الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

لفت النظر إلى أن الشريعة مبنية على جلب المنافع ودفع الضرر(2)

27-03-2009 | عدد المشاهدات 3373 | عدد التنزيلات 1252

[لفت النظر إلى أن الشريعة مبنية على جلب المنافع ودفع الضرر(156)]

خطبة جمعة: (29 صفر 1429هـ)

(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

=================================

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق عباده لليسر، وخلقهم وأبان لهم ما يضرهم مما ينفعهم، فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3]، وقال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد:10]، وقال عز وجل: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾[الكهف:29].

وأبان سبحانه وتعالى وميز كل خير من شر: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأنفال:37].

ولهذا ما من إنسان إلا وتراه ساعياً إلى ما ينفعه وفاراً عما يضره، ولكن منهم من يكون صحيح المفهوم ومنهم من يكون سيئ المفهوم سقيم المفهوم، فكل من أوجده الله سبحانه وتعالى على هذه البرية من بر وفاجر يريد بذلك في هذه الحياة الدنيا أن يجنب الضرر وأن يحصل على ما يسعده ويريحه، ولكن لا سبيل إلى ذلك إلا أن يسلك الإنسان سبل السلامة ويتجنب وسائل الضرر والندامة، فإن الضرر خطير على الإنسان من أجله يفر، ومن أجله يبغض ويحب، ومن أجله قامت حياته كلها، بل وهو لا يزال في بطن أمه ولم يرد الله سبحانه وتعالى له الضرر.

فقد ثبت من حديث ابن مالك الكعبي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر، ووضع الصيام عن الحامل والمرضع»، وهذا الحديث فيه بيان أن الله لم يرد لعباده الضرر، لا للمرأة ولا لجنينها الذي في بطنها، إذا كان ذلك الجنين يتضرر، حتى ولو كان بضعف فيه فإن أمه تفطر خوفاً على جنينها من الضرر، وتحاشياً عليه من ذلك.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم «بقتل الأبتر وذي الطفيتين؛ لأنه يسقط الحمل ويلتمس البصر»؛ دفعاً لضرره، وبعد خروج الجنين من بطن أمه له حالات كلها في غاية الرعاية: «كلكم راع ومسئول عن رعيته»، «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول».

قال الله عز وجل: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾[البقرة:233]، والشاهد من ذلك: دفع الضرر عن المرأة وعن ولدها.

فهذا الدين وهذه الحياة الضرر مبغوض إلى الإنسان صغيراً كان أو كبيراً، جنياً أو إنسياً، ذكراً أو أنثى، في هذه الدنيا وفي الآخرة، الضرر مبغوض، تفر منه النفوس.

وقد ترتبت على الأضرار أخطار، الأضرار التي تحصل بالعباد بسبب ذنوبهم ترتبت عليها أخطار، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30]، فكلما يحصل للإنسان من ضرر في هذه الحياة الدنيا، فالضرر الحاصل به من جنس عمله، ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾[النبأ:26].

﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾[طه:125-127].

الضرر على الإنسان شاق عليه جداً، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾[النساء:10]، وكان هذا من جنس الجزاء من جنس العمل، فإن الذين يأكل أموال اليتامى ظلماً يريد أن يدفع عن نفسه الضرر ضرر الجوع وضرر ما قد ينوبه في هذه الحياة الدنيا، ولكنه أتى من طريق غير شرعي فازداد الضرر عليه، وتوالى الشر عليه؛ فصار ذلك الأكل ناراً يلهب في بطنه يوم القيامة إلا أن يتداركه الله عز وجل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة الحارثي إياس بن ثعلبة رضي الله عنه عند الإمام مسلم قال: «من اقتطع حق مسلم ظلماً أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك»، هذا المقتطع لا شك أنه لا يقتطع حق امرئ إلا ويريد أن يدفع عن نفسه ضرر القلة، والضعف المادي، أو يتزود بذلك ويستكثر به خوفاً من الضرر، ولكنه لما لم يأتِ ذلك من بابه ازداد الضرر عليه، وصار ذلك الذي أراد دفع الضرر به عن نفسه أشد ضرراً عليه يوم القيامة.

وهكذا شأن الجاهلية الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق، أو يقتلون أولادهم من إملاق، إما أنه يقتل ولده خوفاً من حصول الفقر عليه والإملاق عليه، أو أنه في فقر فيخاف من أنه لا يستطيع إطعامه، كان هذا الفعل منهم يريدون دفع الضرر عن أنفسهم والمشقة عليهم، سواء كان ذلك أو بتحديد النسل، ولكن بهذا ازداد الضرر عليهم: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾[الأنعام:140].

