السبت ، ٢٧ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

الأدلة الظاهرة على ثمار التوبة إلى الله عز وجل في الدنيا والآخرة

02-04-2009 | عدد المشاهدات 9185 | عدد التنزيلات 1645

[الأدلة الظاهرة على ثمار التوبة إلى الله عز وجل في الدنيا والآخرة(106)]

خطبة جمعة بتاريخ: (14/ رمضان/ 1426هـ)

(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

==============================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! إن الناس في هذه الحياة الدنيا منهم من ينصرف إلى الدار الآخرة سعيداً، ومنهم من ينصرف إليها شقياً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[الشورى:7]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنسَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود:105-108]، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾[الكهف:29]، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3].

وروى الإمام مسلم في صحيحه والحديث ثابت عند أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، منهم من يبيع نفسه فيعتقها، أي: يشتريها، ومنهم من يبيع نفسه فيوبقها ويجلبها إلى نار جهنم، فالناس من هذه الحياة الدنيا ينصرفون إلى صنفين: إلى ما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، وهناك صنف ثالث يعتبر من الناجين ومن المفلحين، وهو مهما حصل بذنوبه ثم كان رجوعه إلى الجنة، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾[فاطر:32-33]، والذين يظلمون أنفسهم معرضون لعذاب الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، ودل هذا على أن من لم يشرك بالله وخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فإن الله عسى أن يتوب عليه وقد يمحصه بذنوبه للآية المذكورة، ومع ذلك فهو يعتبر من الناجين من الخلود في نار جهنم.

وإذا كان الأمر كذلك فاحذر على نفسك أيها الإنسان أن تخسرها، وأن تنصرف من هذه الحياة الدنيا إلى منصرف خطير جداً، إلى منصرف يعتبر شقاوة وتعاسة لا شقاوة بعدها: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾[الزمر:15-16].

وإن من أعظم ما يوفره الإنسان على نفسه في هذه الحياة الدنيا ويتخلص به من منصرف خطير جداً، لهو التوبة إلى الله سبحانه وتعالى من الذنوب، فإن التوبة توفر عليك أعمالاً كثيرة، توفر عليك أموراً كثيرة، توفر عليك أرزاقاً كثيرة طيبة، توفر عليك مخارج من الفتن والمضايق في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82].

ومن فوائد التوبة وتوفيرها عليك: أن الله يغفر ذنوبك، وإذا غفرت ذنوبك فإنك بإذن الله عز وجل منصرف إلى المنصرف الحسن، إلى دار السعداء.

ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مبيناً أن التوبة توفر حتى على من كان كافراً ثم تاب، وتذهب جميع ذنوبه بإذن الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾[الأنفال:38]، كل ما سلف ولو لم يتب إلا قبل الغرغرة بقليل، «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»، فإن هذا العمل كله الذين اقتناه واقترفه في حياته جميعاً كله يغفره الله سبحانه.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى أبا طالب وهو يحتضر يطلب منه التوبة إلى الله عز وجل قائلاً له: «يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك فيها عند الله»، ولو وفق أبو طالب وتاب في تلك اللحظة لنجا من عذاب الله عز وجل.

وفي الصحيحين: أن أسامة رضي الله عنه قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، ولم يكن عمل صالحاً قط ولا أسلم، ولم أدركه أسامة ليقتله قال: لا إله إلا لله وتاب، فقتله أسامة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «يا أسامة! ماذا تصنع بلا إله إلا الله؟! أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟!»، فدل هذا أن توبة ذلك الرجل حقنت دمه، وسائر من تاب إلى الله سبحانه وتعالى من الكفر يحقن دمه وماله إلا بحق الإسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» أخرجاه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وسحرة فرعون لطالما سحروا وأراد الله لهم التوبة، فوفرت عليهم هذه التوبة حياة طويلة توبة لحظات ماتوا عليها، أمرهم فرعون بالسحر فسحروا، ولما رأوا الحق تابوا إلى الله سبحانه وتعالى، فهددهم بالقتل: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾[طه:71]، ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى﴾[طه:71-75]، وتحصلوا في تلك اللحظات أن تيسرت لهم الشهادة وكانوا من أهل الدرجات.

