الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

الاســـــــــتقامة

12-07-2009 | عدد المشاهدات 8396 | عدد التنزيلات 2081

 

الاســـــــــتقامة
خطبة جمعة بتاريخ:
(21 ذي القعدة: 1426هـ)
(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)
الدفعــة رقم[2]
====================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1]،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ممتناً على قريش: ((لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ))[قريش:1-4].
وهذه منة عظيمة، فالله هو الذي يطعم، والله هو الذي يؤمن من سائر الخوف.
((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ))[العنكبوت:67]، وقال سبحانه: ((وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا))[آل عمران:97]، فامتن الله عليهم بإذهاب الخوف عنهم.
والخوف من المزعجات والمقلقات، سواء كان في الدنيا أو في الأخرى، وإن أعظم ما يذهب الخوف ويزيل الحزن وتحل بدل ذلك السعادة والطمأنينة وهدوء البال الاستقامة على دين الله، ومن أراد أمناً بغير استقامة لا يتحصل على الأمن، ومن أراد هدوء بال بغير استقامة لا يتأتى له ذلك: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ))[الرعد:28-29].
وانظر إلى ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في سورة فصلت، آية عظيمة: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا))[فصلت:30]، ما هو المستفاد من وراء ذلك؟ وما ثمرة ذلك؟ قال الله عز وجل: ((تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ))[فصلت:30-31] أي: في الجنة، ((وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ))[فصلت:31-32].
وهذه الآية العظيمة شملت ثماراً كثيرة من ثمار الاستقامة:
الثمرة الأولى: تنزل الملائكة على المستقيم، وتتنزل عليه في عدة مواضع، وفي عدة حالات، ومن تلك الحالات عند موته، تنزل الملائكة تبشره وتطمئنه؛ ليستريح ويهدأ باله ويستبشر بما هو قادم عليه ولا يقبح بما حصل له في هذه الدنيا، وتتنزل عليه إذا حصل بينه وبين أعداء الله صدام قولياً أو فعلياً: ((إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ))[الأنفال:12]، ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ))[آل عمران:152].
ولقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الله صدق أولياءه وعده، وأنزل عليهم ملائكته يثبتونهم، وبشرهم بخمسة آلاف من الملائكة: ((يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ))[آل عمران:125].
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل: من خير الملائكة؟ قال: {أهل بدر، خير الملائكة أهل بدر الذين نزلوا لتثبيت أولياء الله}.
ولقد وكل الله بالإنسان ملائكة يحفظونه من أمر الله، أي: بأمر الله، في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته.
بقدر استقامته يحفظ عن القول الخطأ، وبقدر استقامته يحفظ عن الفعل الخطأ، وبقدر استقامته يحفظ عن الشيطان، وبقدر استقامته يحفظ عن الأعداء، وبقدر استقامته يحفظ عن الفتن.
فأعظم سبب وأعظم ثمرة تستفيدها من الاستقامة سعادة الدنيا والآخرة، ملائكة الله تصير حافظة لك بإذن الله سبحانه وتعالى، في دخولك وخروجك، ويقظتك ومنامك، وسفرك وإقامتك، وحياتك وموتك، على الفراش.. على الصراط.. عند الميزان.
((نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ))[فصلت:31]. هذه ولاية من الله سبحانه وتعالى، خاب وخسر من عارضها.
بقدر استقامة الإنسان يحفظ، يحفظه الله سبحانه وتعالى.
وإذا نظرت التاريخ أنبياء الله المشرق المزهر كيف حفظهم الله سبحانه وتعالى؟ لا بكثرة بمال، ولا بكثرة رجال، ينشأ النبي بين قومه واحداً، ولكنه في غاية من الاستقامة، فيحفظه الله.
قال الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ))[فصلت:6]، الاستقامة جالبة لخيري الدنيا والآخرة، جالبة للاستغفار، وجالبة لكل ما ينفع في الآخرة وفي هذا الدار؛ ولهذا حث الله على الاستقامة.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى نصرة نبيين من أنبيائه أمرهم بسبب النصرة ووسيلة النصرة، نبي الله موسى وأخاه، نصر الله نبي الله موسى وأخاه قال: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[يونس:89]، فدلهما على أعظم أسباب النصرة وهي الاستقامة.
