الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ -
الصوتيات

أخْذُ العبرة من عجائب ما نشر عن عُبيد الجابري في دعوته لأهل أُوروبا أن يهاجروا إلى برمنجهام وأنهّا دار هجرة

12-12-2010 | عدد المشاهدات 8968 | عدد التنزيلات 3740

 

أخْذُ العبرة
من عجائب ما نشر عن عُبيد الجابري في دعوته لأهل أُوروبا أن يهاجروا إلى "برمنجهام"
وأنهّا دار هجرة
لفضيلة الشّيخ
أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
-حفظه الله تعالى-
 
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
 
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أمّا بعد:
       فقد سمعتُ مقطعاً صوتياً يُنسب إلى الشّيخ فلاح إسماعيل بصوته أضاف إلى الشّيخ عُبيد الجابري أن عُبيدًا قرّر وصار يفتي للإخوان أنّه: «يا أهل أوروبا من أراد منكم الهجرة فليهاجر إلى برمنجهام، قال فإنهّا والله دار هجرة» وقد تعجبتُ من هذا الكلام كيف ينصح عُبيد بالهجرة من بلاد الكفّار إلى بلاد الكفّار، وكيف يوصف بلد من بلاد الكفّار أنه دار هجرة، فرأيت من المُهم أن أُنكر هذه المقولة الباطلة حِرصاً على ألاّ يغتر بها بعض الناس كما سمعنا في الشريط من نقلها مُغتراً بها والله المستعان.
وقد بحث هذا الموضوع أخونا الشّيخ أبو عمرو عبد الكريم الحجوري في رسالة: "إرشاد الأخيار إلى وجوب الهجرة من بلاد الكفّار"، وهناك بحوث أخرى في هذه المسألة منها بحث في كتات: "إختلاف الدّارين.." رسالة دكتورة نُوقشت في الجامعة الإسلامية، فيها إن شاء الله كفاية للدّلالة في هذه المسألة على الهداية والردّ على هذه الغواية بما يبيّن أنّ الهجرة من بلاد الكفّار إلى بلاد الإسلام إما واجبة على من لم يستطيع أن يقيم دينه أو مستحبة على من استطاع أن يقيم دينه كما ذكر بعضهم ولم يقل أحدٌ فيما نعلم بالهجرة إليها ولا: (والله إنهّا دار هجرة) !
أما هجرة الصحابة إلى الحبشة فلا حجة في ذلك؛ كونه لا توجد بلاد اسلام يهاجرون إليها فكانت الحبشة خير مكان هيئه الله يأمنون فيه على دينهم
       وقبل ذلك كنتُ ذكرتُ في مقدمة رسالة الشّيخ أبي عمرو بعض ما علمتُه أنا وغيري من مفاسد وأضرار البقاء في بلاد الكفّار، لا بأس أن أذكرها هنا ثم أضيف ما يليها في الموضوع من المصدرَين المذكورَين:
«لأن المكث بيْن الكافرين يتضمن أضرارًا وأخطاراً من أهمّها ما يلي:
1- التشبّه بهم، فكما يقال: (من جالس جانس)، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من تشبّه بقوم فهو منهم»، وفي الصّحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل الجليس الصّالح والجليس السّوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإمّا أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك وإمّا أن تجد ريحاً خبيثة»، وقد وجد ممن جالس الكافرين أنّه صار مواداً لهم وربّنا يقول: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[المجادلة: 22].
2- أن المكثَ بيْن الكافرين يُضعف الغيرة على دين الله الحقّ عند كثيرين من النّاس وذلك لكثرة تفشّي المنكرات فتصير في نظرٍ كأنها أمرٌ معتاد.
3- تحكّم الكافرين في المسلمين وإلجاؤهم إلى التّحاكم إلى قوانينهم الكُفرية وهو تحاكم إلى الطّاغوت.
4- منّة الكافرين على المسلمين في إيوائهم وإمداد يد العون لمن ليس له اكتساب وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اليد العُليا خير من اليد السُّفلى»، وإن كانوا يستغلّونها منهم في وسائل أُخرى مثل ضرائب ونحوها، لكنّهم يستفيدون أموراً منها إذلال المسلم والشّعور بالعزة والمنّة عليه.
