الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

خطبة جمعة في مسجد الفتح بمكة المكرمة (( البيان لبعض فضائل و أحكام أم القرآن ))

06-11-2015 | عدد المشاهدات 9236 | عدد التنزيلات 2169
 

البيان

لبعض فضائل و أحكام أم القرآن

 
 
 


الخطبة الأولى:

إِنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك نهجه واهتدى بهداه.

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[سورة آل عمران:102].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
[سورة النساء: 1].

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾[سورة الأحزاب:71]

أَمَّا بعد:

فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرِ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

أيها الناس:

إِنَّ الله سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة بما لم يكرم به سائر الأمم، وميزها جعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعلها الأمة الوسط؛ أي العدل الخيار، فقال الله سبحانه : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ [سورة آل عمران:110].

وقال سبحانه وتعالى : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة:143].

فهي الأمة الخيار، وهي الأمة الوسط، وهي الشهيدة على الأمم يوم القيامة، وإِنَّ مما أكرم الله به سبحانه وتعالى به هذه الأمة؛ لهو هذا الكتاب العظيم، وهذا الرسول الكريم، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[سورة التوبة:128].

وقال الله : ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[سورة النحل:44].

فاللهُ أنزل عليهم هذا الكتاب العظيم، لبيانه وإيضاحه لأنه كتاب رحمة؛ قال الله سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ   [سورة يونس: 58].

ولأنَّه كتابُ هدايةٍ، قال الله عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة: 1-2 ].

وقال الله سبحانه : ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [سورة الإسراء:9].

ولأنَّه كتابٌ مبارك، كما قال سبحانه وتعالى : ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾[سورة الأنعام:55].

وقال تعالى:﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[سورة ص:29].

ولأنَّه كتابٌ عظيم، وكتابٌ كريم؛ إِنَّه:﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [سورة فصلت:42]، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.

ألا وإِنَّ أعظم سورة في هذا الكتاب، لهي فاتحته، ولهي أمه، ولهي تلك السورة؛ السبع المثاني والقرآن العظيم، سورة الفاتحة؛ التي تتكرر في كل ركعة، والتي هي من اليسر بمكان عظيم جعلها الله عز وجل.

 هذه السورة تسمى الصلاة، تسمى أم القرآن، كما تسمى مكة بأم القرى، لأن الله عز وجل جمع في هذه السورة من المعاني العظيمة ما تفرق في غيرها، فأجمله الله سبحانه وتعالى فيها؛ فلهذا سميت أم الكتاب وصارت فاتحة الكتاب.

روى مسلمٌ في صحيحه فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا سفيان بن عيينة، عن العلاء  - وهو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي- عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام"، ومعنى خداج ناقصة، وإذا صارت ناقصة لا تصح، فدّل هذا بأنَّها سميت بالصلاة؛ لأنه ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها؛ لما في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب".

ولهذا قال رجلٌ لأبي هريرة رضي الله عنه : ( نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إِليَّ عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) رواه مسلم.

ألا إنها سورة عظيمة يجب على كل مسلم العناية بها، وبسائر كتاب الله عز وجل لكن هذه السورة هي السبع المثاني والقرآن العظيم، فلأنها تكرر في كل ركعة.
أيها الناس:

إِنَّ هذه السورة أعظم ما في كتاب الله، أعظم سورة في كتاب الله، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه وليس له في صحيح البخاري إلا هذا الحديث أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ " فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن قال : " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته".
هذه السورة العظيمة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بن كعب:
" تحب أَنْ أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟" قال: نعم يا رسول الله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " كيف تقرأ في الصلاة؟"، قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته"،رواه النسائي، ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

إنها أعظم سورة في القرآن، هذه السورة نور من الله سبحانه وتعالى أمد الله سبحانه وتعالى بها نبيه والمؤمنين، وقد ثبت في صحيح مسلم : عن ابن عباس رضي الله عنهما : بينما جبريل قاعد عند النَّبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه فقال :" هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم؛ فنزل منه ملك، فقال : " هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته"،أي: إلا آتاك الله مثوبة ذلك، وهكذا فضائل هذه السورة كثيرة، حتى أَنَّ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه كان مع أصحاب له في مسير فمر على أهل قرية، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال هل فيكم من راق ؟ إِنَّ في الماء لديغا ، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرئ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله".