((أَلَّا تَخَافُوا))[فصلت:30]، المستقيم لا ينبغي أن يخاف، ((وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا))[إبراهيم:12]، المستقيم لا ينبغي أن يخاف وهو قادم على أمر ما قد رأى، قادم على قبر، وقادم على أمور ما قد رآها مهيلة، ولكن تأتيه الملائكة ويأتيه عمله الصالح عند موته، وهكذا في قبره، {فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يبشر بالخير؟ فيقول: أنا عملك}، وهكذا يؤنسه في قبره، إنها الاستقامة المؤنسة، الاستقامة مؤنسة في الدنيا والآخرة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه تكالب عليه متفقهة عصره، حتى دخل السجن، ومع دخوله السجن لاستقامته اعتبر ذلك الحال نعمة، واعتبره تفرغاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، وأنه كان في أشغال: ما يصنع بي أعدائي، أنا إن قتلت قتلي شهادة، وإن سجنت فسجني خلوة، ما يصنع بي أعدائي، وكل ذلك صار فيه خير له.
الاستقامة طمأنينة وهدوء بال على أي حال أنت عليه تجد الراحة.
(ذلك وعد الله) ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا))[فصلت:30]، وحدوا الله، أخلصوا لله، اعتمدوا ووثقوا بالله سبحانه وتعالى.
تأتي ثمرة الاستقامة بنزول الملائكة وتثبيته: ((أَلَّا تَخَافُوا))[فصلت:30] مما أنتم قادمون عليه، ((وَلا تَحْزَنُوا))[فصلت:30] على متاع زائل، ولا تحزنوا على أولادكم، ولا على أزواجكم، ولا على دياركم، لا تحزنوا، الله خلفكم فيهم، الله وليهم، الله يتولى المستقيم ومن نصره الله وتولاه فهو الولي لله سبحانه وتعالى.
الاستقامة من أسباب خروج الإنسان من ظلمات، إذا استقام على شرع الله وآمن به، يتولاه الله: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ))[البقرة:257].
والمستقيم يخرج من ظلمات الجهل بإذن الله إلى نور العلم، ومن ظلمات الغي إلى نور الهدى، ومن ظلمات الفتن إلى نور السلامة، ومن ظلمات الضيق إلى نور الانشراح، ومن ظلمات سائر المضايقات، ظلمات الشيطان وسائر المضايقات يخرجه الله بسبب استقامته؛ لأن الله تولاه: {ما من خارج يخرج من بيته إلا ومعه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله تبعه الملك برايته، وإن خرج لما يغضب الله تبعه الشيطان برايته}، الذي هو مستقيم في خروجه تتولاه الملائكة حتى في مشيته، ((قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ))[الأنبياء:42]، وإذا تولته الملائكة صرف عنه الشيطان: صرف عنه في مشيته، وصرف عنه في ما يحصل من الأذى، صرف عنه الشيطان في مدخله ومخرجه، وسائر حياته، ما دام خارجاً في طاعة الله.
كفى بالاستقامة منقبة أن الله سبحانه وتعالى زكى أهلها، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[النحل:120-121]، الله جعله مستقيماً فزكاه.
فما دمت مستقيماً فإن الله يزكيك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب التزكية من ربه: {اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها}، هذا حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلب من ربه أن يزكيه، يزكي نفسه بطهارتها من الشركيات، ويزكيها بإقبالها على الله، ويزكي نفسه والنفس قد تطلق على سائر الجسد: ((فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ))[النور:61]، سمعه مزكى، بصره مزكى، لسانه مزكى، كله مزكى إذا زكاه الله، وإن لم يزكه الله فليس بمزكى.
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن موسى وهارون أنه زكاهما: ((وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الصافات:114-118]، استقامة موسى وهارون هدوا، وزكاهم الله على هذه الاستقامة.
