الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ -
الصوتيات

من أهم الآداب الإسلامية قول إن شاء الله في الأمور المستقبلية

27-05-2011 | عدد المشاهدات 41249 | عدد التنزيلات 1461

 

 
مِنْ أَهَمِّ الآدَابِ الإِسْلاَمِيَّة
قَوْلُ: (إِنْ شَاءَ الله)
فيِ الأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِيَّة
 
لأبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
-حفظه الله تعالى-
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
       الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أمّا بعد:
       فإنّ موجب هذه الرسالة المختصرة في هذا الموضع المهمّ هو أننا نسمع من المسلمين في كثير من الإذاعات وغيرها من يتكلّم عن أمور مستقبليّة: (وأننا سنفعل كذا وكذا)، (وسيحصل كذا وكذا) ونحو ذلك من مهمّات الأمور الّتي يجب تعليق القول بها بمشيئة الله عزّ وجلّ، الذي ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، ولا يكون شيء إلاّ بمشيئته.
وتسمع أولئك المتكلّمين يتجاسرون على إطلاق ذلك العزم والقول (أنّه سيفعل كذا ولن يكون كذا) ولا يستتني بقول: (إن شاء الله) بما يقشعر -من سماع كلامه ذلك بغير استثناء- جلدك ويتمعّر منه وجهك.
فرأيتُ من أهمّ الدعوة إلى الله عزّ وجلّ نصح هؤلاء المسلمين -أصلحهم الله- وبيان أهميّة هذا الاستثناء، وأنّه من توحيد الله عزّ وجلّ، وإضافة نعمة الله عزّ وجلّ إلى باريها، وإسنادها إلى مسديها، وليس عندي من الوقت ما أعطي به هذا البحث المهمّ من الجهد قدره، ولكن عملاً بقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ[البقرة: 265]، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: «اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة».
لما تقدّم جعلتُ هذا الموضوع في خطبة جمعة ثمّ فُرّغت، وأَضفتُ إليها بعض ما في بابها من مهمّات الموضوع راجياً من ربي عزّ وجلّ لي وللمسلمين نفعها، وأن يصلح بها ألسنةَ كثير من المسلمين في نطقها لهذه الكلمة المهمّة عند لزومها تبرّكاً بها وتأدّباً مع ربّها وبالله التوفيق.
 
كتبه: أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
في التاسع من شهر رجب 1432 هـ


بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل.عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1].
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ! يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب:70، 71].
أمّا بعد:
       فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير، احرص على من ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقول لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل»، وهذا حديث ختم به الإمام مسلم كتاب: (القدر) من صحيحه، وهو حديث عظيم.
فيه فضل (المؤمن القوي): والقوة هنا المقصود بها: قوي الإيمان «خير أو أحب إلى الله من المؤمن ضعيف»: أي ضعيف الإيمان، وإن كان أصل الإيمان من أسباب محبة الله، ولكن الناس يتفاوتون في إيمانهم، وبقدر إيمانهم يتفاوتون في محبة الله عزّ وجلّ لهم، كلٌّ له منزلته عند الله تعالى بقدر عمله الصالح، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[الأنعام:132]، ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[آل عمران:163]، فكل ما كان الإنسان أقوى إيماناً كان أحبّ إلى الله عزّ وجلّ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13]، فالناس يتفاضلون على قدر طاعتهم لله عزّ وجلّ وتقواهم من الأنبياء وما دونهم، ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً[الإسراء:21]، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ[البقرة:253]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا[الإسراء:55].
وفي هذا الحديث: الحرص على ما ينفع في الدنيا والأخرى، والمقصود ممّا ينفع هنا في قوله: «احرص على ما ينفعك» النفع الأعظم فإن أمور الدنيا: الإنسان مجبول عليها، والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إنما يأمر بالنفع الأعظم وهو العمل الصالح فاحرص عليه ينفعك في الدنيا والآخرة، ولا تستطيع أن تقوم بالعمل الصالح إلاّ بعونه جلّ وعلا فهو القائل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ $ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:5،6]، والآية المقصود منها الاختصاص، نخصّ بالعبادة إياك، ولا قدرة لنا إلاّ بعونك وتوفيقك، فنستعين بك على عبادتك. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ $ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6،7]: فهذه سورة عظيمة.
فيها إخلاص العبادة لله سبحانه،
فيها طلب العون منه على طاعته وعبادته،
فيها طلب الهداية، هداية إلى الصراط المستقيم، ومجانبة أصحاب الجحيم، من ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾: اليهود، و﴿الضَّالِّينَ﴾ النصارى.
فيها ما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم(395): قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله تعالى: (حمدني عبدي)، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله تعالى: (أثنى علي عبدي)، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: (مجدني عبدي) ( وقال مرة فوض إلى عبدي)، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال: (هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
والشاهد من الحديث: «واستعن بالله» فيا أيها المسلم استعن بالله، واطلب عونه ونصره وتوفيقه في كلّ حركة وسكنة، والله وتالله وبالله لا قدرة لك على أي حركة أو سكنة أو كلمة أو غمضَة بصر إلاّ بالله سبحانه وتعالى، ولهذا وغيره كانت «(لا حول ولا قوّة إلاّ بالله) كَنْزٌ من كنوز الجنة» هكذا قال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومعنى: «لا حول ولا قوة إلا بالله»: قال ابن الأثير: «لا حركة ولا قوّة لنا إلاّ بمشيئة الله تعالى» اهـ، أي لا تحوّل لنا عن معصيتك ولا قوة لنا على طاعتك إلاّ بك.
وقوله: «ولا تعجز»: أي عن ما من شأنك القيام به، فإنّ العجز والكسل يسبب ضررك ويفوّت عليك خيراً في الدنيا الآخرة، وقد استعاذ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من الكسل قائلاً: «اللهمّ إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» عن أنس في الصحيح. عدة أحاديث في الباب ثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ولا تعجز عن القيام بما أوجب الله عليك، فإنّه يسير على من يسّره الله عليه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر:17]، وفي الصحيح(39) «إنّ الدِّين يسر، ولا يشادّ هذا الدِّين إلاّ غلبه» عن أبي هريرة رضي الله عنه، والله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ[الحج:78]،
قال الله سبحانه: ﴿طه $ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى $ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى $ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى[طه:1-4]، قال الله سبحانه: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن:16]، دين ميسّر لا تعجز عن طاعة الله.
«وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا»: باعتبار الاعتراض على أقدار الله، وإلاّ فكلمة: (لو) في القرآن والسنّة كثيرة ولكن المقصود: النهي عن التسخط والاعتراض على ما قدّره الله تعالى.
«ولكن قل: (قدر الله وما شاء فعل)» فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وما أحسن ما قاله الشافعي رحمه الله فيما ينسب إليه:
 
ما شئتَ كان وإن لم أشأ
 
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت
 
ففي العلم يجري الفتى والمسن
فمنهم شقي ومنهم سعيد
 
ومنهم قبيح ومنهم حسن
على ذا مننت وهذا خذلت
 
وهذا أعنت وذا لم تعن
 
ما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن، مشيئة الله نافذة على العباد، ولا يمكن لعبد مشيئة بغير مشيئة الله.
فالعبد له مشيئة خاضعة لمشيئة الله، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:29] ولهذا ثبت في الصحيحين([1]) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله) فقال له صاحبه: (إن شاء الله)، فلم يقل: (إن شاء الله)، فلم يحمل منهن إلاّ امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».
       «وفيه فوائد:
منها أنه يستحب للإنسان إذا قال: (سأفعل كذا) أن يقول إن شاء الله تعالى لقوله تعالى ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا[الكهف:23] ولهذا الحديث.
ومنها أنه إذا حلف وقال متصلا بيمينه إن شاء الله تعالى لم يحنث بفعله المحلوف عليه، وإن الإستثناء يمنع إنعقاد اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته).
ويشترط لصحة هذا الإستثناء شرطان:
أحدهما أن يقوله متصلا باليمين.
والثاني أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول: (إن شاء الله تعالى).
قال القاضي أجمع المسلمون على أن قوله: (إن شاء الله) يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا». اهـ
ففي كلمة: (إن شاء الله) بركة عظيمة، ولا ينبغي لأحد أن يعزم ويقول شيئاً مستقبلاً ويتعمّد ترك كلمة: (إن شاء الله) لقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ$وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا[الكهف: 23-24]،
«وهذا تأديب من الله عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلاّ أن يصله بمشيئة الله، لأنّه لا يكون شيء إلاّ بمشيئة الله». اهـ
ومعنى ذلك أنك إذا نسيت هذا الاستثناء في كلامك المستقبلي فإنّك تذْكر الله متى ذكرت هذه الكلمة، تقول: (إن شاء الله) حتىّ ولو بعد كلامك، حتىّ وإن ذكّرك غيرك، لا تترك: (إن شاء الله)، إذا نسيت هذه الكلمة قُلْها متى ذكرت أنّك لم تقُلْها فيما ينبغي من الكلام أن تقال فيه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا[الكهف:24]: هذا أمر من الله عزّ وجلّ أن لا تترك: (إن شاء الله)، فإن ترك: (إن شاء الله) معناها: إيكال الأمور إليك أيها العبد الضعيف، وليس لك قوّة إلاّ بالله.
 