إذا أردت أن تدفع الضرر عن نفسك فادفع الضرر بطريقة شرعية ووسيلة سوية، فإن هذا هو في الحقيقة هو الحق أن يدفع الضرر والمشقة يدفعها الإنسان بوسائل شرعية، ولا يدفع الضرر عن نفسه بوسيلة تضاعف عليه الضرر في الدنيا وفي الآخرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في صحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾[هود:102]»، هذا الظالم الذي لا يزال يستدرجه رب العالمين وهو في أخذ أموال الناس أو ما إلى ذلك من شئون الناس، إذا أخذه الله سبحانه وتعالى يكون الضرر عليه شديداً: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾[البروج:12-13]، لا يفلته سبحانه وتعالى.

وتتراكم عليه تلك الأضرار: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا﴾[الفرقان:27-29].

ادفع الضرر عن نفسك بالوسائل الشرعية لا بالوسائل المحرمة البشعة.

السرقة سائر الفتن كلها تحصل في الحياة الدنيا لقصد أن هذا الإنسان أراد أن يدفع عن نفسه الضرر بوسيلة غير شرعية.

فالواجب على المسلم أن يتحرى الوسائل الطيبة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء».

هذه الحقوق التي تؤخذ لقصد الاستمتاع بها في الحياة الدنيا، سواء كانت تلك الحقوق مالية، أو عرضية، أو دموية.. أو غير ذلك.

«أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة.. -وعدد صلى الله عليه وسلم من الأعمال- ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرح عليه»، الشاهد من هذا الحديث: أن الذي اقترف هذه الجرائم منها ما يريد أن يدفع بها الضرر عن نفسه، ولكن أدى به إلى أنه يسلك الطريق غير الشرعية في دفع الضرر، وربما حمله ذلك على البغي والعدوان بقصد أن يدفع الضرر عن نفسه أشد، كان هذا الدفع ضرراً عليه في الدنيا والآخرة.

الله سبحانه وتعالى حرم الضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وقال: «من ضار ضاره الله، ومن شاق شق الله عليه أو: شاقه الله».

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾[البقرة:282]، لا يحصل الضرر من الكاتب بحيث يزيد قليلاً أو يحيف ولا من الشهيد، فإن هذا الضرر ضرر على صاحبه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة:159]، ما حصل لهم ولعنهم الله وسائر اللاعنين إلا أنهم تسببوا في الضرر للناس؛ بسبب جهلهم، وعدم البيان لهم، وإيضاح الحجج، وإيضاح الحق، فكان هذا ضرر على الناس، فاستحق من كتم ذلك لعنة الله على ألسنة سائل اللاعنين من عباده، لعنه الله ولعنه سائل اللاعنين من عباده.

الضرر خطير على الناس، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾[البقرة:233]، كل ذلك لدفع الضرر عن الصبي الواحد.

وفي حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن نساء تنهش الحياة ثديهن، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء النساء اللائي لا يرضعن أولادهن، أو: يمنعن أولادهن لبنهن»، هذا السبب في حرمان هذا الطفل من اللبن والسبب في تضرره.

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحضانة بيد الأم؛ لما لها من الرحمة ودفع الضرر عن الولد.

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحضانة عند الأب إذا تزوجت المرأة بعد زواجها؛ لأنها قد تشغل عن حضانة الولد بشئون الزوج، فربما حصل تقصير عليه أو سوء رعاية، فانتقلت الحضانة إلى الأب؛ دفعاً للضرر عن ذلك الضعيف.

وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة»، فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرج بمن قصر في حق هؤلاء وألحق بهم الضرر.

وأبان الله سبحانه وتعالى أن من عجز عن استعمال الماء أو لم يجده فإن له أن يتيمم دفعاً للضرر عن نفسه، قال الله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾[النساء:43]، فمتى يجد الماء؟ إلى أين يذهب يبحث عنه؟ بما أنه لم يجده دفعاً للضرر عنه يتيمم، وبما أنه لم يستطع استعماله دفعاً للضرر عنه يتيمم: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء:29].

وهكذا إن لم يستطع القيام للصلاة يصلي جالساً دفعاً للضرر عنه: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا المسافر يقصر ويفطر دفعاً للضرر عنه، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾[النساء:101]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة السفر قصر من أبى ذلك فقد كفر» جاء عن ابن عباس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عائشة: «فرض الصلاة ركعتان ركعتان فأزيد في الحضر وأقرت صلاة السفر»، كل ذلك تخفيفاً من ربكم.

هذا الذي أراده سبحانه وتعالى دفعاً للضرر، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾[النساء:26-27].