5- تكثير سواد الكافرين وتكثير سواد أهل الباطل منهيٌّ عنه، ولهذا كان المسلمون يهاجرون إلى المدينة لتكثير سواد المسلمين ونُصرتهم.
6- استغلال الكافرين للمسلمين لتوظيفهم في أعمال غير شرعيّة وسلب دينهم منهم، ولو بالتّدريج، وكذلك تضييع أبناءهم وقد تنصّر كثير من أبناء المسلمين المغتربين في الغرب، ووقعوا في أبشع الفواحش.
7- سحب لغتهم العربيّة وَشِيَمِهِمْ الإسلاميّة بحيث يصعب على الشّخص منهم أيسر العلوم الإسلاميّة فيوعونه بغيرها كما يقرّرون.
8- مات بعض المسلمين في بلاد الكفّار وتركوا أطفالاً لم تفتح أعينهم إلاً في الكفّار فصاروا كفّاراً كما ذكرنا في الرسالة المذكورة، والله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم:6]، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ويقول: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية فيموت وهو غاش لرعيته إلاّ لم يدخل الجنّة» الحديث.
9- اضطِهَادُ المسلمين لا سيّما عند حصول حروب بيْن المسلمين والكفّار، أو حصول ما لا يرضيهم من بعض المسلمين، ترى الكفّار يضطهدون المسلمين، ويشمتون بهم، وينتهكون أعراضهم، ويقدّمون المسلمين لقتال إخوانهم المسلمين في البلاد الأُخرى كما صنعوا في حرب العراق وغيرها، فإن حصل ضرر كان في المسلمين بعضهم ببعض والكفّار يصدّرون الأوامر.
10- تأثّر المسلمين هناك بالمادة والاستجاشة الشّديدة بعد الدّنيا ومطامعها والغفلة عن الآخرة إلاّ من رحم الله، والله عزّ وجلّ يقول: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾[النساء:77] ويقول: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾[النحل:96]، وهذا التأثّر نتيجة مخالطتهم لمن قال الله فيهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾[البقرة:96]، وقال فيهم: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾[المائدة:64]، وقال فيهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[الروم:7].
11- أنّ الإنسان على حياةٍ وموت ولو مات بيْن ظهراني الكفّار كان على خطرٍ كما دلّتْ على ذلك عدّة أحاديث، كحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا بريء ممن مات بيْن ظهراني الكفّار»، وله شواهد في معناه.
       ذكرنا هذا باختصار لما في السّكنى بيْن الكافرين من الأضرار، ونسأل الله عزّ وجلّ أن يصلح أحوال المسلمين، ويفقّههم في دينهم الحقّ، فإنّ المسلم إذا فقه دين الله عظّم من عظّمه الله، وحقّر ما حقّره الله، وإذا جهل دين الله فبقدر جهله تتقلّب عليه الحقائق، والله المستعان».
«قال الإمام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-في"المغني"(13/149- 150):
فصل في الهجرة: وهي الخروج من دار الكّفر إلى دار الإسلام قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾[النساء:97] الآيات وروي عن الّنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أنا بريء من مسلم بيْن مشركين لا تراءى نارهما» رواه أبو داود ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت. في آي وأخبار سوى هذين كثيرة وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم». اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في "مجموع الفتاوى"(8/240):
«دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرّمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب». اهـ
وبوّب الإمام البيهقي –رحمه الله- في "السنن" (9/12) «باب فرض الهجرة».
وقال في "شعب الإيمان"(12/5): «(السادس والستون من شعب الإيمان وهو باب في مباعدة الكفّار والمفسدين والغلظة عليهم) قال الله عزّ وجلّ: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾[التوبة:73], وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾[التوبة:123] وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾[الممتحنة:1] إلى قوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[الممتحنة:1], وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[التوبة:23], وقال: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾[آل عمران:28] إلى غير ذلك من الآيات الَّتي وردت في كتاب الله في معنى ما ذكرنا قال: فدلّت هذه الآيات وما في معناها على أنّ المسلم لا ينبغي له أن يواد كافراً, وإن كان أباه أو ابنه أو أخاه, ولا يقاربه ولا يجريه في الخلطة والصُّحبة مجرى مسلم, وإن بعد».