الشاهد من ذلك أنها سورة عظيمة أكرم الله بها هذه الأمة كما أكرمها بسائر هذا الكتاب وهذا النبي.

ألا وإن مما ينبغي التفقه في ذلك والتدبر فيه فإنَّ الله أمر بتدبره :﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾[سورة ص:20].

فتدبر أيها المسلم وتفقه في كتاب الله وفيما هو أعظمه وفيما هو أفضله أيضاً على وجه الخصوص، وهي هذه السورة العظيمة كما أمرك الله سبحانه، تدبر في قول الله سبحانه : ﴿الحمد لله رب العالمين ﴾ والعالمون: يطلق على كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فالإنسان إنس من العالمين، والجن من العالمين، وهكذا أيضاً الأسماك في البحار، والأشجار في القفار، أو كذلك الأشجار في أمكنتها والأحجار والحشرات وسائر المخلوقات؛ عالم من هذا العالم، الذي خلقه الله سبحانه وتعالى هذا يفيدك عند تأمل هذه الآية أَنَّ الله رب هذه المخلوقات وأَنَّ الله رباهم بنعمته وأَنَّ هذه الصفة لا تكون إلا له سبحانه وتعالى.

الخلق والملك والتدبير فتستفيد من هذه السورة توحيد الربوبية، وأَنَّ الله سبحانه وتعالى رب هذا الكون كله، رب العالمين ومربيهم بنعمته، تستفيد من هذه الآية قوله : ﴿الحمد لله رب العالمين﴾أَنَّ مربي العباد هو الله ورازقهم هو سبحانه وتعالى،﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الأعراف:54].

الذي رباهم بنعمته أوجدهم ورباهم بنعمته، وأمدهم وأعدهم وأكرمهم برزقه، قال الله سبحانه وتعالى :﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[سورة العنكبوت:60].

هو الذي رباهم، رب العالمين، أمدهم ورباهم بنعمته العظيمة، فله الحمد على أوصافه الجميلة وآلائه الجزيلة، فهو المحمود في كل حال، وهو المحمود في كتابه العظيم في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء [سورة فاطر:1].
هذه السورة تستفيد من قولك: ﴿الرحمن الرحيم﴾صفات رب العالمين، أسماء وصفات، فتضمنت أسماء الله
 وتضمنت صفات الله؛ ﴿الرحمن الرحيم﴾فإذا قرأت: ﴿مالك يوم الدين﴾تدبر هذه الكلمة العظيمة، فإِنَّ مالك يوم الدِّين هو الله والدين هو الجزاء، كما يقول حسان :

إلى ديان يوم الدين نمضي ***   و عند الله في ذاك الجزاء

وثبت من حديث جابر بن عبدالله حين سار شهراً إلى عبدالله بن أنيس إلى مصر من أجل حديث القصاص وفي ذلك الحديث : " أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أَنْ يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطالبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أَنْ يدخل النار وأحد مِن أهل الجنة يطالبه بمظلمة، قالوا: وكيف وأنا نأتي الله عراة غرلا بُهما ! قال: بالحسنات والسيئات" رواه الإمام أحمد.

والشاهد منه أَنْ الدِّين هو الجزاء، فتتذكر بهذه الكلمة جزاء ما تعمله : ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [سورة الزلزلة: 7-8].

﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[سورة الأنبياء:47].

وهكذا: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[سورة الجاثية:22].

في مثل هذه الآية تستحضر يوم الدِّين الذي لا يظلم فيه أحد يوم القيامة؛ بإجماع المفسرين لا يظلم فيه أحد؛ قال الله : ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[سورة الأنبياء:47].