الله يريد لعباده اليسر وإبعادهم عن الضرر وإبعادهم عن الفتن، وأصحاب الشهوات يريدون لهم العنت والمشقة، ودفع الضرر داخل في سائر أمور الشخص في حياته الدنيوية والأخروية.

ففي أمر النكاح لا يجوز زواج امرأة إلا بأن توافق على ذلك، تستأذن، سواء كانت بالغة أو كانت ثيباً لا بد من أنها لا تجبر، لا يجوز جبرها البتة؛ دفعاً للضرر عنها.

وزواج الشغار ما حرم إلا من أجل حصول الضرر فيه، وأن المرأة إذا لم تعط مهرها صارت مظلومة، وصار بضعها مهراً للمرأة الأخرى، مقابل بضع ببضع، ولا مهر لهذه ولا لهذه، فهذا ظلم، هذا محرم.

وهكذا الخلع، ما شرع الخلع إلا من أجل الضرر: «يا رسول الله أكره الكفر في الإسلام لا أنقم على ثابت بن قيس ديناً ولا خلقاً، قال: تردون عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: فارقها»، ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾[النساء:130]، حتى لا تبقى هي في ضرر ولا يبقى هو في ضرر.

وحرم الله عز وجل بيوع الغرر كلها بأنواعها؛ دفعاً للضرر؛ حتى لا يحصل لهذا ضرر من أنه اشترى شيئاً بمال فيأتي لا يساوي قيمة ماله، سواء كان الفرو على الجلد، أو السمك في البحر، أو الزبد في اللبن.. أو غير ذلك من أنواع الغرر، أو النجش، أو المصراة ترد بالعين؛ لأنه غشه، وحصل له ضرر دفع له مالاً يساوي أرفع من تلك القيمة فجاء مخدوعاً؛ فلهذا لصاحب المصراة وصاحب الغرر السلعة تعاد بالعين؛ دفعاً للضرر عنه.

وهكذا في أنواع البيوع، يدخل أمر دفع الضرر.

وفي الحدود، ما شرعت الحدود إلا من أجل تندفع الأضرار عن العباد: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:179]، فلو لم يكن هناك قصاص كان كل واحد يعبث ويعيث كما يريد، ولكن أمر الله عز وجل بالقصاص من أجل دفع الضرر عن الناس ومن أجل حياتهم، تبقى لهم أرواحهم؛ حتى يقبلها الله سبحانه وتعالى بغير قتل من المعتدين والمجرمين.

نعم، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[المائدة:38]، كل هذا دفعاً للضرر عن أموال الناس، لا تسرق، ولا يعتدى عليها.

وحرم الرشوة، وحرم الربا، وعاقب الله سبحانه وتعالى على ذلك بعقاب شديد: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[البقرة:275] حفاظاً على أموال الناس، لا يضار المسلمون في أموالهم.

هذا باب واسع جداً مما يتعلق بدفع الضرر المتعلق بأحوال البشر في سائر حياتهم.

الشاهد من هذا: على أن الحياة كلها قائمة على دفع الأضرار، ولكن المطلوب أن تكون تتطلب دفع الأضرار على الوجوه الشرعية، ومن تطلب دفع الأضرار عن غير الشرعية ضاعف الأضرار على نفسه، والله المستعان.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل»، هذا الحديث فيه حث من رسول صلى الله عليه وسلم على أن العبد يحرص على ما يدفع به الضرر عن نفسه وما ينفعه، ولا يعجز، فإن هذا هو الكيس في الحقيقة: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».

ومن أعظم الحرص على دفع الضرر عنك في هذه الدنيا والآخرة عبادة الله سبحانه وتعالى، إقامة توحيده، والتفقه في دينه، فإن هذا يدفع الله سبحانه وتعالى به عنك أضراراً كثيرة، هذا يدفع بك إلى طاعة الله، وإذا لزمت طاعة الله فإن هذه الطاعة من أعظم دوافع الضرر وإبعاد الضرر عنك، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق:2-3]، قال الله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[الطلاق:3].

وهكذا يدفع الله سبحانه وتعالى بها عنك ضرر النار بسبب الطاعة: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء:69]، إذا أنت أطعت الله اندفع عنك ضرر الدنيا وضرر الآخرة، كل ذلك بسبب طاعة الله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عذبت امرأة في هرة، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»، حصل لها هذا الضرر بأنها ما أطاعة الله سبحانه وتعالى، وحصل منها ظلم حتى على هرة، ولو كانت هرة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة أصابها العطش ونزلت بئراً، أو رجل أصابه العطش ونزل بئراً وشرب ثم رأى كلباً يلهث من شدة العطش، فملأ خفه وأعطاه الكلب، فشرب الكلب، قال: «فشكر الله له فغفر له»، بسبب: أنه دفع الضرر عن كلب، كانت مغفرة لذلك الشخص أن دفع ضرر الهلكة عن ذلك الكلب.

وركب رجل على بقرة فالتفت إليه البقرة وقالت: ما خلقت لهذا، إنما خلقت للحرث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أشهد على ذلك، أنا وأبو بكر وعمر»، أي: على أنها تضار بهذا، ليس للركوب هي.

ولما حرق رجل جملة من النمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا نملة واحدة، هلا نملة واحدة».

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم حمرة تفرش تطلب ولدها، قد أخذ ولدها، قال: «ردوا على هذه ولدها».

إنه دين فيه دفع الضرر من جميع الجوانب عن الإنسان والحيوان والطيور، وعن الجن والإنس، والأبرار والفجار، ليس فيه ضرر لأحد أبداً إلا بقدر ما يقترفه الشخص ويستحق على ذلك، إما في الدنيا وإما في الآخرة.

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم جملاً يجرجر، أو قد التصق بطنه بظهره، قال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة كلوها صالحة واركبوها صالحة».

هذا كله من دوافع الضرر في هذا الدين، وأنه دين لا ضرر فيه، ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ﴾[الحج:78]، قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾[الحج:78].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر»، يسر على جميع المخلوقات، ما من مخلوق له رحمة وفيه له خير كثير، وليس في هذا الدين أي ضرر، ولم يرد الله سبحانه وتعالى بعباده الضرر أبداً.

﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى﴾[طه:1-4].

وإنما العباد هم الذين يلجون في الضرر، وهم الذين يقترفون أسبابه، فالواجب على المسلم أن يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله، والله الموفق.


قصيدة لأحد الزوار لدار الحديث بدماج حرسها الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله عظيم المنة، وناصر الدين بأهل السنة، ثم الصلاة والسلام ما جرى في هذه الأفلاك نجم أو بدا على رسول الله خير الرسل والآل والصحب وأهل الفضل.

أما بعد:

فنحمد الله سبحانه وتعالى أن يسر لنا زيارة هذا المركز المبارك مركز شيخنا أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله تعالى، وقد استفدنا من هذه الرحلة فوائد عظيمة، جزاهم الله تعالى خيراً على حسن الضيافة وكرمها، وهذه القصيدة بعنوان:

(سـلام على دمـــاج)

أقول فيها:


 

سلام على دماج في القرب والبعدِ
سلام يديم الود بين قلوبنا 
محبتكم عندي من الدين شعبة
وما عجب مني إذا حكت بردة
فشتان ما بين القوافي إذا انتشت
لقد سرنا والله ما قيل عنكم
فذكراكم يا شيخ في كل بلدة
نسائل عنكم من أتى لديارنا
فأنتم لنا يا شيخ كالشمس في الدنا
فكم سنة أحييت يا شيخ عصرنا
كتاباتكم أضحت ينابيع سنة
فهذه فجاج الأرض قد عمها الهدى
وهذا بفضل الله ثم بفضلكم
وقد جاءك الطلاب من كل بلدة
فطوبى لكم طوبى بمجد وسؤدد
فلله ما أحلى الحديث إذا جرى
فهم زينة البلدان في كل حقبة
عسى ربنا الرحمن يجمعنا بهم
وهم نفر عز الزمان بمثلهم
وليس يضير القوم ما قال شانئ
أجل على الشيخ الحجوري قومنا
أقلوا عليه اللوم لا در دركم
وما هذه الأبيات إلا نصيحة

 

وإن كان تسليمي من البعد لا يجدِ
فإنا وإن طال الزمان على العهدِ
لأنكم أهل لذا الحب والود
من المدح فيكم يا أولي الحل والعقد
بمدح لكم فالمدح للحق كالشهد
من الخير يا شيخ الحديث مع الزهد
وعلمكم كالغيث للأهل والولد
وندعو لكم بالبرء من كل ما يردي
فبصر رعاك الله بالمنهج الفرد
وكم بدعة قمعت بالعلم والرشد
بها يرتوي من كان بالحق يستهدي
ومنهاج خير الرسل واسطة العقد
وفضل دعاة لا يحاطون بالعد
لتسمع أخبار النبي مع النقد
  وما المجد إلا نعمة الله ذي المجد
على منهج فذ لأسلافنا السعد
بهم يقتدى كالنجم في القرب والبعد
مع الأهل والأصحاب في جنة الخلد
لهم قدم كالطود في النقد والرد
ولو حلت الأجساد في الترب واللحد
فإني أراه اليوم في الأرض كالطود
فأنتم بدون الشيخ كالأعين الرمد
تفوح بذكر الشيخ كالعود والورد

 

والحمد لله رب العالمين