قال الله سبحانه وتعالى مبيّنًا أنّ الملك ملكه، والخلق خلقه، ولا يكون في ملكه إلاّ ما يشاء: ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُبِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:26]، وقال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ[الأنعام:83].
 
قال ربّ العالمين سبحانه: ﴿الم $ غُلِبَتِ الرُّومُ $ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ $ فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ $ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[الروم:1-5].
وأخرج مسلم(1779) عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر (أما تراه ؟)، فجعل لا يراه قال يقول عمر (سأراه)، وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله»، قال فقال عمر: (فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال (فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا».
 قال عمر: (يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟)، قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا».
 
﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إلاَّ مَا شَاءَ اللهُ[الأعراف:188]، فكم قد تكون بك من الأمراض ؟ كم من الهموم ؟ كم من المضايق ؟ لا تستطيع أنْ تدفعها فإنْ شاء الله دفعها عنك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]،﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ[يونس:107]، فالأمور كلها خاضعة لمشيئة ربّ العالمين.
احذر أيها المسلم أن تخذل عن هذه الكلمة، فإنهّا من توحيد الله عزّ وجلّ، فقد صحّ عند النسائي(7/6) من حديث قتيلة رضي الله عنه «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: "ما شاء الله وشئت: وتقولون: و"الكعبة")، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: (ورب الكعبة) ويقولون: (ما شاء الله ثم شئت)»، حتىّ لا تقرن المشيئة بمشيئة فلان، لا تقل: (ماشاء الله وشاء فلان)، هذا توحيد خالص لله سبحانه وتعالى.
 
يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً $ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً[الإنسان:27،28].
فيا أيّها الناس الأمر ليس بكثرة العدد ولا العُدد. تغيير من حال إلى حال كلّه لله سبحانه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ$وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[إبراهيم:19-20]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً[الإنسان:28،29]، أي لكم مشيئة خاضعة لمشيئة الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا $ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[الإنسان:30،31]، ونصب الظالمون هنا على محذوف تقديره: وأهان الظالمين أعد لهم عذابا أليما.
 
قال تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ $ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا:، أي منهم من يعطيه ذكوراً وإناثاً، هذا معنى: ﴿يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ ثم قال: ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا[الشورى:49،50].
 
قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ[الشورى:27].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
       «أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا.
وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك. وذكر قتادة حديث: «إنما أخاف عليكم ما يخرج الله من زهرة الحياة الدنيا» وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر؟ الحديث.
وقوله: ﴿وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك». اهـ
 
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[البقرة:105]، فالكفار لو استطاعوا أن يحجزوا عن الناس الهواء لفعلوا ! ولكن ليس الأمر إليهم لأنّ الله يختص برحمته من يشاء.
 
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[القصص:68]، فالاختيار له، والإختصاص له، والملك له، والأمر له من قبل ومن بعد.
 
قال الله سبحانه: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف:155]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[إبراهيم:4]، وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البقرة:213]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[إبراهيم:4]، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[القصص:56]، الهداية مختصة بالله سبحانه والفضل لله وحده.
وقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[البقرة:272]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[الأنعام:35]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:111].
 
قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، لا يمكن أن يحصّلوا على شيء من فضل الله ! ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الحديد:29].
قال سبحانه وتعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الحديد:21].
أخرج الإمام البخاري في صحيحه(557) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: (أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا)، قال: قال الله عز وجل: (هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟)، قالوا: (لا)، قال: (فهو فضلي أوتيه من أشاء)».
فاضف كل نعمة إلى ربّ العالمين سبحانه وتعالى، وهذا أدب مهمّ، كن مؤدّبا مع ربك، فإن أعظم الأدب مع ربّ العالمين في الأقوال والأفعال وفي سائر الأمور، هذه عبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ$مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[الذاريات:56،57].
 