وقال في "المنهاج في شعب الإيمان"(2/182): «ومن الشُّح على الدِّين أنّ المؤمن إذا كان من قوم لا يستطيع أن يوفيّ الدِّين حقوقه بيْن ظهرانيهم[1]، ويخشى أن يفتنوه عن دينه، وكان إذا فارقهم يجد لنفسه مأمنا يتبوأ، ويكون فيه أحسن حالاً منه بيْن هؤلاء لم يقم بيْن ظهرانيهم، وهاجر إلى حيث يعلم أنّه خير له وأوفق، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾[النساء:100]، فيدخل في هذا من هاجر إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في حياته ليلقاه ويصحبه ويجاهد معه، ومن هاجر بعده إلى حيث يستطيع إظهار دينه ونصب أعلام شريعته فيه، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾[النساء: 59].
فدخل في ذلك الرّجوع إليه حيًّا في سؤاله عمّا أشكل، والرّجوع بعد وفاته إلى سنّته، وما بلغ النّاس عن ربّه جلّ جلاله، فكذلك يدخل في الهجرة إليه الوجهان اللذان ذكرتهما. والله أعلم.
فإن أقام بدار الجهالة ذليلاً مستضعفاً وهو يقدر على الانتقال إلى حيث يخالفها فقد ترك -في قول كثير من العلماء- فرضاً واجباً ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا $ إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا $ فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا $ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[النساء:97-100].
ويوعد تارك الهجرة من البلد الَّذي يكون مستضعفاً فيه إذا كان قادراً على مثل هذا الوعيد فثبت أنهّا فريضة لازمة أيضاً». اهـ
       وقال الإمام المجدّد شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب التّميميّ -رحمه الله- كما في "الأصول الثّلاثة": «والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام[2]، وهي باقية إلى أن تقوم السّاعة. والدّليل قوله تعالى:  ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:97]».
       وقال الشّيخ سليمان بن الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كما في "الدّرر السنيّة في الأجوبة النّجديّة"(8/122-123): «قوله تعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة:217]. فأخبر تعالى أن الكفّار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتىّ يردّوهم عن دينهم إنِ اسْتطاعوا، ولم يرخّص في موافقتهم خوفاً على النّفس والمال والحرمة ؛ بل أخبر عمّن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرّهم، أنّه مرتد، فإن مات على ردّته بعد أن قاتله المشركون، فإنّه من أهل النّار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال ؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أنّ الَّذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهّم أولى بعدم العذر، وأنهّم كفّار مرتدّون»[3]. اهـ
       وقال الشّيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشّيخ –رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/498): «وأمّا ما ذكرت من سياقة قول ابن كثير: أنّ الهجرة لا تجب إلاّ على من لا يقدر على إظهار دينه... إلخ،: فهذا معنى ما ذكره العلماء في كتبهم، وهذا لا نزاع فيه عند أكثر العلماء ؛ ولكن عرفنا من لم تجب عليه الهجرة بإظهار دينه وهو آمن بذلك، معروف فيكم لم يستهزئ بأهل الإسلام، أو لم يركن إلى من استهزأ بهم، ويعين أهل الباطل بلسانه ; فيا ليت شعري من هو الَّذي فيكم يظهر دينه ؟».
       وقال أيضاً –رحمه الله- كما في " الدّرر السّنيّة "(8/238-240): «وممّا يجب أن يعلم: أنّ الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي، حفظاً للدِّين، وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود المنكرات، ومخالطة أهل المعاصي والسيئات، وليتميز أهل الطاعات والإيمان، عن طائفة الفساد والعدوان، وليقوم علم الجهاد، الَّذي به صلاح البلاد والعباد ؛ ولولا الهجرة لما قام الدِّين، ولا عبد ربّ العالمين، ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك، والظلم والفساد، بدونها.
