نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا المعنى، الغيبة توغر الصدور، الكذب كذلك أيضاً يوغر الصدور محرم، الزنا والفواحش التي تقطع الأسر وتسبب التهالك، الربا، أكل أموال الناس بالباطل يضرهم: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[البقرة:188], الرشوة كذلك من أكل أموال الناس بالباطل محرمة، وهكذا لا تجد محرماً من المحرمات إلا وسبب ذلك التحريم يعود إلى ضرر فيه على الدين أو الدنيا، ولا تجد أيضاً مدعواً إليه في الشريعة الإسلامية إلا وفيه نفع في حياة العباد وبعد مماتهم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الإنسان إذا كان الضرر عليه في دينه، وقتل من أجل أنه يضر به أو دينه يصير شهيداً، قال رجل: «يا رسول الله: إذا جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار», وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أخذ حق امرئ مسلم بغير حق أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: وإن كان يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك»، فإذا كان هذا الخطر كله في الاعتداء على شيء من دنيا بحيث لو أخذ شبراً من الأرض طوقه من سبع أراضين يوم القيامة؛ لأنه أضر بصاحبه وأضر بأخيه، فإن رفع الضرر عن دين الناس وعن عقائد الناس وعن المنهج الصحيح، وعن الدعوة الصحيحة هذا والله من أهم المهمات، إن الإنسان إذا أصيب بضر في جسمه غاية ما في الأمر يموت، لكن إذا أصيب بضر في دينه وتغلغل ذلك الضر إلى قلبه فسد قلبه: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».

فيجب العناية برفع الضر مبدئياً عن توحيد المسلمين، عن سنة المسلمين، عن عقيدة المسلمين، عن منهج المسلمين الحق، وما عدى ذلك فالأمر أيسر، فإذا صفي للإنسان دينه ولقي ربه لا يشرك بالله، لقي ربه عز وجل وهو طائع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يلقى ربه على خير، وإذا وضع هناك في الجنة بعد أن أصيب بأضرار في الدنيا ينسى كل ما حصل له في هذه الدنيا، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «يؤتى بأشد الناس بؤساً في هذه الدنيا فيغمس في الجنة غمسة، ثم يقال له: هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة قط؟ فيقول: لا يا رب ما رأيت شدة قط ولا مر بي بؤس قط», ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ﴾[يونس:26], هكذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾[النساء:77].

هذا هو المقصود رفع الأضرار عن الناس في دينهم مبدئياً، في عقيدتهم الصحيحة، في الاعتداء على إيمانهم وعلى إسلامهم، ثم رفع الأضرار أيضاً عن الناس في دنياهم، فإن الأضرار الدنيوية تجعل القلوب تضيق، ثم تؤدي إلى الأضرار الدينية، فبين الأضرار الدينية والدنيوية ارتباط.

ونسأل الله السلامة والتوفيق.