       ومن حصل منه ذنب دون الشرك بالله عزّ وجلّ ومات مصراً عليه فإن الله يغفره لمن يشاء من عباده، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48].
وأخرج البخاري في صحيحه(6801) ومسلم في صحيحه(1709) من حديث عبادة: «أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو له كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له».
وأخرج مسلم في صحيحه(2496) من حديث أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها»، قالت: (بلى يا رسول الله)، فانتهرها فقالت حفصة: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا﴾[مريم:71] فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «قد قال الله عز و جل: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾[مريم:72]».
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:111].
 
       قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة:261].
وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه(2687) عن ابي ذرّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عزّ وجلّ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة».
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث:
       «معناه أن التضعيف بعشرة أمثالها لابد منه بفضل الله ورحمته، ووعده الذي لا يخلف، والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى «بقراب الأرض» هو بضم القاف على المشهور وهو ما يقارب ملأها وحكى كسر القاف نقله القاضي وغيره». اهـ
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه(131) رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عز و جل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
بوّب الإمام النووي على هذا الحديث القدسي:
«باب إِذا همّ العبد بحسنة كتبت وإذا همّ بسيئة لم تكتب».
ثمّ قال رحمه الله في شرح الحديث:
«وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولن يهلك على الله إلا هالك» فقال القاضي عياض رحمه الله معناه: (من حتم هلاكه وسدت عليه أبواب الهدى مع سعة رحمة الله تعالى وكرمه، وجعله السيئة حسنة إذا لم يعملها وإذا عملها واحدة، والحسنة إذا لم يعملها واحدة وإذا عملها عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فمن حرّم هذه السعة وفاته هذا الفضل وكثرت سيئاته حتى غلبت مع أنها أفراد حسناته مع أنها متضاعفة فهو الهالك المحروم، والله أعلم).
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: (في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة، والله أعلم).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» ففيه تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة ضعف، وحكى أبو الحسن أقضى القضاة الماوردي عن بعض العلماء أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ضعف وهو غلط لهذا الحديث، والله أعلم». اهـ من شرح النووي على مسلم.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
عند قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[الأنعام:160]:
«وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى، وهي قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا[النمل:89]، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية». اهـ
 
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ[الأنعام:133].
أيها العبد الله خلقك من عدم وأوجدك، ولم تكن شيئاً، إن شاء يستخلفك وإن شاء أزالك وأبدلك وأتى بغيرك، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ$إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ$وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[فاطر:15-17]، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38].
ومن عقيدة أهل الحقّ ما قاله:
الإمام الطحاوي رحمه الله قال:
«وكل شيء يجري بتقديره. ومشيئته ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً». اهـ
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى في "شرح العقيدة الطحاوية":
«قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن).
ش: قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا[الإنسان:30]،وقال: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:29]،وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الأنعام:111]،وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ[الأنعام:112]،وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا[يونس:99] ، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام:125]،وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام إذ قال لقومه: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ[هود:34]،وقال تعالى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الأنعام:39]إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف يكون في ملكه ما لا يشاء! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر، والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا[الأنعام:148]، الآية. وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ[النحل:35]، الآية. وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ[الزخرف:20] فقد ذمّهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى، إذ ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[الحجر:39].
قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك. أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به. أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة
العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر. (وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر، فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره). يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[الأنعام:148] فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل، من أين له أن الله لم يقدره ؟ أطلع الغيب ؟!» اهـ المراد.
 
 
       قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ[التوبة:28].
 
ففي صحيح البخاري(5644) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء».
 