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يا رسول الله! أسلم أم أقاتل؟ قال: أسلم، فأسلم فقاتل، فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عمل قليلاً وأجر كثيراً»، لم يركع لله ركعة ولكن التوبة وفرت عليه خيراً كثيراً، وصار له الأجر الكثير، وصار من المسلمين الناجين من عذاب الله عز وجل.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يضحك لرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيستشهد»، فدل هذا على أن التوبة يفرح الله بها، يفرح الله بتوبة التائب.

وفر على نفسك أيها المذنب، أيها العاصي، أيها المقترف للذنوب ليل نهار كما أخبر عنك الله سبحانه وتعالى في ذلك الحديث القدسي لما روى الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه قال فيما يروي عن ربه عز وجل: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم»، لا مخرج لك من الذنوب، ولا خلاص لك منها إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فأنت لاج فيها ليل نهار، ويتفاوت الناس في الذنوب، مستقل ومستكثر، وفر على نفسك بالتوبة إلى الله حتى تستغفر لك ملائكة الله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[غافر:7-9]، توفير عظيم، يتوب العبد إلى الله سبحانه وتعالى وإذا بملائكة الرحمة تستغفر له، فيغفر الله سبحانه وتعالى له، ولو كان يدعو غير الله، ولو كان مجرماً من المجرمين ثم تاب إلى الله فإن الله لا يرد توبته النصوح، لا يرد توبته الصادقة إذا علم الله صدقه.

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾[الفرقان:68-69]، بماذا سيتخلص من هذا الهول وهذه المباهتات العذابية؟ بالتوبة إلى الله، ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الفرقان:70]، تلك السيئات جميعاً يبدلها الله سبحانه وتعالى حسنات، وجميع ما عمله في كفره، من تاب ومات على الإسلام فإن حسناته التي عملها من قبل لا تحبط وتحسب له، قال النبي عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل: «أسلمت على ما أسلفت من خير»، ومن عمل براً وصلة وعطاء وإكراماً وخيراً في كفره ثم أسلم فإن أعماله الصالحة تكتب له في ميزان حسناته بعد إسلامه وتبقى له يوم القيامة إذا لم تحبط، وإنما يحبط الأعمال الكفر، وعدم التوبة إلى الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة:217]، ولاحظ هذا القيد: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾[البقرة:217]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾[إبراهيم:18]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، تركته وعمله الذي أشرك فيه، أما الإنسان المسلم فيتوب فإن أعماله لا تحبط، وإن أعماله لا تذهب، بل مكتوبة له من توبة وسائر الأعمال الصالحة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾[الأنبياء:94]، وقال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء:47]، وقال الله: ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾[آل عمران:195].

وفر على نفسك بالتوبة أيها المسلم حتى تستفيد من حياتك، وتنصرف منصرفاً حسناً من هذه الحياة الدنيا، وتسعد في قبرك وفي سائر حياتك في الدنيا والأخرى.

إن التوبة أيها الناس! لهي من أسباب الرزق الحسن، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾[هود:1-3]، إذا أردت المتاع الحسن في صحتك فعليك بالتوبة، وإذا أردت المتاع الحسن في رزقك فعليك بالتوبة، وإذا أردت المتاع الحسن في سعادتك وقلبك فعليك بالتوبة، وإذا أردت المتاع الحسن في مسكنك فعليك بالتوبة، وفي زوجتك، وفي أولادك، وفي سائر حياتك، تب إلى الله من ذنوب تسعد، وفر على نفسك بالتوبة، نعم، فإن التوبة تعتبر قوة للقوي ونشاطاً وتقوية للضعيف، نصح في ذلك هود عليه الصلاة والسلام قومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾[هود:52]، وأوصى بذلك نوح قومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[نوح:10-12]، خير الدنيا والآخرة حاصل في هذه التوبة.

طالما طلب الناس الفلاح الذي يطمع فيه الجاهل والعالم، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، وسائر الناس، يطمعون في الفلاح من طرقه السوية ومن طرقه المعوجة، ولكن الفلاح حاصل في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، لذا أخبر ربنا سبحانه فقال: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾[القصص:65-67]، معنى ذلك: أنه سيكون من المفلحين، قال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾[النور:30-31]، وبعد هذه الأوامر والنواهي في هذه السورة حاثاً على التوبة للفائدة والعائدة على الناس في ذلك: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31].

التوبة فوز أيها الناس، يا من يبحث عن الفوز! فهاهي التوبة طريق الفوز: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة:111]، ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ..﴾[التوبة:112] إلى آخر الآيات، وذكر الله عز وجل أن طريق الفوز هي التوبة والعبادة وما ذكره في هذا الأمر، وفر على نفسك أيها المسلم بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، في سائر حياتك.

وهكذا لتعلم أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أكرمهم الله عز وجل بالتوبة، فقد كانوا تائبين، وانظر إلى نبي الله إبراهيم يعمل العمل الصالح ويطلب أن يتوب الله عز وجل عليه: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة:127] ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة:128]، يعمل الصالح يبني بيت الله، أوذي من المشركين، أرادوا إحراقه، إمام الحنفاء في ذلك الزمن، ومع ذلك يطلب من الله التوبة.

موسى عليه الصلاة و السلام كذلك: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأعراف:143]، كليم الله يتوب إلى الله سبحانه وتعالى.

وآدم عليه السلام أيضاً تداركه الله سبحانه وتعالى بالتوبة إليه: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة:37].

أكرم الله أنبياءه بالتوبة إلى الله سبحانه؛ فلهذا الله قدرهم ومنزلتهم عنده سبحانه وتعالى، ومن أراد الله رفع شأنه وعزة قدره فإن الله يعطيه التوبة، رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه الله عز وجل من ذلك الحق الأوفر، بل يسمى بنبي التوبة، الذي جاء بالتوبة وكانت بنو إسرائيل تقبل منهم التوبة بقتل أنفسهم: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾[البقرة:54]، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء بدين اليسر، ويسمى بنبي التوبة، كما في حديث أبي موسى عند الإمام مسلم: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا المقفي، وأنا الحاشر، وأنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة»، كذا قال عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن عمر: «كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم» .

أيها الناس! لو لم يستفد الإنسان من التوبة إلا أن الله يحبه، فإن الله يحب التوابين، فإن هذه أعظم فائدة في الدنيا، فمن أحبه الله أكرمه، وأعظم فائدة في الآخرة فمن أحبه الله نجاه من عذابه وأدخله رحمته، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[البقرة:222]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم سقط على راحلته وقد أضلته بأرض فلاة وبينما هو كذلك إذ رأى راحلته فأخذ بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ..» الحديث.

والشاهد من هذا كله: أن الله عز وجل إذا أحبك دافع عنك: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[الحج:38]، «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب»، وكما في حديث أبي هريرة عند الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل كما في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه..» الحديث، وأنت بإمكانك أن تتوب في كل حين فتستفيد محبة الله سبحانه وتعالى، علمت الذنب أو لم تعلمه، فإنك مذنب، وإن الذنوب حاصلة منك، وأنت إن تبت إلى الله عز وجل استفدت من حياتك وأوقاتك، واستفدت من منصرف حسن، والحمد لله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

وكل ما يحصل في جسدك وفي رزقك وفي ولدك وفي حياتك حاصل من نفسك، فينبغي أن تفتش، وأن تفلح إلى الله عز وجل من ذنوبك، وأن تسعى في الفرج عنك بالسرور الحسن وفي الطاعة لله سبحانه وتعالى.

ولقد فرج الله سبحانه وتعالى عن نبيه يونس عليه الصلاة والسلام حين تاب إلى الله ففرج الله عنه في لجج البحار: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء:87-88]، والله نجاه من غمه ومن لجج البحار وفي جوف الحوت؛ بسبب توبته وضراعته إلى الله، وبسبب أنه عرف أنه بحاجة إلى التوبة فتاب إلى الله عز وجل من ذلك.

وهكذا كعب بن مالك رضي الله عنه تاب الله عليه حين تاب: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[التوبة:117-118]، تاب الله عليهم، وكعب بن مالك قال: لقد تنكرت لي الأرض، تنكرت في وجهه الأرض، فما هي بالأرض التي يرى أو التي يعرف، هجره القريب والبعيد، وحصل له ضيق، وحصل له كرب، ولما علم الله توبته وصدق توبته فرج الله عنه، وجاء هذا يستقبله وهذا يبشره، وواحد يصرخ من بعيد: يا كعب! أبشر بتوبة الله عليك، والآخر يركب فرساً يريد يبشر كعب بن مالك، وصار في سعادة وفي سرور بعد ضيق حصل عليه، ولكن الله فرج عنه بالتوبة الصالحة، وقال الله في المنافقين شر قوم الذين ما صدقوا في توبتهم، ولا يزال الله سبحانه وتعالى يقول: ومنهم.. ومنهم.. ومنهم، حتى كاد لا يسلم منهم أحد، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه.

فيا أيها المسلم! إن التوبة الصادقة أنت مأمور بها، وهي منك تعتبر تلبية لطلب رب العالمين منك؛ لأنه بك رحيم: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[النساء:26-28]، هذه أوقات يستغل الإنسان فيها حياته، سائر العمر واللحظات والساعات والأيام والأوقات، يستغل الإنسان فيها حياته فيتوب إلى الله بين الحين والآخر من ذنوبه ويغتسل بالحسنات، ويوفر على نفسه أعظم مخرج من الفتن ومن المصائب ومن الأضرار والأخطار هي التوبة؛ لأنها تحصل كلها بالذنوب.

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30]، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41]، ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[السجدة:21]، ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[القلم:33].

دلت هذه الأدلة أن ما يحصل بالناس في حياتهم بسبب ذنوبهم، وأنه لا مخرج من الفتن، ولا مخرج من الأمراض والأسقام التي تضاعفت وتكاثرت على الناس بسبب ذنوبهم، ولا مخرج من القحط والجدب والبلاء والقتل والقتال، ولا محرج أيضاً من كثرة التفرق والتمزق والتشرذم بين المسلمين إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إلى كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى:10]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء:59].

خير لك والله من التمادي في الباطل أيها المسلم ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الزمر:53-58].

من الآن قبل أن تقول تلك المقالات يجب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويستقيل من حياته، فإن الذي لم يتب في هذه الحياة الدنيا يندم ويتحسر ويتمنى الرجوع: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾[المؤمنون:99-100]، يريد أن يرجع فيتوب، فلا يستجاب لدعائه ذلك: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[المؤمنون:100]، إن الذي لم يستفد من حياته بالتوبة إلى الله سبحانه يتهم عقله بالبله: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:10-11].

رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم وفقه الله للتوبة، فوفر على نفسه بمجرد خطوات مشاها في تلك الطريق فأخذته ملائكة الرحمة، فالتوبة توفير عليك أيها المسلم في حياتك هذه، في الدنيا والأخرى، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة في كتابه، فهي واجبة من كل ذنب صغير أو كبير، دقيق أو جليل، فيما يتعلق بحقوق الآدميين، وفيما يتعلق بالحقوق بين العبد وربه، وفيما يتعلق بالذنوب فيما بين العبد وبين نفسه أيضاً التي اقترفها واجتناها كل ذلك واجب في كل لحظة: أن الإنسان يعرف من نفسه أنه بحاجة إلى التوبة إلى الله، وأنه إن لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى عرض نفسه للضرر والخطر، ولأنه يخشى عليه أن يكون من ذلك الفريق الذي ذكر الله: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[الشورى:7]، نسأل الله العافية.