ومن لوازم ترك الهجرة غالباً: مشاهدة المنكرات، ومداهنة أرباب المعاصي والسّيئات، وموادّتهم، وانشراح الصّدر لهم ؛ فإنّ الشّر يتداعى ويجر بعضه بعضاً، فلا يرضون عمّن هو بيْن أظهرهم بدون هذه الأمور[4]، ولا بد من رضاهم، والمبادرة في هواهم.
ثم إنّه قال قولاً ينبئ من له أدنى معرفة، أنّ هذا لا يصدر إلاّ ممّن هو غريق في الجهالة، قد عري من المعقول والمنقول، وذلك قوله: إنّ الله قدّم حرمة ابن آدم على حرمته، وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة، إذا خاف على نفسه الضّرر. ووجه خطئه وجهله: أنّه جعل ذلك أصلاً، قاس عليه ترك الهجرة، وفي زعمه أنّه اضطرّ إلى تركها، كما اضطرّ إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التّلف، فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد، وذلك من وجوه:
منها: أنّه في مصادمة نصوص الكتاب والسّنّة، الَّتي دلّت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها، وإن كان يتوقّع بها القتل والموت، كما أنّه لا يترك الجهاد خوفاً من القتل، كما قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾[آل عمران:195]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[الحج:58]. فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور الَّتي قد تقع للمهاجر، عذراً عن الهجرة، لأنّ الهلاك في الهجرة والجهاد هو السّلامة، فإنّه شهادة، والشّهداء ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[آل عمران:169-170]. وقد يحصل للمهاجر ما يحبّه، من حسن العاقبة في الدّنيا، مع ما يرجوه في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾[النساء:100] الآية» اهـ
       وقال الشّيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/295): «وما ذكرت من حال من يكون بيْن ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التّوحيد، بحيث يظهر لهم القول بأنّ هذه الأمور الشّركية، الَّتي تُفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة. وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنّه الشرك العظيم، فهذا ترك واجباً عليه، ولا يكفر بذلك». اهـ
       وقال الشّيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-:
وفي فتواه معنى إظهار الدِّين وهو مهمّ:
كما في "الدّرر السّنيّة"(8/304-306): «هجر الكفّار والمشركين. والقرآن من أوّله إلى آخره ينادي على ذلك ؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نصّ الإمام أحمد وغيره من السّلف، على البُعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللّسان، والبدن، إلاّ من داع إلى الدّين مجاهد عليه بالحجّة، مع أمن الفتنة، قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾[النساء:140] الآية. والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير.
قال بعض المحقّقين: ويكفي العاقل قوله تعالى، بعد نهيه عن موالاة المشركين: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾[آل عمران:30] الآية. وقد حكى ابن كثير رحمه الله تعالى الإجماع على أنّ تارك الهجرة عاص، مرتكب محرماً على ترك الهجرة. ولا يكفي بغضهم بالقلب، بل لا بدّ من إظهار العداوة والبغضاء، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾[الممتحنة:4].
فانظر إلى هذا البيان الَّذي ليس بعده بيان، حيث قال: ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا﴾ أي: ظهر ؛ هذا هو إظهار الدِّين، فلا بدّ من التّصريح بالعداوة، وتكفيرهم جهاراً، والمفارقة بالبدن. ومعنى العداوة: أن تكون في عدوة، والضّد في عدوة أُخرى.
كان أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النِّزاع في إظهار العداوة: فإنهّا قد تُخفى لسبب شرعيّ، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تُخفى العداوة من مستضعف معذور، عذّره القرآن. وقد تُخفى لغرض دنيويّ، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة.
ودعوى من أعمى الله بصيرته، وزعم: (أن إظهار الدّين، هو عدم منعهم ممّن يتعبّد، أو يدرّس): دعوى باطلة ؛ فزعمه مردود عقلاً وشرعاً. وليهنّ من كان في بلاد النّصارى، والمجوس والهند ذلك الحكم الباطل، لأنّ الصّلاة والأذان والتّدريس، موجود في بلدانهم، وهذا إبطال للهجرة والجهاد، وصدٌّ للنّاس عن سبيل الرّشاد». اهـ
       وقال الشّيخ حمد بن عبد العزيز -رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/426): «الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام، فرض واجب بنصّ الكتاب والسّنّة، وإجماع الأمّة ؛ وقد فرضها الله على رسوله وأصحابه، قبل فرض الصّوم والحج، كما هو مقرّر في الأصول والفروع». اهـ
       وقال الشّيخ سليمان بن سمحان -رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/463): «فاعلم، وفقني الله وإيّاك، لسلوك الطريق الأقوم، أنّ الله سبحانه أوجب على العبد الهجرة من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأوجب عليه معاداتهم، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتّصريح لهم بذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي﴾[الزخرف:26-27] وقال تعالى: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾[مريم:48]».
       وقال الشّيخ سعد بن عتيق -رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/496) قال بوجوب الهجرة من مواضع الشّرك والمعاصي إلى بلاد الإسلام والطّاعة إذا لم يقدر الإنسان على إظهار دينه.
       وقال الشّيخ محمد بن إبراهيم بن محمود –رحمه الله- كما في "الدّرر السّنيّة"(8/497): «الحقّ المقطوع به الّذي نُدين الله به، وهو: أنّ الهجرة واجبة على من لم يقدر على إظهار دينه، وخاف الفتنة ؛ وأدلّة ذلك ظاهرة من الكتاب والسّنة. وقد نصّ علماء السّنة على ذلك وذكروه من أصولهم، وأنّ الجهاد قائم مع كل إمام برّ وفاجر، حتىّ يقاتل آخر هذه الأمة الدّجّال، وأنّ الهجرة باقية لا تنقطع حتىّ تنقطع التّوبة، ولا تنقطع التّوبة حتىّ تطلع الشّمس من مغربها».
       وقال الشّيخ العلاّمة محمّد بن صالح العثيمين -رحمه الله- كما في "شرح الأصول الثّلاثة" ص(129-130): «الهجرة في اللّغة: "مأخوذة من الهجر وهو التّرك".
وأمّا في الشّرع فهي كما قال الشّيخ: "الانتقال من بلد الشّرك إلى بلد الإسلام". وبلد الشّرك هو الَّذي تقام فيها شعائر الكفر ولا تقام فيه شعائر الإسلام كالأذان والصّلاة جماعة، والأعياد، والجمعة على وجه عام شامل، وإنمّا قلنا على وجه عام شامل ليخرج ما تقام فيه هذه الشعائر على وجه محصور كبلاد الكفّار الَّتي فيها أقليات مسلمّة فإنهّا لا تكون بلاد إسلام بما تقيمه الأقليات المسلمة فيها من شعائر الإسلام، أما بلاد الإسلام فهي البلاد الَّتي تقام فيها هذه الشّعائر على وجه عام شامل.
فهي واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكّفر فلا يتمّ إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب». اهـ
       وقال شيخنا العلامة المحدّث مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- كما في "تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب" ص(263) لما سئل عن أخ أسلم بيْن أسرة كافرة مات أبوه على النصرانية وأمّه يهودية فكيف معاملته لأمّه فقال رحمه الله: «أمّا هل له أن يترك أمّه وبلاد الكفر ويخرج فرارا بدينه، فإذا خشي على نفسه الفتنة فله أن يعرض الإسلام على أمّه فإن أسلمت وإلاّ فلا بأس، بل يجب عليه أن يهاجر كما يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا $ إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾[النساء:97،98]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24]».
       وللشّيخ حماد بن محمد الأنصاري -رحمه الله تعالى- رسالة مطبوعة بعنوان "إعلام الزمرة بأحكام الهجرة" قرّر فيها وجوب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام قرّر هذا بالقول والفعل، بالقول في رسالته ونصحه، وبالفعل فهو من دولة "مالي" في أفريقيا الغربية وولد في بلدة (تادمكة) ثم هاجر رحمه الله إلى السّعوديّة حيث أنّه رأى أنهّا أفضل دولة إسلاميّة يقيم فيها دينه كما ذكر.
       وفي فتاوى اللّجنة الدّائمة:
السؤال السادس: من الفتاوى رقم(7150): «ما هي شروط الهجرة في الإسلام ؟ وما المقصود بقوله صلّى الله عليه وسلّم: صحيح البخاري التّوحيد (7098), صحيح مسلم التوبة (2675), سنن الترمذي الدعوات (3603),سنن ابن ماجه الأدب (3822), مسند أحمد بن حنبل (2/535): «عبادة في الهرج كهجرة إليّ» ؟
الجواب: الهجرة هي: الخروج من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ قال ابن كثير على هذه الآية: هذه الآية الكريمة عامّة في كلٍّ من أقام بيْن ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكّناً من إقامة الدِّين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع. اهـ تفسير ابن كثير(1/541).
أما قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد 5 / 25 ، 27 ، ومسلم 4 / 2268 برقم (2948)، والترمذي 4 / 489 برقم (2201)، وابن ماجه 2 / 1319 برقم (3985)، وابن أبي شيبة 15 / 72 ، والطبراني في الكبير 2 / 212 ، 213 برقم (488 - 494)، وفي الصغير 2 / 58 ، وابن حبان 13 / 389 برقم (5957)، والخطيب في تاريخ بغداد 2 / 116 . العبادة في الهرج كهجرة إليّ فهو يدلّ على فضل العبادة لله وحده في أوقات الفتن والقتال، وأنهّا في الفضل كهجرة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لماّ كان المسلمون يهاجرون إليه في المدينة من بلاد الكفر مكّة قبل الفتح، وليس في ذلك دلالة على إسقاط الهجرة عمّن تمكّن منها إذا كان في بلد الكفر، ولا يستطيع إقامة دينه بيْن أولئك الكفرة. وبالله التّوفيق وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.
اللّجنة الدّائمة للبحوث العلميّة والإفتاء:
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز». اهـ
وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:97].
دلّت الآية دلالة واضحة على وجوب الهجرة على المسلمين المستضعفين العاجزين عن إظهار دينهم في بلد لا سلطان للإسلام فيه وإنمّا السّلطة وغلبة الأحكام فيه لأعداء الله.
قال القُرطبيّ: «وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض الَّتي يعمل فيها بالمعاصي»[5].
وقال ابن كثير: «﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: بترك الهجرة -ثم قال:- هذه الآية عامّة لكلّ من أقام بيْن ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكّناً من إقامة الدِّين فهو مرتكب حارماً بالإجماع، وبنصّ هذه الآية».
وقال القاسميّ: «الآية دليل على أنّ الرّجل إذا كان في بلدٍ لا يتمكّن في إقامة أمر دينه، حقّت عليه المهاجرة».
وقال ابن سعديّ: «في الآية دليل على أنّ الهجرة من أكبر الواجبات وتركها من المحرمات بل من أكبر الكبائر».
ودلّت ثوابت السُّنّة أيضاً على وجوب الهجرة وتحريم إقامة المسلمين في ديار الكفّار إذا لم يقدروا على إظهار دينهم.
وفي هذا يقول ابن القيّم: «ومنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إقامة المسلم بيْن المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم».
والأحاديث الَّتي منع فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الإقامة في ديار الكفّار كثيرة منها:
1- قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بيْن أظهر المشركين قيل: يا رسول الله ! ولمَ ؟ قال: لا تراءى ناراهما».
دلّ الحديث على تحريم الإقامة في ديار الكفّار لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد برأ من المقيم في ديار الكفّار والبراءة لا تكون إلاّ على من فعل محرّماً.
قال البغويّ: «من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدّار ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لهذا الحديث».
2- حديث سمرة بن جندب رضيى الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله»[6].
قال الصّنعانيّ: «فيه دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين».
3- وبحديث بهز بن حكيم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله عزّ وجلّ من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين».