الخطبة الثانية:

الحمد لله على ما أعطى، وأشهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له على تفضله وهداه، وأشهد أَنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار الأكارم البررة.

أَمَّا بعد:

فإِنَّ معاني هذه السورة عظيمة، وإن فقهها جزيل ولكن هذه نماذج، منها ما سبق بيانه إشارة إلى ما أمر الله سبحانه وتعالى به في قوله : ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾وذّم الله أولئك في قوله : ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ[سورة آل عمران:187].

فميز الله هذه الأمة بأعظم عناية بهذا الدِّين، قال الله : ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [سورة الشورى:13].

فهذه إقامته، كتابه، سنة نبيه، إتباع هديه، هذا هو الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، ففي هذه السورة العظيمة ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾عند مثل هذه الآية ينبغي أَنْ تتفهم أيها المسلم، وأنت كذلك إِنْ شاء الله؛ أَنَّ هذا الصراط هو صراط الله المستقيم  الذي لا عوج له، والذي جعل الله عز وجل سالكيه هم أنبياء الله ورسل الله والصديقون والشهداء وسائر الصالحون ونعما ذاك؛ كما قال الله : ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾[سورة النساء:69].

فلا أحسن من هذه الرفقة، رفقة الصراط المستقيم، رفقة هذا الإسلام، فالصراط المستقيم هو الإسلام، ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد من حديث النواس بن سمعان، الصراط المستقيم: هو القرآن:﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [سورة الأنعام:155].

﴿المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * ﴾[سورة الأعراف:1-2]، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.

الصراط المستقيم: هو السنة : " تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".

الصراط المستقيم: هو سبيل المؤمنين : ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾[سورة النساء:115].

وثبت من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه،  : "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب؛ وذرفت منها العيون، فقلنا:  يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا! قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإِنْ تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح .

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[سورة الأنعام:153].

فمن حقق ذلك وهذه الوصية، تحققت فيه تقوى الله سبحانه وتعالى.
وفي هذه السورة : ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾وهم من تقدم ذكرهم من أنبياء الله ورسله ومن تبعهم.

﴿غير المغضوب عليهم﴾ ثبت الإجماع، نقله ابن أبي حاتم، أَنَّ معنى المغضوب عليهم هم: اليهود، وأَنَّ الضالين: هم النصارى، ولكن الآية عامة، ففيها ولاء وبراء، أي اهدنا: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾، صراط الأنبياء، صراط المرسلين، صراط الصالحين والشهداء والصديقين وغير ذلك ممن ذكرهم الله؛ وجنبنا طريق المغضوب عليهم من اليهود والنصارى وسائر الضالين، ففيه ولاء ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾، ولاء: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾براء.

قوله: ﴿غير المغضوب عليهم﴾، يشمل كل من غضب الله عليه، ففي هذا دعاء أَنَّ الله يجنبك هذه الطرق التي ذكرت، وهكذا أيضا مِن طرق الضالين؛ سواءٌ كان هذا الضلال من ضلال أهل الكفر والإلحاد ، أو من ضلال أهل البدع والمحدثات.

هذا بعض ما تشتمل عليه هذه السورة، وفي آخرها ما أخرجه الإمام مسلم عن  أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه سلم قال: " إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقولوا : آمين، يجبكم الله".

أسأل الله سبحانه وتعالى أَنْ يدفع عنّا وعن هذه البلاد الطيبة؛ وحكامها وأهلها كل سوء ومكروه، أسأل الله سبحانه وتعالى أَنْ يمد المسلمين في سائر البلدان بالأمن والأمان، ويزيل عنهم ويدفع عنهم الفتن والبدع والمحدثات والطغيان.


والحمد لله رب العالمين

مكة المكرمة


1437/1/24


حمّل التفريع على ملف
pdf   

 

على هذا الرابط

من هنا