ففي الصحيح البخاري(1127) عن علي بن أبي طالب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلة فقال ألا تصليان فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلنا ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً[الكهف:54]».
وصاحب مدين عليه السلام قال لموسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ$قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ[القصص:27،28]، زوّجه ابنته وأخبره أنه سيجده من الصالحين، ووفّا معه من تلك الشروط وغيره.
نبي الله إسماعيل لماّ قال له أبوه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[الصافات:102]، فلا يمكن تصبر إلاّ بمشيئة الله، فما قال: (ستجدني صابراً بطلاً لا أتحرك لا أتزلزل) أبداً ! وإنّما أسند أمره إلى مشيئة الله عز وجل.
ونبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام لما صار إلى الحضر والْتقى بالخضر قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا $قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا $وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا$قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا[الكهف:66-69]، فلا تستطيع أن تصبر على طلب العلم إلاّ أن يصبّرك الله بمشيئته سبحانه وتعالى.
إذا أردت السفر أو البقاء في مكان فقل إن شاء الله، ففي الصحيحين([2]) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم يفتحها، فقال: (إنا قافلون غدا إن شاء الله) فقال المسلمون: (نقفل ولم نفتح)، قال: (فاغدوا على القتال)، فغدوا فأصابتهم جراحات قال النبي صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا إن شاء الله فكأن ذلك أعجبهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم».
فهذا نبيّ الله محمّد عليه الصلاة والسلام يقول: «ننزل غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر»([3]).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث:
«قوله صلى الله عليه وسلم: «ننزل إن شاء الله غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» أمّا الخيف فسبق بيانه وضبطه وإنمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شاء الله» امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا[الكهف:23] ومعنى تقاسموا على الكفر تحالفوا وتعاهدوا عليه وهو تحالفهم على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب، وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا فيها أنواعا من الباطل وقطيعة الرحم والكفر، فأرسل الله تعالى عليها الأرضة، فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب فجاء اليهم أبو طالب فأخبرهم عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فوجدوه كما أخبر والقصة مشهورة قال بعض العلماء وكان نزوله صلى الله عليه و سلم هنا شكرا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء وعلى اظهار دين الله تعالى والله أعلم». اهـ
ما قال: (سننزل لأنهّم تقاسموا على الكفر وإنهّم تعارضوا في ذلك الموضع علينا وسنفعل وسنفعل..)، لا ! ولكن (إن شاء الله) !!
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي موسى –رضي الله عنه-: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ما شاء». فأنت تشفع شفاعة شرعية في موضعها ولا يستجيب المشفوععنده لشفاعتك إلاّ بمشيئة الله عزّ وجلّ.
ففي الصحيحين([4]) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة».
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث:
«قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة يدعوها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة». وفي الرواية الأخرى: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً». وفي الرواية الأخرى: «لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة». وفي الرواية الأخرى: «لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة».
هذه الأحاديث تفسّر بعضها بعضاً، ومعناها أن كلّ نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأمّا باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب.
وذكر القاضي عياض أنّه يحتمل أن يكون المراد (لكلّ نبي دعوة لأمته) كما في الروايتين الأخيرتين والله أعلم.
وفي هذا الحديث: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمّته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخّر صلى الله عليه وسلم دعوته لأمّته إلى أهمّ أوقات حاجاتهم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً»: ففيه دلالة لمذهب أهل الحقّ أنّ كلّ من مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإن كان مصراً على الكبائر، وقد تقدّمت دلائله وبيانه في مواضع كثيرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن شاء الله تعالى»: هو على جهة التبرّك والامتثال لقوله الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا $ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الكهف:23،24] والله أعلم». اهـ
 
قال تعالى: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39]، ومعنى ذلك أنّه يمحو ما يشاء ويثبت مما في أيدي الملائكة وعنده أمّ الكتاب لا يبدّل، قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ[ق:29].
 
ربّ العالمين يقول: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ[الفتح:27]، هذا آداب ! يعلّمنا الله عزّ وجلّ هذا الأدب وإلاّ فالله على كل شيء قدير، ومع ذلك يعلّمنا قول: (إن شاء الله)، إن شاء الله ﴿آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ.
 
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ $ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ $ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28،29].
 
قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].
وثبت من حديث كُرْز بن علقمة رضي الله عنه: أنّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: «أيمّا أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرًا، أدخل عليهم الإسلام. قالوا: ثم ماذا يا رسول الله ؟ قال: ثم تقع فتن كأنهّا الظلل. فقالوا: كلا والله إن شاء الله ! فقال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: «والذي نفسي بيده؛ لتعودن فيها أساود صبًا يضرب بعضكم رقاب بعض».
وعلّمنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كما في صحيح مسلم(975) أنّنا إذا زرنا المقابر أنْ نقول: «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقين، نسأل الله لنا ولكم العافية»، لا شكّ أنّنا لاحقون بهم لقول الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة[آل عمران:185]، وغيرها من الأدلة في بابها، لكن نذكر: (إن شاء الله) كما علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث:
«وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»: التقييد بالمشيئة على سبيل التبرّك وامتثال قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا $ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الكهف:23،24]». اهـ
 
فأضف النعمة إلى ربّك سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا[الكهف:39].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
«هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال و الولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: ﴿مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ﴾ ؛ ولهذا قال بعض السلف: (من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: ﴿مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ﴾) وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة». اهـ
 
       ففي البخاري(5734) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنهّا أخبرتنا أنهّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه «كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلاّ كان له مثل أجر الشهيد».
 