الحديث ظاهر الدّلالة في أنّ الله لا يقبل عمل المسلم حتىّ يفارق ديار المشركين إلى ديار المسلمين[7].
6- وحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أتيتُ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله أبسط يدك، حتىّ أبايعك، واشترط عليّ: فأنت أعلم، قال: (أبايعك على أن تعبد الله وتُقيم الصّلاة، وتُؤتي الزّكاة، وتُناصح المسلمين، وتُفارق المشركين)».
فدلّ الحديث على وجوب مفارقة ديار المشركين إلى ديار المسلمين.
قال الجصاص من الحنفية رحمه الله: «من أقام في أرض العدوّ وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التّحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربيّ فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج منها فليس بمسلم يحكم عليه بما يحكم على أهل الحرب من انقطاع العصمة في المال والنّفس». انظر "أحكام القرآن"(3/211).
قال ابن العربي من المالكيّة: «من أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام». "أحكام القرآن"(1/484).
قال ابن رشد: «واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر أن لا يقيم بها حيث تجري عليه أحكام المسلمين وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجري عليه أحكامهم». عزاه صاحب كتاب "إختلاف الدّارين" إلى "المقدّمات الممهّدات" لابن رشد (2/285-286).
فهذا واجب بالكتاب، والسّنّة، والإجماع، على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يقعد بين المشركين، ويقيم بيْن أظهرهم، لئلا تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها.
وقد كره الإمام مالك أن يسكن أحد ببلد يسبّ فيه السّلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه الأوثان ؟!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري"(6/190) "كتاب الجهاد" تحت باب(194): «فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أمّا قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفّار والأمن من غدرهم والرّاحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسرّ أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلّف الخروج منها أجر».
وبنحو ذلك قال عدد من الحنابلة كما في "الإنصاف" للمرداوي (4/121) وغيره. وقد نقل الحافظ في "الفتح" فيما مرّ بنا الإجماع على أن المرأة لها أن تهاجر من بلاد الكفّار إلى بلاد المسلمين بغير محرم.
وقال ابن قدامة في "المغني"(8/466): «إذا طلبت امرأة مسلمة الخروج من عند الكفّار جاز لكلّ مسلم إخراجها».
انتهى المقصود بيانه في هذه العجالة، ردًّا على ما أُضيف إلى عُبيد الجابري في تلك المقالة، ونسأل الله أن يصلح حالنا وحاله.
بتأريخ
الأحد 6 / محرم / 1432 هـ
----------------------------
[[1]] ومما ذكرنا في المقدمة وغيره تعلم أنّ مَن في بلاد "بريطانيا" أو غيرها من بلاد الكفار لا يستطيع أن يوفي الدِّين حقه بما يقصر التعبير عنه في هذه العجالة.
[2] قلتُ فهل صارت "برمنجهام" احدى مدن "بريطانيا" دار إسلام في نظر عُبيد الجابري !
[3] قلتُ ما ذكره العلاّمة سليمان رحمه الله بيان لشدّة خطورة المكث بيْن ظهراني الكفّار وأنّ ذلك ذريعة للردّة وأدلّة ذلك كثيرة من الكتاب والسّنّة منها ما ذكر في هذه الرّسالة.
[4] لا ينكر هذا إلاّ مكابر.
[5] وبلاد الكفّار "بريطانيا" وغيرها لا يخلو مكان فيها من معاصي وما أحسن ما قاله شيخنا العلاّمة الوادعي رحمه الله حين مرض وأرادوا الرّجوع به إلى أمريكا قال: «الذّهاب إلى أمريكا والموت عندي سواء لما فيها من المعاصي».
[6] قلتُ الحديث فيه ضعف ولكنّه يدخل تحت قول الله تعالى: ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام:68]، وقول الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[النساء:140].
[7] ما عُذر عُبيد أمام هذا الحديث وغيره، وما حجّته أمام الله عزّ وجلّ في غشّ من قد يقبل منه هذه الأقوال على عجرها وبجرها من جهالة النّاس وأشباههم !