((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153]، وفر على نفسك، استقامة توفر عليك أنك تسلك صراطاً واحداً، ولا تتشعب، ولا تتخبط، ولا تتخطفك الأهواء، تصير موفراً على نفسك، وعدم الاستقامة تفرط وتشتت وتمزق وتشرذم وضياع للحياة.
الاستقامة من ثمارها: عدم الركون إلى المبطلين وأهل الهوى والدعوة إلى الله عز وجل بقدر ما يعلم، قال الله عز وجل: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ))[هود:112-113]، دل هذا أن الله أمر نبيه بالاستقامة وتوابع الاستقامة؛ لأنها ثمارها، عدم الركون إلى الظالمين من الاستقامة، وعدم الطغيان في الأقوال والأفعال من الاستقامة، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من الاستقامة، وكل مسلم يستطيع أن يدعو إلى الله ولو إلى الإسلام والسنة والعلم بقدر ما يستطيع، بأقواله.. بأفعاله.. بلسان حاله ومقاله.
((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))[الشورى:15]، أمره الله بالاستقامة وتوابع الاستقامة؛ لأن تلك ثمارها.
العدل من ثمار الاستقامة، والدعوة إلى الله من ثمار الاستقامة، وسائر الخيرات، حتى في اللسان وسائر الأعضاء، ومن حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أصبح العبد تقول اللسان: اتق الله فينا، فإنما نحن بك إذا استقمت استقمنا، وإذا اعوججت اعوججنا}، وأنى تكون الاستقامة للسان إلا إذا استقام الإنسان على طاعة الله عز وجل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلقد وعد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بخيرات كثيرة على الاستقامة، وقال عز من قائل: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[الأحقاف:13-14]، فجزاء المستقيمين الجنة، وكفى بهذا الجزاء العظيم، ((دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ))[يونس:10]، تحيتهم فيها سلام، دعواهم فيها وتحيتهم فيها كلها رحمة من الله سبحانه وتعالى.
فعلى المسلمين أن يعتنوا بجانب الاستقامة، وأن يبتعدوا عن ما يخالف ذلك، وأن الإنسان إذا قرأ هذه السورة يستحضر هذا الدعاء العظيم: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة:6]، كل مستقيم يحب أن يهدى على الصراط المستقيم، ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))[الفاتحة:7]، الاستقامة هي طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ))[الفاتحة:7]، الاستقامة مجانبة الضالين، ومجانبة المغضوب عليهم، مجانبة اليهود والنصارى والمشركين وسائر من غضب الله عليهم من أهل البلاء ومن أهل الفتن.
فيجب على المسلم أن يعتني بذلك، ولما قال سفيان بن عبد الله: {يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أدخل به الجنة –الحديث- قال: قل: آمنت بالله ثم استقم}، فهذا طريق موصل للجنة، وهل غاية كل مسلم إلا الجنة ومرضاة الله سبحانه وتعالى، وهذه الغاية متحصلة في الاستقامة، سواء كانت هذه الغاية وأنت على فراش الموت أو بعد ذلك. إذا كان على فراش الموت ما أن يموت إلا ويرى مقعده من الجنة، وتأتيه البشرى، وإذا حمله الرجال على الأعناق قال: قدموني قدموني، وإذا وضع في قبره قال: رب أقم الساعة لأذهب إلى أهلي ومالي، وكل ذلك بذلك العمل الذي هو سائر على إقامة الله سبحانه، الذي شرعه الله عز وجل: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13]، ولا يحصل إقامة الدين إلا بالاستقامة، ولا تحصل الخلخلة في الدين إلا بالاعوجاج، وهل حصلت الخلخلة في زمن المبتدعة إلا من اعوجاجهم، لما ابتدعوا في دين الله حصلت الخلخلة في أوساطهم.
فعلى المسلمين أن يعتنوا بالاستقامة في أقوالهم وأفعالهم ومعتقداهم، في عقيدتهم، وفي مظهرهم ومخبرهم، كل ذلك يلازم فيه الإنسان الاستقامة على دين الله الحق، وإقامة دين الله في أقواله وأفعاله وأحواله؛ وبذلك يكون قد وفر على نفسه سعادة الدنيا والآخرة.
وبالله التوفيق.