وإذا دعوت لمسلمٍ كالمريض فلا بأس، فإنّ المريض شفاؤه بيد الله دخل النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم دخل على مريض فقال: «طهور إن شاء الله، فقال المريض: طهور ؟ بل حمى تفور ! على شيخ كبير تزيره القبور، قال: فنعم إذاً»، والشاهد منه أن دعى له بالطهور من الذنوب وهو دعاء يتضمن الدعاء له بالشفاء إذا شاء الله سبحانه وتعالى شفاؤه، فلا يكون الدعاء هو الشافي ولاالدواء هو الشافي، فهذه أسباب، وإنمّا الشافي هو الله عزّ وجلّ، قال نبيّ الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ $ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ $ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ $ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ $ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ $ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ $ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ $ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ[الشعراء:75-82].
وأخرج البخاري(5743) ومسلم(2191) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منّا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما».
 
ففي صحيح البخاري(7473) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله».
 
ففي صحيح مسلم(2873) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنّا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال: فجعلت أقول لعمر أما تراه ؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله» قال فقال عمر فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤا الحدود الّتي حدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ! ويا فلان بن فلان ! هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا».
قال عمر يا رسول الله كيف تكلّم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهّم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا».
 
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً $ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا[الفرقان:45، 46].
 
       ثبت في سنن الترمذي(2875) وغيره، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أُبي بن كعب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أُبي» وهو يصلي، فالتفت أُبي ولم يجبه، وصلى أبي فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (السلام عليك يا رسول الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام، ما منعك يا أُبي أن تجيبني  إذ دعوتك ؟»، فقال: (يا رسول الله إني كنت في الصلاة)، قال: «أفلم تجد فيما أوحي إليّ ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾»، قال: (بلى ولا أعود إن شاء الله)، قال: «أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها ؟»، قال: (نعم يا رسول الله)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تقرأ في الصلاة ؟»، قال: فقرأ أم القرآن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من الثماني، والقرآن العظيم الذي أعطيته».
 
كما في الصحيحين([5]) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني فإن الله لا مستكره له».
ولا يقول: (اللهمّ اغفرني إن شئت، ارحمني إن شئت)، إنّ فضل الله واسع.
قال الإمام النووي رحمه الله:
«باب العزم فى الدعاء ولا يقل إن شئت.
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فليعزم فى الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطنى فإن الله لا مستكره له»، وفى رواية: «فإن الله صانع ما شاء لا مكره له»، وفى رواية: «ليعزم الرغب فإن الله لايتعاظمه شيء أعطاه».
قال العلماء «عزم المسألة»: الشدة فى طلبها و(الحزم) من غير ضعف فى الطلب، ولا تعليق على مشيئة ونحوها، وقيل هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة، ومعنى الحديث: استحباب الجزم فى الطلب وكراهة التعليق على المشيئة. قال العلماء سبب كراهته أنّه لا يتحقّق استعمال المشيئة إلاّ فى حقّ من يتوجّه عليه الإكراه والله تعالى منزّه عن ذلك، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم فى آخر الحديث: «فإنه لا مستكره له» وقيل سبب الكراهة أنّ فى هذا اللفظ صورة الاستعفاء على المطلوب والمطلوب منه». اهـ
ونسأل الله التوفيق لما يحبّه ويرضى
سجلت هذه المادة واعتنى بها في
24 / جماد الثاني / 1432 هـ
تمّ تفريغها تسجيلات دار الحديث بدمّاج


 
 

([1]) البخاري(2819)، ومسلم(1654).
([2]) البخاري(7480)، مسلم(1314).
([3]) أخرجه البخاري(7479)، ومسلم(1314).
([4]) البخاري(7474)، ومسلم(198).
([5]) في البخاري(6338) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي مسلم(2679) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه».